رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أحمد محمود عجاج يكتب: توني بلير والإسلام.. جدل لا ينتهي

أحمد محمود عجاج
أحمد محمود عجاج

أثار خطاب مبعوث اللجنة الرباعية الدولية لعملية السلام في الشرق الأوسط، توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، الذي ألقاه أمام مؤسسة بلومبيرغ أخيرا، جدلا ليس في بريطانيا، بل في عالمنا العربي والإسلامي، فلقي في بلده الانتقاد، ونال في عالمنا العربي.

وبالتحديد لدى شرائح ثقافية مهمة التأييد، على اعتبار أنه واحد من الذين كانت لهم أياد بيضاء في عملية السلام، ولأنه واحد من الذين يعرفون خطورة الإرهاب ليس على نقاوة الدين الإسلامي، بل على المسلمين وحتى العالم. أخذ بلير على الغرب (المتمدن) تقاعسه عما يجري في الشرق الأوسط، وأكد أن هذه المنطقة مهمة للغرب لأربعة أسباب: النفط والقرب من شواطئ أوروبا وإسرائيل والإسلام المتطرف. وبما أن المثقف العربي اعتاد على نغمة النفط وإسرائيل والقرب من الشواطئ الأوروبية، إلا أن نغمة ربط المنطقة بالإسلام المتطرف تُعتبر مستجدة، لأنها تستبطن قناعة بأن العرب هم الذين يحملون بذرة التطرف، ولذلك قال بلير ان «مصير الإسلاميين المتطرفين سيتقرر في تلك المنطقة»، ولم يقل في آسيا أو أماكن أخرى!
لم يخفِ بلير توجهاته في خطابه عندما قرر أن الصراع في الشرق الأوسط، كما أظهر الربيع العربي، هو بين الذين يحملون رؤية الحداثة بما تحمله من تعددية مجتمعية، واقتصاد حر، واحتضان للعولمة، وبين الذين يؤمنون بدين واحد هو وحده صحيح، وتفسير واحد يؤطر طبيعة المجتمع والاقتصاد السياسي. وينتقد بلير الذين يحملون هذه الرؤية لأنها تسعى في نهاية المطاف إلى إنشاء «مجتمع ثابت تحكمه نظريات سياسية غير قادرة على التغير، لأنها في جوهرها ثابتة»، ولهذا عدّ أن وصول هؤلاء إلى السلطة، يعني بقاءهم فيها إلى الأبد! ويستطرد بلير محذرا الغرب من هذا الخطر ويدعوه إلى أن يخرج من نكسة العراق وأفغانستان، وأن يقف دائما في صف الحداثيين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بدعوته الغرب إلى التحالف مع روسيا والصين لوقف جماح ما سماه «هذا الوحش الإسلامي الذي سيخرب الدنيا!»، ودعا الدول الحليفة في الشرق الأوسط إلى مراجعة برامج التعليم لكي لا تُخرِج أجيالا يؤمنون بهذه الأفكار الهدامة، ووصل به الأمر إلى حد التراجع عن مبادئه بدعوته إلى بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة لأن الأسد «بالمقارنة مع المتطرفين يبقى خيارا أفضل!».
ولكي لا نسترسل كثيرا في هذا الخطاب علينا أولا أن نتفق مع بلير على أن التطرف بمفهومه العام مدان، والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) حذّر من المغالاة، ودعا دائما إلى الاعتدال في كل شيء، وعليه فإن الإسلام يدين المتطرفين، وبالذات الذين يشهرون السيف في وجه الناس بلا حق، ويقتلون دون مسوغ. فالمتطرفون معروفون عند المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلى جهد، لكن التطرف كمصطلح واستخدامه في الخطاب السياسي هو الذي يثير الاختلاف، وهو الذي نختلف مع بلير كل الاختلاف حوله، فالمسلمون لا يرون أن إقامة مجتمع إسلامي تحكمه مبادئ الإسلام وقيمه تتعارض والحداثة، وحتى وإن تعارضت فالترجيح للإسلام، لأنه أولى أن يُتبع لاعتقاد المسلمين أنه من عند الله، وما عند الله خير وأبقى. كما أن وصفه المجتمع الإسلامي بالثابت وصف غير موفق، إن كان يقصد به جمود الإسلام وعجزه عن مجاراة التطور، أما وصف «الآيديولوجيا الإسلامية» المقصود به المبادئ التي وضعها الإسلام بأنها ثابتة، وثباتها يؤدي إلى جمود المجتمع، فهو مغاير للحق، ويدل على عدم معرفة بهذا الدين، وذلك لأن المسلمين يؤمنون أن الشريعة فيها الثابت وفيها المتغير، فما كان ثابتا يبقى حتى يوم القيامة وما كان متغيرا فهو كذلك. لكن بلير على ما يبدو يريد أن يجلب نظرية جديدة للدين تختلف عما نؤمن به، وهذا حقه في أن يرى ما يرى، لكن أن يقف على منصة ويدعو العالم إلى التكاتف لوأد أي فكر إسلامي يخالف نظرته، وتحت شعار مكافحة التطرف، لهو عمل يخالف في جوهره فكر بلير الديمقراطي الذي يؤمن بالتعددية.
والغريب كل الغرابة أن يتجاهل بلير «سجله غير الإنساني»، وبالتحديد مشاركته الفاعلة في الحرب على العراق، وهي الحرب التي فرّخت الإرهاب، وخربت منطقة الشرق الأوسط، فهو الذي قاد الحرب على العراق تحت شعار الديمقراطية وكان حصادنا مرا، وهو الذي شن الحرب على أفغانستان وكانت الثمرة أكثر مرارة. وبالتالي لم يستطع بلير أن يجعل العراق ديمقراطيا، بل جعله أسوأ مما كان عليه أيام النظام العراقي الأسبق، ولا جعل أفغانستان أكثر أمنا وسلاما. وعندما نقول إن بلير مسؤول عن تفريخ الإرهاب، فإننا لا نضرب بالرمل، بل نقول حقيقة ظاهرة للعيان. يقول البروفسور غريغوري غاوز، أستاذ العلوم السياسية، إن السبب الرئيس لانبعاث الإرهاب هو انهيار الدولة المركزية، وإنه كلما قويت الدولة المركزية تلاشى الإرهاب، بعبارة أخرى إذا كنا نريد أن نقضي على الإرهاب، فيجب على العالم الحر الذي يؤمن به بلير أن يدعم الدولة المركزية، لا أن يساهم في هدمها، وتركها مسرحا لمن شاء من دول ومنظمات وأفراد. كان الأحرى ببلير أن يتحدث عن انهيار الدولة وصعود الفئات المسلحة (non actors state) وكيف يمكن تقوية الدولة، لا أن يقترح

وصفات مروعة مثل دعوته لبقاء الرئيس الأسد بحجة أن المعارضة السورية تضم أطيافا متطرفة تشكل خطرا على مستقبل الديمقراطية. لم يتحرك قلب بلير لمئات الآلاف من القتلى في سوريا، ولا إلى البراميل المتفجرة التي تتساقط والتي فاق عددها كل أعداد قتلى الإرهابيين، بل كان جلّ همّه ألا يصل الإسلام المتطرف، حسب وصفه، إلى السلطة في دمشق. لم يكلف بلير نفسه عناء البحث الجدي في الأزمة السورية، لأنه لو فعل لعرف حقا أن المعارضة ليست متطرفة، وأن المتطرف حقا هو من سمح للتطرف أن يقوى ويشتد عوده في سوريا.
المشكلة مع بلير أنه لا يختلف عمن يهاجمهم، فهو يضع نصب عينيه مصلحته ويتغافل عما عداها. هو ينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا يمانع في أن يتحالف مع روسيا التي دمّرت عاصمة الشيشان، وقتلت الآلاف من المسلمين، لأنهم فقط أرادوا الاستقلال عن روسيا. ولا يجد غضاضة أن يقاتل التطرف إلى جانب الصين، وهو يعرف ما تعانيه الأقليات هناك، وبالتحديد في إقليم سنكيانغ، حيث تمارس الدولة - حسب ما أوردته صحيفة «الإيكونوميست» - العنف بحق مواطنيها المسلمين، علاوة على حرمانهم من أبسط الحقوق ومنها تأدية الصوم، وتعليم أولادهم معتقدهم الديني.
كل هذه الجرائم لا تعني شيئا لبلير، لأن المعركة عنده هي بين الخير والشر، وبالتالي لا بد من الاستعانة بالشر الأصغر لدفع الشر الأكبر. لا يهم بلير ما إذا كان هذا مخالفا ومجافيا للواقع، ومتعارضا تماما مع قيم الديمقراطية والحداثة، بل ما يهمه هو الحشد لمعركته التي يراها مصيرية حتى ولو أنه خالف أبسط قواعد الموضوعية في الطرح وسياق الأدلة، وكان آخرها تحويل ما نقلته صحف بريطانيا عن مؤامرة ينفذها مسلمون لغزو النظام التعليمي في بريطانيا، إلى حقيقة لا خلاف فيها، مع أن القضية مجرد اتهام متهافت، ورغم إيمانه (اللفظي) بالقاعدة الديمقراطية التي تقول: «المتهم بريء حتى تثبت إدانته».
المدافعون عن بلير في عالمنا العربي قرروا هم أيضا معركتهم مع ما يوصف بـ«الإرهاب» واختصروها في رؤية بلير، ولهذا رأينا من يدافع عنه بلا حجة، ويرى أن لهذا الرجل أيادي بيضاء، ناسين أنه هو الذي إبان حكمه عاش تحت حمايته من يعدّهم إرهابيين، ولم يحرك ساكنا ضدهم، بحجة الديمقراطية وحرية التعبير، متجاهلين كذلك الخلط في خطابه، وكونه من أكبر الداعمين لإسرائيل، وقد عدّها في خطابه «قلعة الديمقراطية» في الشرق الأوسط، ورأى أنها عنصر من العناصر الثابتة في اهتمام الغرب بالمنطقة، ولم نرَه، ولو مرة واحدة، حازما معها عندما كان في السلطة!
المشكلة مع بلير ليس عداؤه للمتطرفين، لأننا نتفق وإياه على هذا العداء مهما كان لونه ومعتقده، ولكن المشكلة مع فهمه القاصر للدين، ولأنه يرى أن القضية لا تتعلق بالتطرف بل تتجاوز ذلك إلى «الإسلام» وما يستبطنه من مبادئ وقيم، ولهذا كان اقتراحه بإعادة قراءة هذا الدين، وضرورة تغيير المناهج التعليمية حتى يهدأ باله، ويرتاح العالم من هذا الخطر.
والمشكلة كذلك مع بلير هي أنه على الرغم من أن كثيرين في بريطانيا والعالم يعدّونه «مجرم حرب»، نراه مُصرّا على أنه رجل خير، ولهذا يجوب الأرض، يلقي الخطب والمواعظ، ولا يرى خطرا في العالم سوى ما كبُر في نفسه، واستفحل، وظن أنه واقع بأهله، فأسرع الخطى، وظن أنه غير واصل، فأهوى (لوّح) بثوبه: أيا قوم انتبهوا..

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط