عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

علي بن طلال الجهني يكتب : صعوبة «استنبات» الديموقراطية

بوابة الوفد الإلكترونية

يتعذر نقل الديموقراطية من مكان نمت في أرضه إلى مكان آخر. وفي الوقت ذاته لا يتعذر تماماً، وإن كان احتمال النجاح ضئيلاً، استنبات الديموقراطية في أرض لم تتوافر فيها مسبقاً الشروط الضرورية والكافية لاستنباتها.

وقصة استنبات الديموقراطية الأميركية، وهي أقدم ديموقراطية استمرت منذ ولادتها، بعد انقراض ديموقراطية يونانية محدودة الشمول قبل آلاف السنين، تستحق أن تروى ولو بإيجاز شديد.
نعم، الديموقراطية الأميركية أبعد ما تكون عن الكمال كما يعرف كبار مؤرخي ومفكري أميركا، ولكن هي الأقدم التي شقت الطريق لمن أتى بعدها من ديموقراطيات حقيقية.
فالثورة الفرنسية الدموية حاولت في البدء إحداث ديموقراطية وفشلت لأن أهم الشروط الضرورية لاستنبات الديموقراطية وجود أو إيجاد جهاز قضائي نزيه مستقل. وذلك لم يتوافر حينئذٍ. والديموقراطية البريطانية أتت بعد حوالى 100 عام بعد الديموقراطية الأميركية، في عهد الملكة فيكتوريا (1837-1876) التي حكمت وعدلت وأعطت القضاء الاستقلال التام، قبل تأسيس المؤسسات الأخرى.
لم تولد أقدم ديموقراطية حديثة بعد انقلاب عسكري أو بعد فوز حزب سياسي بغالبية الأصوات، وإنما زرع بذرتها مجموعة من كبار مثقفي زمانهم. ومع أن غالب المؤسسين (يسمونهم في أميركا الرواد) قادوا ثورة الاستقلال، فإن أكثرهم كان يتقن اللاتينية واليونانية الكلاسيكية والفرنسية والإسبانية ونفرٌ منهم الألمانية والروسية، واطلعوا على فكر من سبقهم بما في ذلك «مقدمة» عالم الاجتماع العربي الكبير ابن خلدون.
وقد تم اختيار أولئك الرواد من كل ولاية من الولايات الثلاث عشرة التي استقلت عن المملكة المتحدة (بريطانيا)، في 4/7/1776. ومع تأهيلهم الفكري لم ينجحوا في صياغة نظام حكم يضمن للناس حرياتهم ويساوي بينهم أمام القضاء ويحمي سيادة وطنهم الجديد إلا بعد مرور 11 عاماً على تاريخ إعلان الاستقلال. فبعد محاولات كثيرة ومؤتمرات متعددة بدأت بما أسموه بـ «الكونغرس الغاري» أي المؤتمر الغاري، الذي كان فيه مندوبون عن كل ولاية من الولايات الثلاث عشرة، تم توقيع وثيقة لنظام الحكم في 18/9/1787. وتعرف تلك الوثيقة، منذ وقت توقيعها بـ «الدستور الأميركي».
وأهم ما جاء في الدستور الأميركي إنشاء حكومة فيديرالية مركزية تتكون من جهاز تنفيذي يمثله رئيس الجمهورية، وجهاز تشريعي يمثله الكونغرس بمجلسيه (النواب والشيوخ)، وجهاز قضائي تمثله المحكمة الفيديرالية العليا لصيانة الدستور، ولتكون الحَكم بين الجهازين التنفيذي والتشريعي.
غير أن التجربة توضح، كما هو في بريطانيا حالياً، أنه ليس من الضروري وجود وثيقة واحدة تحتوي على جميع مواد الدستور، فيمكن للديموقراطية أن تأتي تدريجياً من طريق مواد مختلفة تتراكم، ويكون تراكمها بمثابة دستور في إطار يضمن الحريات واستقلال القضاء. ولا جدال أن بريطانيا ومنذ أواخر عهد الملكة فيكتوريا دولة ديموقراطية.
نعود إلى الديموقراطية الأميركية لنسأل: هل يتم اختيار الرؤساء الأميركيين وإبقاؤهم في الرئاسة وفقاً لعدد الأصوات فقط؟
الأمر أكثر تعقيداً من مجرد الفوز بغالبية أصوات الناخبين.
انتخب الأميركيون منذ إعلان الاستقلال 46 رئيساً كان بينهم 4 رؤساء لم يفوزوا بغالبية الأصوات!
بل وتم إجبار رئيس خامس (نيكسون) على الاستقالة على رغم أنه فاز بأصوات غالبية سكان 49 ولاية من 50 ولاية أميركية، لأنه ارتكب جرماً بتدبير سرقة وثائق من مقر الحزب الديموقراطي، ووظف في ذلك أحد أجهزة أمن الدولة، الـ «أف بي آي»، وهو جهاز مستقل ليس من أجهزة البيت الأبيض.
أما سبب فوز أربعة رؤساء بالرئاسة وهم لم يحصلوا على غالبية الأصوات، فيعود إلى أن النظام

