رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عادل درويش يكتب : موسم الخرافات في الصحافة العربية

بوابة الوفد الإلكترونية

إذا فحصت تغطية الفضائيات والصحف العربية لأزمة إقليمية طارئة، تكتشف مدى سيطرة الخرافات على العقلية الجماعية لبعض صناع الرأي العام في المنطقة، ومدى اتساع الهوة الهائلة التي تفصل وعيهم عن واقع القرن الواحد والعشرين.

أمامنا كارثة سيطرة إرهابيي داعش على مناطق شاسعة في سوريا والعراق والتطهير العرقي للطوائف الأخرى، والسيطرة على ثروات وأسلحة تهدد بمنحهم فرصة فرض همجية لم تشهدها المنطقة منذ غزو التتار المدمر لحضارتها في القرن الثالث عشر. وفي الوقت نفسه ليبيا تنحدر نحو مستنقع مشابه، لكن عقلية الصحافيين والمثقفين العرب ركزت معظم التغطية على غزة، وإشغال الرأي العام بها.
ورغم أهمية غزة إنسانيا، فإن المشكلة وضع قائم لم يتغير لنصف قرن، ولن يتغير كثيرا في حياة جيلنا؛ أما داعش وخطر الإسلامويين في ليبيا فسيغير تاريخ وجغرافيا وديموغرافيا المنطقة إذا لم يواجه بحسم، فلماذا لا يعيه الصحافيون العرب؟
أسباب متعددة لعدم توازن التغطية الصحافية مع الواقع؛ منها الكثافة بالنسبة للصحافيين الفلسطينيين واللبنانيين (مقارنة بالجنسيات الأخرى من بلدان أكبر حجما) في شبكات الفضائيات العابرة للحدود؛ ومنها سيطرة ذهنية آيديولوجية القومية العربية البعثية والناصرية (تاريخا أسبلت على مشكلة فلسطين، بقميص - عثمانية، قدسية صرفت طاقات الاحتجاج الجماهيري خارج حدود الحكم الديكتاتوري في بلدانهم)؛ لعل أهم الأسباب أن معظم الصحافيين العرب لا يتعبون أدمغتهم في البحث خارج إطار مشكلة فلسطين والعداوة مع إسرائيل (حتى صحافيو البلدان التي لها معاهدات سلام وعلاقة طبيعية بإسرائيل) هي الغذاء العقلي لنشاطهم الصحافي اليومي.
شبكات التلفزيون الإنجليزية والعالمية من أميركية وألمانية وروسية وأسترالية يطلبون تعليقاتي على أحداث المنطقة (من خبرة نصف قرن في الصحافة قضيت 35 عاما منها مراسلا في أفريقيا والشرق الأوسط وغطيت 11 حربا)، لكن فرصتي في التعليق على أحداث المنطقة في تلفزيون الإسكيمو تزيد على فرصة مماثلة في الـ«بي بي سي» العربية التي (كغيرها من معظم فضائيات لندن العربية) لا تستدعيني إلا للتعليق على السياسات البريطانية (غالبا السبب ليس عملي منذ 15 عاما كمراسل في برلمان وستمنستر وفي قلب دوائر الحكومة البريطانية، بل لأنهم قلما ما يصادفون صحافيين عربا لهم خبرة في هذا المجال).
استدعيت لهذه الشبكات مؤخرا للتعليق على استقالة وزيرة من المستوى الثاني (الوزارات المعروفة بالأقسام Departments أو Office كالمالية والداخلية والخارجية يرأسها 18 وزيرا - كلهم نواب برلمان منتخبون - يحضرون الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء كل ثلاثاء) ولا يحضره وزراء المستوى الثاني إلا عند الضرورة.
الوزيرة المستقيلة (البارونة سعيدة وارصي) لم تنتخب ولكن معينة في مجلس اللوردات (الشيوخ) أول امرأة آسيوية ومسلمة في منصب وزاري. عزت أسباب استقالتها إلى عدم إدانة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون للسياسة الإسرائيلية في غزة بقوة بلاغية واضحة.
الوزيرة وضعت استقالتها على الـ«تويتر»، قبل إرسالها لرئيس الحكومة (كما جرى العرف) الذي كان في عطلته السنوية مع الأسرة في البرتغال.
الوزيرة كتبت على «تويتر» استقالتها الثلاثاء والهدوء يعم غزة ولم يسقط قتيل أو جريح لأول مرة منذ شهر، فقد أعلنت هدنة الأيام الثلاثة وفق المبادرة المصرية (كانت حماس رفضتها يوم كان مجموع قتلى الجانبين أقل من تسعين)
أثارت المقابلات لديّ الشفقة على السعداء المغتبطين من الصحافيين العرب؛ معتبرين استقالتها انتصارا تاريخيا، ولطمة لرئيس الحكومة كاميرون «المنحاز لإسرائيل» مقارنة بالحكومة الفرنسية التي أدانت وشجبت إسرائيل بصوت لا يعلوه إلا صراخ أحمد سعيد في «صوت العرب».
من السذاجة المفرطة أن نصدق أن قضية سياسة خارجية يمكن أن تحتل أولويات رجل السياسة في الديمقراطيات الغربية.
السياسي في الغرب - خاصة الديمقراطيات البرلمانية - همه الأول هو الصوت الانتخابي الذي يعينه في منصب كنائب يتقاضى مرتبا محترما، أو يفصله منه. السياسة الخارجية يهتم بها مثقفو الطبقة الوسطى

وهم دون ثلاثة من عشرة من واحد في المائة من الناخبين. قراء صفحات السياسة الخارجية أقل من سدس القراء في الـ broadsheet أو الصحف الخمس الرصينة (التلغراف، التايمز، فايننشيال تايمز، الغارديان والإندبندنت) ومجتمعة لا توزع أكثر من مليون ونصف المليون نسخة، بينما التابلويد أو الصحف الشعبية (توزع عشرة ملايين) تنحصر تغطيتها للسياسة الخارجية على بضعة سنتيمترات في صفحة داخلية وغالبا تحت صورة نجمة إغراء أو بطل رياضي يقضي إجازة في الخارج أو جنود بريطانيا في أفغانستان.
غزة لا تقض مضاجع ناخب بريطاني بقدر ما يقلقه كيف سيدفع أقساط المنزل وفواتير الكهرباء.
تكرر هتاف ثلاثة ملايين متظاهر «يسقط.. يسقط حكم بلير» لشهور بعد حرب العراق ثم أعيد انتخاب حكومته مرتين لأن سياستها الاقتصادية أطربت جيب الناخب.
حاولت شرح الأسباب الحقيقية وراء الاستقالة التويترية في إطار المنافسة الداخلية في حزب المحافظين (جاء توقيت الاستقالة مع إعلان بوريس جونسون عمدة لندن نيته الترشح لمقعد في البرلمان تمهيدا لإلقاء قبعته في حلبة المنافسة على زعامة الحزب، وكان أول سياسي من المحافظين يمتدح الوزيرة ويأسف لاستقالتها دون انتظار رد فعل رئيس الحكومة كما فعل بقية الساسة). لكن المذيعة قاطعتني رافضة مناقشة الموضوع خارج إطار «الدعم المبدئي للوزيرة لشعب غزة»، وأضافت أن بريطانيا «معروفة» بانحيازها لإسرائيل.
كلمة «معروفة» هنا في إذاعة تبث على الهواء تعني حقيقة علمية مبرهنة كدوران الأرض حول الشمس... سمعت نفسي أكرر - في أربع محطات تلفزيونية: «هل تعرفين يا سيدتي ماذا قدمت فرنسا ذات القوة الحنجرية - عمليا لدعم الفلسطينيين؟» (لم تذكر الفضائيات العربية تبرع خادم الحرمين الشريفين بـ500 مليون دولار لوكالات غوث اللاجئين لمساعدة من شردتهم داعش من ديارهم ولأهل غزة). في صمت وبهدوء قدمت بريطانيا لغزة منذ اندلاع الأزمة الحالية 17 مليون جنيه (29 مليون دولار)، و13 مليونا (23 مليون دولار) للنازحين في العراق في شهرين فقط.
الفضائيات العربية لم يعجبها النموذج العملي لمساعدة الفلسطينيين ماديا (بريطانيا ثاني أكبر متبرع فردي بعد السعودية لمساعدة الفلسطينيين) وفضلوا التلويح «بوعد بلفور» كدليل مادي لا يقطعه الشك على انحياز بريطانيا لإسرائيل.
في المرة القادمة سوف «أزنق» المذيع أو المذيعة في «خانة اليك» (بتعبير لاعبي الطاولة) وسؤالهم على الهواء مباشرة عما إذا كانوا قرأوا كل عبارات خطاب اللورد بلفور للبارون روزتشيلد (وعد بلفور)، وسأحمل معي النص مكتوبا بالعربية بخط كبير لأضعه أمام الكاميرا أثناء محاورتي للمذيعين المتحمسين.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط