رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نسيم الخورى يكتب : لسان العرب و”الانحطاط الثاني”

نسيم الخورى
نسيم الخورى


كيف لنا، في زمن التحاور بالأسلحة، أن نوصّف الصورة التي تظهّر العرب والمسلمين في أزمنة ما بات يعرف ب"التوك شو"،

أو البرامج الحوارية التي لا يتحاور عبرها السياسيون والإعلاميون ولا يتجاورون لا بالفكر ولا بالموقف ولا بالسلوك ولا بالآداب ولا بالقيم، بل يتقاتلون بألسنتهم في مساندة القتل والتخريب؟ لن أجهد أحداً في البحث عن المعنى الحرفي لهاتين الكلمتين المعرّبتين "توك شو"، اللتين أخرجتا ألسنة السلطة والحكم في بلادنا بتفرّعاتها الفائقة التشرذم، وتدهورت بها إلى انحداراتٍ مخيفة بلغت أعماق الحضارة التي قد نطلع منها كباراً، لكنّنا نلقّمها للأجيال راسمين مستقبل بلادنا في معاجن من الحكي واللتلتة وتبادل الشتائم والكيديات مباشرةً على الهواء، وهي حفلات معيبة يتمّ اقتطاع مشاهدها المخجلة للترويج لسلسلة من البرامج اللاحقة المماثلة، بهدف الجذب وصيد الجمهور .
ومع يقيني بأنّ اختلاطاً كبيراً وتمازجاً قائماً يصعب تفكيكه بين ألسنة "متفاصحي" العرب وكلامهم ولغتهم وثقافتهم وحضارتهم، تحدوني رغبة عارمة في البحث عن لسان العرب المشتّت لا كما استغرق ابن منظور حياته في البحث عنه، بل بتحريك القلم في الجروح الملتهبة بين العرب اليوم، وفي رسم ألسنتهم إذا ما اتّفقنا بأنّ الإنسان لسان واللسان ثقافة وحضارة وتواصل أزمان بدلاً من أن تظهر نوعاً من الفلتان العربي والإسلامي في تحوّلاتهم وثوراتهم السريعة وتجاذباتهم وتنافرهم وارتباطاتهم وانفعالاتهم . طبعاً لسنا بحاجةٍ إلى التذكير بأنّ الكلمة حلّت في البدء كفاتحة للثقافة وحضارة النبل والارتقاء على الأرض .
فاللسان كيفما قلّبته يحمل معنى السلطة والكلمة كيفما سقتها تدل على القوة والشدّة والجروح التي يمكن أن تورثها لأنّها ليست سلطة وحسب، بل إنّها مثل السيف تجرح وتدمي وتقاتل وتخرّب، وقد تعثّر مؤتمرات الصلح ونواياه واستراتيجياته المنتظرة على أبواب جنيف أوغيرها من المدن .
يكفينا،إذن، استعراض مسؤولية الألسنة العربيّة السّليطة أي الطويلة التي تتجاوز السيوف، فتملأ حاضر العرب لندرك المنحدرات الهائلة البادية في الأفق . لقد سقطت الفصاحة وغابت الحجج وتراجع الزمن الذي كان يشتق المرء حبره وسلطانه من السلّيط بمعنى الزيت الذي يرشح بمعاني الدبلوماسية والدماثة، وما عدنا نتذكّر ذاك المصفّى العتيق الذي كان أباؤنا وأجدادنا يحملونه في أسرجتهم ويمضون به قبل الشموس في زوايا البيوت العتيقة فيضيء في عتمة الرياض وبغداد ودمشق وبيروت كي لا نعدّ عواصم العرب والمسلمين وحضورهم في الدنيا . أليس اللسان مصباح كلّ إنسانٍ به نقيس حدّته أو وضوحه أو إضماره في قهر الآخر ودحره ودحضه وتحقيره وشتمه والهدف الأغلى قياس رجولته ومسؤوليته الذكورية؟ أليس في حركة اللسان الموزون فعل تنوير أو إضاءة المبهم وإيضاحه حيث تحضر علوم الحوار وأصوله، والمعرفة والهويّات تبرز مثل سلطان من الحجج والإقناع، وخصوصاً عندما ينبت الكلام، شفوياً أو مكتوباً كفعل تنوير يقهر الظلام ويدحض الجهل الكامل أو عدم المعرفة ويقرّب الشعوب والدول إلى الدفء والتآلف والحضارة؟ . قل يقرّبها أكثر من سلطات الخالق فلا ينسيها أنّ العربية ما زالت تستمد ألقها من الله بعدما خرجت عنه شعوب وأنظمة وحضارات وألسنة أخرى مثل اليونانية واللاتينية . من الخطأ أن نركن إلى اللغة كائناً مثالياً مستقلاً عن البشر وألسنتهم، لأن اللغة تمد جذورها في أعماق الضمير الفردي الذي هو ليس إلا عنصراً من عناصر الضمير الجمعي الذي يفرض قوانينه على كل فرد من الأفراد . وعلى هذا، فصقل الألسنة والأحاديث ليس إلا مظهراً من مظاهر تطور الجماعات، وإن دور الدول ينتهي حتماً حينما نعلم أن الألسنة باتت لعباً تتقاذفها القوى العالمية والاجتماعية وردود فعل التاريخ المغمّس بالمصالح الآنيّة . قد يكون "لسان العرب" من أغنى الآثار العربية الذي تستوقفنا تسميته في هذا السياق المتهاوي، كما العديد من أنظمتنا اليوم، عندما ساوى بين اللسان واللغة في الاستعمال والمعنى دون أيّ تمييز واضح بينهما