الأميركي ينص على أن الذي يحدد الفائز في انتخابات الرئاسة هو من يحصل على غالبية أصوات «هيئة المنتخبين»، وليس المنتخبين مباشرة. وتتكون «هيئة المنتخبين» من كل ولاية وفقاً لعدد ممثليها في مجلس النواب، إضافة إلى عضوي مجلس الشيوخ الذين يمثلون كل ولاية بصرف النظر عن ضآلة أو ضخامة عدد سكانها.
وتم إيجاد هذا النظام لحماية مواطني الولايات الصغيرة. ولو كان يتم اختيار الرئيس وفقاً لعدد الأصوات فقط، لأهمل الساسة الولايات الصغيرة واهتموا بالولايات الكبيرة فقط. بل لتعذر على أي مرشح جمهوري الفوز بالرئاسة، لأن غالبية سكان الولايات الكبرى متعاطفون مع الديموقراطيين، وفي الوقت ذاته غالب سكان الولايات الصغيرة والأرياف يتعاطفون مع الجمهوريين.
وفي انتخابات عام 2000، والتي كان من الضروري الفوز من خلالها بـ270 صوتاً من أصوات «هيئة المنتخبين»، الذين وصل عددهم في ذلك الوقت إلى 538، فيكون المطلوب على الأقل نصفهم، أي 269، إضافة إلى واحد. والذي حدث إنه في أواخر مساء يوم الانتخابات كان المرشح الديموقراطي آل غور حصل على 255 صوتاً، والمرشح الجمهوري جورج بوش (الابن) على 246 صوتاً، ولم يتضح لمن ستذهب ولاية فلوريدا التي لها في «هيئة المنتخبين» 25 صوتاً. فاختلف المرشحان حول من فاز حقيقة بغالب أصوات ولاية فلوريدا فزعمت «أمينة ولاية فلوريدا» ذات الانتماء الجمهوري، وهي بصفتها الوظيفية، التي تصدق على الانتخابات أن جورج بوش هو الفائز بعدد زاد على عدد المصوتين لمنافسه بنحو 500 صوت من ملايين الناخبين من ولاية فلوريدا. بالطبع لم يقبل الديموقراطيون النتيجة بسبب ضآلة الزيادة المزعومة لإعطاء بوش جميع أصوات «هيئة المنتخبين» وهم 25 صوتاً. والحكم هو القضاء، فقررت المحكمة الفيديرالية العليا أن الفائز هو بوش.
فماذا فعل الخاسر لأصوات «هيئة المنتخبين» آل غور؟ هل حشد الملايين في الميادين؟ أليس هو الذي زاد عدد المصوتين له من بين جميع المصوتين على بوش بأكثر من نصف مليون صوت؟
لا بالطبع. القضاء فوق الجميع في كل الأحوال سواء أصاب أم أخطأ. ولا يوجد ولا يمكن أن توجد ديموقراطية حقيقية قديمة أو يتم استحداثها في وطن حكامه لا يحترمون القضاء، دع عنك من يشوهونه أو يتجاهلون قراراته.

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط