عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبدالحسين شعبان :جراح الذاكرة والإفلات من العقاب

بوابة الوفد الإلكترونية



مضى نحو ربع قرن تقريباً على الفصل المأسوي الأخير للمجابهة في رومانيا، حين لوحق قائد الحزب الشيوعي الروماني ورئيس الدولة تشاوشسكو، وأُعدم بعد محاكمة سريعة، مثلما قتل عدد من الأشخاص القياديين في حينها، ويبدو أن هذا الثمن، ولاسيّما سيناريو المحاكمة والعقوبات التي تلتها كان كافياً لكي تنفتح صفحة جديدة من التطور في رومانيا في أعقاب الحقبة الشيوعية التي دامت ما يقارب الأربعة عقود ونصف العقد من الزمان .

وبقدر ما شهدت بعض تجارب العدالة الانتقالية تشدداً لدرجة الانتقام والثأر والكيدية، فإن هناك من يعتقد أن التجربة الرومانية شهدت تسامحاً كبيراً وصل إلى درجة التهاون أحياناً، والإفلات من العقاب، وهو الأمر الذي يكاد يشمل بولونيا وهنغاريا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وإلى حد ما الاتحاد السوفييتي السابق، مع بعض الاستثناءات، خلافاً للتجربة الألمانية التي عرفت فقه القطيعة، في حين أن التجارب المذكورة كانت أقرب إلى فقه التواصل، عدا التجربة اليوغسلافية التي كانت ساحة حرب وتقسيم وعنف لا مثيل له .

لقد ظلّت الذاكرة الجمعية للناس في رومانيا تنكأ الجراح بين حين وآخر، خصوصاً وأن الملاحقات والاتهامات بالارتكابات الجسيمة التي شملت 617 ألف سجين سياسي، لقي حتفه من هؤلاء نحو 120 ألفاً في المعتقلات، في حين أن من تم استهدافهم لم يكن إلاّ عدداً محدوداً من المسؤولين السابقين وفي مقدمتهم الديكتاتور الأسبق تشاوشسكو وزوجته وعدد قليل من مساعديهما، خصوصاً عن بعض الجرائم ضد الإنسانية، ولاسيّما جرائم التعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج القضاء وغيرها .

وتم اكتشاف مقبرة جماعية مؤخراً، الأمر الذي أثار الكثير من الأصوات التي ارتفعت تدعو إلى مساءلة المرتكبين، خصوصاً الذين لا يزالون أحياءً وضرورة عدم إفلاتهم من العقاب، وقد بدأت السلطات الرومانية في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2013 بتوجيه تهم ضد 35 شخصاً في قائمة تم تقديمها إلى المدعي العام، من جانب معهد التحقيق في الجرائم الشيوعية للعهد السابق وذكرى المنفى الروماني (يوليو/تموز 2013) . وتقدّمت هذه المنظمة التي أسستها الحكومة الرومانية العام 2006 لتولي أمر التحقيق في جرائم الفترة السابقة، ووجهت أمر الاتهام إلى شخصيتين وصفتا بالوحشيتين، وهما الكسندر فيزنسكو مسؤول السجن سابقاً، وإيون فيسيور قائد معسكر الأشغال الشاقة .

وإذا كان هدف تحقيق العدالة مشروعاً وسلمياً، فإن هناك قلقاً مشروعاً بدأ يتسرب إلى بعض أجهزة الأمن السابقة وبعض مفاصل الدولة والمجتمع، خصوصاً من احتمال امتداد المساءلة عن جرائم الفترة السابقة إليهم، الأمر الذي سيؤدي إلى انقسام داخل المجتمع، خصوصاً أن حجم المرتكبين كبيراً، وقد تركت مثل هذه المسألة انعكاسات سلبية على بعض البلدان، مثل الأرجنتين، حيث اضطرّ الرئيس الأرجنتيني ألفونسي إلى إصدار عفو عام ووقف الملاحقات ضد المرتكبين .

جدير بالذكر أن الحزب الشيوعي الروماني حكم البلاد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولغاية العام 1989 واستخدمت أجهزة الأمن أنواع التعذيب والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان، الأمر الذي قد تشمل القائمة عشرات الآلاف من الأشخاص، حتى إن اقتصرت الآن على 35 شخصاً من أصحاب التاريخ المعروف بالانتهاكات، وهؤلاء جميعاً تركوا وشأنهم، بما فيه استمرار تقاضيهم رواتبهم وامتيازاتهم .

ومثلما يشعر الكثير من ضحايا الأنظمة السابقة، بأنهم لم ينصفوا، سواء في العراق أو ليبيا أو مصر أو تونس أو اليمن أو غيرها، فإن الأغلبية الساحقة من ضحايا النظام الروماني لديهم مثل هذا الشعور، ويخاف كثيرون من فقدان الذاكرة الجماعي، الذي يشارك فيه بعض رجال السياسة الجدد المستفيدين من استمرار الوضع، وهو ما سيؤدي إلى الإفلات من العقاب الذي كان الظاهرة الأكثر

حضوراً، خصوصاً أن بعض المسؤولين اليوم يتحدّر من تلك الحقبة السياسية، ولا سيّما أواخر حكم تشاوشسكو، كما يخشى البعض من استبعاد مساءلة القطط السمان والرؤوس الكبيرة، والاكتفاء بملاحقة موظفين صغار أو من كانوا ينفذوا الأوامر من مرؤوسيهم الذين يتم إغفال ملاحقتهم .

وأثيرت في الفترة الأخيرة انتقادات على اقتصار الملاحقة أو المساءلة أو كشف الجرائم للفترة الأولى من الحكم الشيوعي (في الخمسينيات والستينيات) في حين أن جرائم الفترة الأخيرة من حكم الديكتاتورية يتم غض النظر عنها، ولعلّ توجيه تهمة الإبادة الجماعية تثير التباسات كثيرة، منها أن محاولات القهر السياسي والقضاء على العدو أو الخصم السياسي تختلف عن محاولات التطهير العرقي والديني والطائفي، ومن جهة أخرى فإن إثبات تهمة الإبادة الجماعية أصعب بكثير من التهم الأخرى، وقد تؤدي إلى تبرئة المتهمين وتسهم في إفلاتهم من العقاب، وهو ما يمكن الطعن به من خلال المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراستبورغ، ولذلك يقتضي التركيز في مثل هذه الحالات، سواءً بالنسبة لرومانيا، أو في البلدان الأخرى التي شهدت تجارب العدالة الانتقالية بما فيها بعض البلدان العربية على الجرائم ضد الإنسانية، ولا سيّما التعذيب والاختفاء القسري والاغتيال خارج القضاء وغيرها .

وكان تقرير الأمين العام للأمم المتحدة (أغسطس/آب 2004) حول سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع وما بعد الصراع، قد تعرّض إلى ربط العدالة الانتقالية بالسلام والديمقراطية، وذلك أن العدالة والسلام والديمقراطية هي أهداف لا يمكن استبعاد أي منها وبينها علاقة عضوية لا انفصام بينها، فالعدالة الانتقالية تشمل جميع العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهّم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة، سواء كانت آليات قضائية ومحاكمات الأفراد والتعويض وتقصي الحقائق والإصلاح الدستوري وفحص السجلات الشخصية للكشف عن التجاوزات والفصل فيها واقترانها معاً .

وهي تساعد على إثبات الحقيقة بشأن الماضي ومحاسبة مرتكبي حقوق الإنسان، وتوفر منبراً للضحايا وتحفّز على النقاش العام وتثريه وتوصي بتعويضات الضحايا وجبر الضرر وتساعد على الإصلاحات القانونية والمؤسسية وتساعد على التحوّل الديمقراطي .

إن الحق في عدم الإفلات من العقاب، يعني الحق في معرفة الحقيقة، والحق في العدالة والحق في جبر الضرر، والحق في حفظ الذاكرة، ولعل الإمام علي هو من قال “الحق لا يبطله شيء” .
نقلا عن صحيفة الخليج