. وإذ يميّز الفرنسيّون كلمة Langage ، مثلاً، التي يقابلها في العربية كلمة "لغة" عن كلمة Langue التي تعني في العربية "لساناً"، فإنّنا نلحظ أن الكلمتين مرتبطتان بكلمة Lang التي لا معنى لها على الإطلاق، لكنها قد تقرُب تلفظاً من الفعل "لغا" واللغو بالعربية هو رمي الكلام قشوراً فوق الميادين الواسعة العربيّة، بما يجعل اللسان سابقاً للفكر وكأننا نمارس، غير واعين، سلوك التلذّذ الخفيف بالركون إلى الشفاهية في التعبير . كان اللسان عاماً وكانت اللغة كنزاً راكداً تشرح مقدار تقدم العرب وحضارتهم، وأصبح اللسان شاملاً كل شيء في ارتجالياته مع انحسار اللغة التي باتت شقيقة الكلام في التوجه والخطاب المعاصر . وإننا نميل، في هذا المجال، إلى اليقظة الحديثة لمسؤولية اللسان حيث اللغة باقية النشاط النابع من استعداد الإنسان لممارسة شخصيّته وحضوره . حذار، قد يدخل اللسان في دائرة اللغة في كبوات الأمم، لكنها لا تدخل في دائرته لأنها أوسع منه أو أنها تتضمنه . فاللسان هو الكلام الذي ينطق به كل متكلّم، وترتبط اختلافات النطق بالفرد والمدينة والوطن والموقف والطائفة والمذهب والمزاج، لكنّه يبقى اللغة من دون الكلام أو هكذا ننتظر منه . واللسان مؤسسة اجتماعيّة أو منظومة قيم، لا يتمكن الفرد وحده من إيجادها أو تغييرها لأنّها تعكس الوجه الاجتماعي والأخلاقي للّغة . يبدو الكلام، في مقابل اللسان، عملاً فردياً، آنياً وانتقائياً قائماً على مجموعة من الصيغ والتركيبات التي تسمح للمتكلّم باستعمال لسانه تعبيراً عن شخصه حديثاً أو خطاباً تعميه الصور والعيون الشاخصة إليه . من المؤكد، أنه لا يمكن الخلط بين نبرة الشخص واللسان لأنّ كلام الفرد بالصراخ أو بصوت عالٍ أو بالضرب، لا يبدل في مؤسسة اللسان ومنظومته، بل في مؤسّسات الحضارة . وأهمّ ما في المسألة هو تركيب الكلام بالفكر حيث لا تفكير من دون لغة .
هكذا تمحو مهرجانات "التوك شو" وسلطاتها المتفشيّة على أكثر من مستوى، المقولة الأرسطيّة الرائعة التي لم يندرج اللسان فيها إلاّ استطالة للتفكير الذي يفرز منطقه والذي منه نستخرج قوانين الكلام وتأخذ الهويات ومعها الأوطان أوزانهم والحكّام كراسيهم . هذا الافتراق الواضح بين فكر العرب وألسنتهم وكلامهم ولغتهم المتداخلة هو الملامح التي نراها تراكم مجدّداً عصور "الانحطاط الثاني" الذي لا يعنيه سوى الضوء والاتصال المشحون بسلطات مرضية فردية واجتماعية، فتبدو الحضارة تستمد سلطتها من سلطات متكلّميها، ويبدو هؤلاء يكسون ألسنتهم حللاً وأداة لتحقيق سلطاتهم الفردية في خرائب أوطانهم .
نقلا عن صحيفة الخليج