عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبد العزيز المقالح يكتب : موت على رصيف الشارع

بوابة الوفد الإلكترونية

 

لا أعرفه من قريب أو بعيد، ذلك هو الفنان السوداني الذي وجدوه منذ أسابيع جثة هامدة على رصيف أحد شوارع القاهرة في مصر العربية

. لكن مأساته أرّقتني ولابد أن تكون قد أرّقت الكثيرين ممن تابعوا حكاية موته والأسباب التي أدت إلى وفاته بهذه الصورة المؤلمة، وما يعكسه الحادث الذي يكشف بوضوح ما يحدث في الوطن العربي من عجائب مؤسسية ومؤسفة، وما يحدث على أرضه من احتقار للفن وتهميش للإبداع، وما يزلزل الوجدان من قتل لضحايا أبرياء بالجملة لا ناقة لهم ولا جمل فيما تقترفه السياسة والسياسيون من أخطاء وخطايا . وما حدث للفنان السوداني "محمد بهنس" (43 عاماً) ليس سوى نموذج واحد من مئات النماذج لمبدعين يموتون يومياً من الجحود والإهمال قبل أن يموتوا من الجوع والبرد القارس .
ما عرفته عن الفنان الراحل أنه لم يكن فناناً تشكيلياً فحسب، بل كان شاعراً وكاتب قصة وعلى دراية بالموسيقى، وهذا يعني أنه كان متعدد المواهب لكن واحدة منها لم تنقذه من الموت على الرصيف بعد أن هجر المنزل الذي كان يعيش فيه لأنه لم يسدد الأجرة، فاضطرته ظروفه القاسية إلى أن يقيم في الشوارع والميادين إلى أن لفظ أنفاسه على واحد من أرصفتها الباردة . وأتصور هذا الفنان المبدع وهو يقاوم الجوع والبرد في شوارع القاهرة ولاعتزازه بنفسه وبفنه وأحلامه رفض أن يمد يده متسولاً إلى أن سقط على الأرض . ربما يكون قد تلفت يميناً ويساراً، وربما رفع هامته نحو السماء باحثاً عن منقذ يأتي من خلف السحب الشتائية الكثيفة لكنه لم ير أحداً، فاضطجع على تراب مصر التي أحبها ونام نومته الأبدية تاركاً لغيره ممن يعرفون تفاصيل مأساته أن يتخيلوا ما كان يريد أن يقوله في تلك اللحظات الفارقة بين الحياة والموت .
وأظنه كان في تلك اللحظات وهي الأخيرة يفكر في مأساة وطنه الأول السودان المشطور، الذي يعاني في شماله حروباً مزمنة، وفي جنوبه من حروب طارئة أوجدها الانفصال وما يتبعه دائماً من منازعات ومحاولات انشطارية ودعوة شيطانية إلى تجزئة المجزأ وما يرافقها من تصفيات دموية ينفذها الأخوة الأعداء بعد أن نجحوا في تحقيق فصل الجزء عن الكل ولم يبق

أمامهم سوى أن يتقاسموا غنائم هذا الجزء المنفصل .
وبما أنه لم يتم لهم تحقيق ما أرادوه إلا بمزيد من الانفصال فليكن ذلك هو هدفهم، بعد أن نجحوا في الخطوة الأولى ولن يعدموا الوسيلة التي تفصل الجزء عن الجزء، ومن يشارك في تدمير وطنه مرة واحدة فإنه لن يتوقف عن مواصلة فعله القبيح ثانية وثالثة، والتدمير عادة أسهل من البناء بما لا يقاس . ذلك بعض ما أظن أنه كان يجول في خاطر الفنان الراحل عن وطنه الأول السودان قبل أن يلفظ أنفاسه فوق الرصيف في ليلة كئيبة شديدة البرودة .
أما ما كان يجول في خاطره وفق ظني، عن وطنه الأكبر الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، فقد وصلت معاناته إلى درجة كافية لتجعل قلب الفنان الحسّاس يتوقف عن النبض . أوضاع مصر العربية ليست كما يرام، وما يحدث في سوريا يشيب له الولدان، وكذلك ما يحدث في العراق، ولبنان الجميل الذي لم يعد جميلاً، واليمن السعيد حيث يتم الإجهاز على أحلامه في السعادة بأيدي أبنائه . والمشهد الليبي يثير الأسى، وليست بقية الأقطار العربية بمأمن من التآكل والاضطراب .
أخيراً: يقول عدد من أصدقاء الفنان "محمد بهنس": "إنه صاحب تجربة متميزة في الفن التشكيلي، وإنه شارك في معارض فنية عدة في مصر، وفرنسا، وألمانيا، وأديس أبابا وغيرها، وإنه كان يتمتع بموهبة استثنائية في الكتابة والموسيقى، ولهذا مات على الرصيف" .

نقلا عن صحيفة الخليج