رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

خليل علي حيدر يكتب العرب.. بين ثلاثة تيارات

خليل علي حيدر
خليل علي حيدر

كم من وطن مزدهر رغم اختلاف اللغات والأديان وكم من أوطان تعاني الأزمات بسبب تعدد الأديان أو اللغات كانت القضية الأساسية للقوميين

«الوحدة العربية» بأي ثمن وبأي وسيلة بما في ذلك استخدام القوة
تنازعت آمال الشعوب العربية على امتداد القرن العشرين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، ثلاثة اتجاهات ومطامح: «الدولة الوطنية القطرية»، «الوحدة العربية»، و«الجامعة أو الاتحاد الإسلامي»، وإعادة بناء الخلافة إن تيسر ذلك.
وتحكمت هذه التطلعات «الثلاثية الأبعاد» بالفكر السياسي العربي السائد، وأثرت بقوة في الثقافة السائدة والأحزاب والمفكرين والعقل السياسي العام للجمهور، إلى ستينيات القرن، عندما تراجعت الطموحات القومية بعد فشل الوحدة المصرية- السورية (1958 – 1961)، وانتكاسة يونيو 1967، ورحيل الزعيم جمال عبدالناصر 1970، فتراجع التيار القومي بقوة لمصلحة اتساع التيار الديني من جانب، والواقعية السياسية من جانب آخر، وإن كانت المطالبة بعودة الخلافة أو توحيد الأقطار ذات الأغلبية الإسلامية غير مطروحة اليوم بشكل جاد وواضح من قبل حتى الإسلاميين وأحزابهم.
أقنع العرب أنفسهم لفترة طويلة، ولايزال البعض كذلك، بعدم وجود أي تناقض أو تعارض بين المطالب أو الأهداف الثلاثة، بل اعتبر الفكر السياسي العربي السائد أن الدولة الوطنية مدخل للوحدة العربية ثم الانتقال للوحدة الإسلامية وربما عودة دولة الخلافة إن أمكن. وقد أدّت هذه الفكرة إلى انقسام القوميين إلى فريقين، أحدهما وحدوي عروبي يؤمن بالعلمانية أو الديموقراطية الليبرالية، ولا يرى بأساً في اقتباس الأفكار الغربية، وكان في مقدمة هؤلاء المسيحيون العرب، والثاني الأوسع انتشاراً، كان يرى في تكتل العرب تمهيداً لتوحيد المسلمين واستعادة الأمة العربية لقيادة الخلافة إن أمكن، وضمن هذا التيار معظم المسلمين العروبيين.
وفي مصر، حيث كان التيار القومي في أضعف حالاته مقارنة بالتيار الديني، وحيث شهدت البلاد انتشار دعوة «الإخوان المسلمين» قدمت أفكار مرشد ومؤسس الجماعة «حسن البنا»، إطاراً مقنعاً للكثيرين في فهم العلاقة بين الوطن والوحدة العربية القومية، ووحدة الأمة الإسلامية.
فالوطن حسب رأيه، «في عرف الإسلام يشمل القطر الخاص، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، فكلها للمسلم وطن ودار، ثم يرقى إلى الدولة الإسلامية الأولى التي شادها الأسلاف بدمائهم ولاتزال آثارهم فيها، وكل هذه الأقاليم يُسأل المسلم عنها بين يدي الله إذا لم يعمل على استعادتها، ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعاً». [جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، 1937/1/12، ورسائل البنا نحو النور، ص62].
وفي رسالة أخرى من رسائله، «دعوتنا في طور جديد»، يقول: «المصرية لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها. إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض. ومصر بلد مؤمن تلقى الإسلام تلقياً كريماً وذاد عنه وردّ عنه العدوان وأخلص في اعتناقه، وهو لا يصلح إلا بالإسلام ولا يُداوى إلا بعقاقيره ولا يطبّ له إلاّ بعلاجه. والعروبة أو الجامعة العربية، لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، فالعرب هم أمة الإسلام الأولى وشعبه المتخيَّر، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن كل شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا. وبذلك نعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش على المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة ويوحد بينها اللسان». [الرسائل، دار الشهاب، ص112 – 114].
وبينما كان المرشد البنا والإسلاميون وكذلك القوميون المتدينون من عموم العرب المحافظين، يعطون الدين والإسلام مكانة خاصة في مسعى توحيد العرب، كان مفكر القومية المعروف «ساطع الحصري» لا يرى في الدين عاملاً في تحديد الهوية القومية للإنسان العربي. وكان الحصري متأثراً بالمدرسة القومية الألمانية، والأمة عنده تقوم على شيئين لا غير، هما اللغة والتاريخ. ولم يكن ينكر تأثير الدين في المشاعر الإنسانية، لكن «الدين لا يمكنه بحد ذاته أن ينشئ جماعة سياسية، بل بوسعه فقط أن يقوّي الجماعة التي تكون قد نشأت. ولما كان وجود الأمة يسبق منطقياً وجود الجماعة الدينية، فليس من علاقة جوهرية بين الأمة وبين دين معين من الأديان».
ويضيف الحصري في تحليله قائلاً: «نعم، كان نشوء الأمة العربية، من الوجهة التاريخية، متصلاً اتصالاً وثيقاً بالإسلام، إلاّ أن العرب لا يشكلون جوهرياً أمة الإسلام. فهم يبقون عرباً حتى لو لم يبقوا مسلمين. وعلى هذا، فالمسيحيون الناطقون بالضاد عرب كالمسلمين وبالمعنى ذاته بالضبط، ويمكنهم أن يكونوا عرباً من دون أن يتخلوا عن أي شيء من تراثهم الديني أو أن يقتبسوا تراث الإسلام. والواقع أنهم لم يستيقظوا على قوميتهم العربية إلا عن طريق تراثهم الديني، إذ إن قوميتهم بدأت بنضال العرب الأرثوذكس للتخلص من السيطرة اليونانية، ونضال الكنائس الشرقية المتحدة مع روما لمقاومة اجتياح العادات والطقوس وأساليب التفكير اللاتينية كنائسهم». [الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، بيروت 1977، ص374 – 375].
إلا أن الحصري كان يرى في الشعور القومي نفس ما يراه الإسلاميون مثلاً في الدين: «فالمجتمعات السياسية تنشأ في نظره، عن ثلاث عواطف: عاطفة القومية، وعاطفة القومية الإقليمية، وعاطفة الولاء للدولة. لكن أهمها الأولى، إذ هي التي لعبت، منذ بدء القرن التاسع عشر، دوراً فعالاً في خلق الوطنية وانشاء الدول. فالوطن بالنسبة الى الانسان الحديث، هو الارض التي يعيش فيها ابناؤه.
وحق الدولة في ولاء المواطن لها قائم على كونها تجسِّد ارادة الامة». واذا كانت مشكلة الاسلاميين ان المسلمين يعتنقون دينا واحدا ولكن اقطارهم متفرقة متباعدة، فإن مشكلة الحصري والتيار القومي ان العرب امة واحدة مفتتة الاوطان.
«فقد يعيش جميع ابناء الامة الواحدة في «الوطن» الواحد، ولا يقطن فيه سواهم، فيكون الوطن بكامله ارض الدولة الواحدة، وفي هذه الحالة يكون المجتمع مستقرا سياسيا، كما تكون الافكار والمشاعر السياسية مستقرة ايضا، فلا صراع ولا التباس ولا تساؤل ولا توزع في الولاء. اما عندما لا يتوافر ذلك، فقد تتعقد الافكار السياسية وتلتبس على اهلها وينشأ عن ذلك انقسام في المعتقدات السياسية قد ينذر بالخطر». (المرجع نفسه، ص372). ولا يمكن بالطبع حسم الحوار او السجال بشأن علاقة الدين واللغة بقيام الامة واستمرارها في مقال محصور. فالتجربة السياسية والتاريخية للانسانية قد تزود الطرفين بالادلة المؤيدة والمعارضة بلا نهاية. وكم من وطن مزدهر رغم اختلاف اللغات والاديان، وكم من اوطان تعاني الازمات والانقسامات بسبب تعدد الاديان والمذاهب او اللغات، ولعل العولمة وثورة الاتصالات والمخاطر التي تهدد الكرة الارضية تعمل في النهاية على التقريب بين البشر!
انشغل العرب فترة طويلة ولا يزالون بتحديد ماهية «الأمة»، التي جعلوها محور نقاشهم: هل هي جماعة الناس والشعوب التي تجمعهم جوا مع اللغة والتاريخ وربما عوامل وروابط اخرى، فتكون «الامة العربية» هي التي تجمع العرب، ام ان الامة المنشودة هي التي تقوم قبل كل شيء على الدين والرسالة الاسلامية، فتكون «جنسية المسلم عقيدته»، وتكون للرابطة الدينية الاسلامية الاولوية المطلقة على اي رابط قومي او حتى وطني؟ ام ان شعوب العالم العربي بحاجة ماسة الى تأجيل هذا الجدل كله، والالتفات الى دولهم واوطانهم الحالية، بما هي عليه من سلبيات وايجابيات، وفقر او ثراء، وتقدم او تخلف؟ لقد عرف العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر عدة تيارات كبرى لعل ابرزها ثلاثة: التيار القومي، والتيار الاسلامي، والتيار الاشتراكي. كانت هذه التيارات واسعة الانتشار في مراحل مختلفة ولا تزال في العديد من الدول العربية. كما انها نجحت في استقطاب آلاف وربما ملايين الرجال والنساء وبخاصة من ابناء وبنات الطبقة الوسطى والمتعلمين. ورغم ان الكثيرين

وهبوا اوقاتهم ومصالحهم ومصائرهم بل وحياتهم لهذه التيارات واحزابها القومية والاسلامية والماركسية والتقدمية وغيرها، الا انها جميعا لم تنظر الى سورية ولبنان ومصر والعراق والجزائر والسعودية والكويت وتونس كأولوية، وكوطن له مصالح وحدود ومطالب تنموية، تحتم على كل «مناضل» او «مجاهد» الالتزام بها، حتى ان لم تتسق مع مصالح واستراتيجية التيار العقائدية. وكانت القضية الاساسية للقوميين «الوحدة العربية» بأي ثمن وبأي وسيلة بما في ذلك استخدام القوة ان لزم الامر. وكانت الاولوية للاسلاميين استعادة دولة الخلافة او بناء النظام الاسلامي وتطبيق الشريعة رضي من رضي وكره من كره. وكانت الاحزاب الشيوعية، اكثر الاشتراكيين تنظيما وادومهم نشاطا واوسعهم انتشارا، يأخذون في الاعتبار الاول دائما الاهداف الاساسية للحركة الشيوعية العالمية، وان اصطدموا بالواقع العربي كما في فلسطين عام 1948 والجزائر في حرب التحرير 1954. ولم يحاول اتباع هذه التيارات من طبقة متوسطة وثرية، ومن مثقفين وعمال وفلاحين، بناء دولهم ضمن استراتيجية والتزام واضح بما هو وطني ومحلي، بل كانت السياسات تُرسم دائما بما تمليه «الناصرية» او «قيادة البعث» او «التنظيم الدولي للاخوان المسلمين» و«حزب التحرير» والمؤتمرات الدورية للشيوعية العالمية.
كانت الاحزاب العربية القومية تملي رؤيتها وعقيدتها وشعاراتها على العراقيين والسوريين والخليجيين واليمنيين واللبنانيين والاردنيين والمصريين والتونسيين دون الاخذ بالاعتبار مصالح هذه الدول وحكوماتها وعلاقاتها الدولية وافكار تياراتها المحلية وتركيبة شعوبها واقلياتها وغير ذلك. وكان من يعارض ذلك يضطر احياناً لدفع ثمن فادح.
وكانت الاحزاب الشيوعية تحلل اوضاع العالم العربي من خلال النظرية الماركسية وصراع الطبقات ومصالح البروليتاريا والتنسيق الشامل والمعسكر الاشتراكي. وكانت كل الآراء المخالفة والمطالب الوطنية المحلية التي تعارض هذا الفكر وشعاراته آراء رجعية ومطالب تآمرية وغير ذلك.
وكانت روابط العمل الاسلامي واللجان المنسقة بين جماعات الاخوان المسلمين، وربما «حزب التحرير» كذلك، تعمل على نشر ثقافة فكرية وعقائدية وتوحد الاهداف في صفوف الاسلاميين والحزبيين، والسوريون اصحاب تأثير وصولات وجولات خارج بلدانهم وبخاصة في البلدان الخليجية، ينقلون الى جماعات الاخوان الناشئة فيها خبراتهم وتجاربهم، ويتولون ادارة الخلايا الحزبية وتثقيفها.
وبالطبع، كانت نظرة احزاب الاسلام السياسي نظرة اسلامية أممية شمولية! يقول الداعية التونسي والشخصية الاسلامية البارزة اليوم «راشد الغنوشي»، ضمن نقد ذاتي منشور في 1989 في كتاب «الحوار القومي – الديني»، مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت مايلي: «من الاخطاء الفكرية غلبة النزعة الاممية، والاسلام باعتباره أممياً فان الاسلامي كثيراً ما ينسحب من واقعه ليغرق في هذه النظرة الاممية العامة، فهو يتعامل مع القضايا كلها بدرجة واحدة من الاهمية. ففلسطين قد تتساوى في اهتماماتنا مع اية قضية اسلامية اخرى خارج هذه الدائرة العربية القريبة، بل قد يهمل الاسلامي قضية في قُطره لحساب قضية اخرى في قُطر بعيد تبدو له اهمية في حياته بحجة ان المسلمين إخوة، وان الامة الاسلامية امة واحدة، فهذا النظر الأممي، وان يكن في اصله صحيحاً، لكنه لا يتساوق مع النظر الاسلامي الشامل الذي ينطلق من الواقع القريب». ومن الجوانب الاخرى التي انتقدها الغنوشي في الممارسة الاسلامية «غلبة الرفض لمكاسب العصر، فهناك تعامل حدي وحزبي مع الجماعات الاخرى، وهناك غلبة للعمل السري على العمل العلني، بل ان بعض الاحزاب حتى وان توافرت لها مجالات الحرية تعتصم بالسرية، وكأنها تعتبر أن العالم من حولها كله خاطئ ويتآمر عليها.. فكل ما يجري انما يجري للقضاء عليه».
وعن صراع الاسلاميين مع القوميين، وهو خلاف شغل عدة اجيال ولايزال، يقول منتقداً تياره الاسلامي: «خطأ آخر، يتمثل في التعامل الحدي والرافض لفكرة العروبة، ويكاد بعضهم يحرج من ذكرها في القرآن. والحمد لله انها وردت مراراً في القرآن، الأمر الذي لا يترك مجالاً لاحد من ان يستنكف من اعتبار ان للعرب في امة الاسلام مكانة متميزة طالما اعتبروا الاسلام رسالتهم الخالدة».
ولم يكن تأثير الرؤية الاسلامية الحزبية محصوراً في المجال السياسي، فقد كان كذلك مؤثراً وبشدة في القضايا الاجتماعية والتعليمية. وهذا ما يقرُّ به «الغنوشي» ضمن أخطاء الاسلاميين: «ولقد استحدث الفكر الاسلامي مشاكل أخرى مثل موضوع الاختلاط، فتعامل مع موضوع المرأة تعاملاً غير رشيد، اذ في كثير من الاحيان تعامل معه من موقع التراث ومن موقع رد الفعل على التمييع البورقيبي التغريبي للمرأة، في حين انه – فيما أعلم – لم تعرف مشكلة اسمها الاختلاط في التراث الاسلامي. وهكذا لم يمنع الاسلام الرجال والنساء ان يجتمعوا تحت سقف واحد لممارسة شأن جاد من شؤون المجتمع. وهذه الاشكالية في التعامل مع المسألة النسائية تفسر موجة الرفض التي ووجهت بها بخاصة في الخليج الاجتهادات والنظرات التي قدمها الشيخ الغزالي حول المرأة. فهذه الموجة الرافضة تدل على أن هناك خللاً حقيقياً في بنية الفكر الاسلامي، على نحو ان الرأي الجديد لا يجد مكاناً مريحاً بل يصادم بشدة». [298/297].
ماذا عن النقد الذاتي في صفوف القوميين والماركسيين وغيرهم؟. هذا ما يحتاج الى مقالات أخرى!
نقلا عن صحيفة الوطن الكويتية