رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مصطفى الغزاوي يكتب :الخندقة والاستحواذ... مقدمات خطر لا نطيقه

بوابة الوفد الإلكترونية

يتحرك الشعب المصري بخاصية الأمة الجامعة، ولا تصلح حالة الانقسام في دفع الشعب إلى حركة أو تجلي إرادته لتحقيق غاية أو هدف، وقد تكون الخاصية الجامعة شخصا أو حزبا أو هدفا اجتمعت عليه إرادة الشعب بكافة فئاته.

قد يكون نهر النيل وهو مصدر الري والنماء لواديه، هو ذاته الرابط بين فئات الشعب وموحدها، وقد يكون هو الباعث لفكرة توحيد شمال مصر وجنوبها عند الفرعون مينا موحد القطرين، وبالقطع فإن المصدر الثقافي الموحد للشعب هو المعابد وكهنتها، والتي تلقى فيها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول دروس المعرفة كما يقول علماء المصريات. وقد يكون كل هذا هو ما حدا بالمصري القديم للبحث في وحدانية الإله الخالق.
وتلك الحالة من الوحدة للأرض والشعب هي ما مكنت يوسف عليه السلام من إدارة اقتصاد الدولة المصرية القديمة والتي اتضح من إدارته لها كما يحدد قصص القرآن الكريم أن إنتاج القمح كان يمكنه أن يحقق فائضا في سبع سنين رخاء يمكنها أن تسد حاجة الشعب في سبع سنين عجاف، ولا يغيب تحمل الشعب قدرا من التضحية بتقليل ما يستهلكون، أو "ربط الحزام" كما اصطلح على تسميته اقتصاديا في الزمن المعاصر، ويقول القرآن الكريم على لسان يوسف عليه السلام:
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) "سورة يوسف" هكذا عرف المصريون التخطيط وإدارة الموارد ودور الشعب، ولمدة أربعة عشر عاما بكل ما يمكن أن تحتويه من متغيرات، بل وزراعة الأمل في المستقبل بالعام الخامس عشر الذي يغاث فيه الناس وتفيض محاصيلهم عن حاجاتهم المباشرة حتى أنهم يعصرون.
ولم يكن هناك تجاهل للعلم، فالحب في سنبله، ومكان التخزين كما حدده العلماء في الفيوم حيث المناخ الجاف الذي يحمي الحب من التلف، لم يتجاوز العلم وأخذ بالأسباب وتعامل مع حقائق النبات والمناخ والاستهلاك حتى يحقق هدفه بعد أربعة عشر عاما، واحد من دروس إدارة الأزمات كما يطلق عليها الآن، ودرس للحكومات ماذا يعني التخطيط الحيوي للمستقبل، فهو ليس مجرد قرارات صماء ولكنه إرادة شعب وإدارة الدولة مجتمعين، وما كان لهذا التخطيط أن ينجح لولا أن الأمة موحدة وترى الحقائق كاملة.
وعرفت مصر في تاريخها سعي الأمة بطوائفها لتولية محمد علي ولاية مصر في مواجهة المماليك وسلطان الخلافة العثمانية معا، كما عرفت معنى الأمة في ثورة 1919 في مواجهة الاحتلال البريطاني والقصر معا، وما كان لثورة 1952 أن تحقق ما حققته إن ظلت حبيسة الانقسامات الحزبية بثقافة ما قبل يوليو 52 وآلياتها، ولكن اتحاد الأمة كان السبيل حتى 1973 لتحقيق أهداف التحرير وتأميم القناة وبناء السد والتصنيع وفي مواجهة المخاطر الخارجية ونكسة 1967.
وخلال الثمانية عشر يوما الأولى لثورة يناير تجسدت الأمة في حركة الملايين في كل ربوع مصر عندما توحد الهدف وتطور بالإصرار على إزالة النظام وتحت شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
وعلى الجانب الآخر أدركت مصر خطر الخندقة على قواتها المسلحة في فترة إعداد الجيش لمعركة التحرير بعد 1967، وكانت حرب الاستنزاف وهي في ذاتها مواجهة استمرت عامين متصلين ويزيد، مع قوات العدو في سيناء، كانت أيضا تحمل في نتائجها علاجا لمرض الخندقة الذي يصيب الجيوش وهي في الحالة الدفاعية على الخطوط الأولى، وكانت حرب الاستنزاف مثل ضخ الدماء في عروق القوات المحاربة، ومن ناحية أخرى كان لهجمات العدو في عمق الوطن أثر عكس ما استهدفه العدو، فقد أدى إلى احتشاد المجتمع خلف هدف التحرير، وكانت محرضا للإصرار على الهدف عندما أدرك الشعب أن صلف العدو وعدوانيته حقيقة تمثلت في جرائمه على الأطفال والعمال العزل وقناطر المياه والمصانع الإنتاجية، استهدف العدو الحياة فوق الأرض، فزاد من إصرار الشعب على الدفاع عنها ولم تخبُ إرادة القتال من أجل التحرير.
وشهدت مصر لونا آخر من الخندقة في أعقاب اغتيال السادات عام 1981، حيث دارت المعركة بين الجماعات الإسلامية المسلحة وبين النظام بعيدا عن الشعب، وتخندق النظام مدافعا عن ذاته، كما أدارت الجماعات الإسلامية معركتها مع النظام خارج الإرادة الشعبية التي يغيب عن ثقافتها العنف المسلح.
حطمت ثورة يناير كل الأسوار وردمت كافة الخنادق وجعلت ميدان المعركة مفتوحا بطول الوطن وعرضه وبإرادة كل فئاته وقواه، فانهار جدار الخوف، وصارت إرادة الشعب الأعزل عاري الصدر أقوى من الآلة الأمنية بكل ما تملك، فهزمتها وتجاوزتها، وأحاط الشعب بأجساده دبابات ومدرعات الجيش فصارت قلاعا حديدية مستأنسة لا تملك أمام الحشد الشعبي المفاجئ للكل غير أن تواكبه وتقبل بوجوده ولو إلى حين.
الاستحواذ في أعقاب نظام ديكتاتوري يؤدي إلى استنساخ ذات نظام الاستبداد تحت مظلة ادعاءات أخرى تحمل شكل المطالب الثورية دون مضمونها.
اتساع المهام وتنوعها، وتصحر الحالة السياسية في مصر، لا يتيح لأحد ادعاء ملكيته كل الحلول للأزمة الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وغير هذا فإن تحقيق سلطة الثورة وسط مخاطر التهديدات والمتغيرات التي تحيط بالوطن من الخارج، وعمق التغييرات الداخلية المطلوبة، كان في حد ذاته يستدعي الارتقاء إلى شرف الثوار ويتطلب حالة من الوحدة الوطنية، كما هي الحالة عندما تتوحد الأمة لمواجهة خطر عدوان خارجي.
هذه ليست رؤية رومانسية، ولكنها طبيعة الأمور إن توحدت الإرادة الوطنية في اتجاه أهداف الثورة وقضايا الشعب موضوعيا، متجاوزة مجرد الانحياز الذاتي إلى رؤى أحزاب أو جماعات أو فئات خاصة وأن حركة الشعب كانت متجاوزة لكل هذا، بعيدة عن وعي أي منهم، وخارج تصوراتهم للتعامل مع النظام، بل إن البعض ترك الشعب في مواجهته للنظام وراح يفاوض ذات النظام على مطالب خاصة به أدنى من إرادة التغيير ومتآمرة عليها.
تميزت ثورة يناير بوضوح قاطع تجاه قضايا الوطن بنداء الاستقلال الذاتي واستعادت الدور المصري داخل الإقليم ومكانة مصر في العالم، والتحرر من التبعية للإرادة الأمريكية، أو القبول بالتدخل الإسرائيلي في القرار الوطني والسيادة الوطنية على الأرض المصرية، وفي قضايا الداخل كان نداء التنمية بكافة أبعاده الاقتصادية والثقافية والاجتماعية واضحا، كانت مصر تريد استعادة عافيتها، ووضع الاقتصاديون سؤالا مهما وحاسما على المحك للاختيارات وضرورة دراستها وعدم الاعتماد على رؤية الفرعون الإله التي أسقطتها الثورة، عن كيف تتحقق العدالة الاجتماعية مع استمرار الحديث عن اقتصاد السوق وفي عالم الصراع الاقتصادي الذي تديره القوى الاقتصادية العظمى وتبدو آثاره جلية في ساحات العالم الثالث وداخل الدول العظمى ذاتها. والمتوقع امتداده لعقدين على الأقل.
وهناك بالأساس قضية الدستور الوطني لمصر الثورة الذي يتضمن كافة الاتجاهات التي يشملها العقد الاجتماعي التوافقي بين كافة قوى المجتمع ولا يتحدث في أمره عنصر سياسي مجرد بل هو حوار بين القوى

وممثليها ولا تجوز الإنابة في إقرار مضمونه على الإطلاق مهما كان ادعاء المدعين. وكان التوافق يتطلب حالة من الوحدة الوطنية مهما اختلفت الأفكار والأيديولوجيات وتباينت، وكان ذلك يتطلب امتلاك القدرة على الحوار الوطني بين أطياف المجتمع ولغة واضحة للحوار ليست حمالة أوجه ولا تركن إلى شعارات دينية تصادر الحوار وتكون مدخلا للتكفير والإدانة، ليصير حوار الطرشان بديلا لحوار أبناء الوطن الذين يتشاركون المسؤولية، والمصير الواحد.
ولم يكن للاستحواذ أن يتم دون كل ما سبقه منذ تلاقت رغبات وأداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع جماعة الإخوان والتيارات الدينية والذي قلب وجه الثورة من ثورة وطنية اجتماعية إلى استبدال نظام دكتاتورية مبارك بدكتاتورية دينية دون أي مبرر في الواقع، ولم تخرج القرارات الأخيرة بتغيير القيادات العسكرية عن السيناريو المرسوم مسبقا لإجهاض الثورة وتحويلها إلى حادثة طريق، ينشغل الشعب بجمع الأشلاء بعدها ويعود النظام القديم بتكوينات بديلة وبذات مضمون الاستبداد والانفراد بالسلطة.
وتمادى الاستحواذ إلى الانقلاب التمهيدي السابق على الدستور يشمل الصحافة والقضاء.
والخطر الذي تمثل في الاستحواذ على الصحافة المملوكة للشعب، ليس مجرد تغيير رؤساء التحرير ومنهم من عادى الثورة بالأساس، ولكن تمثل الخطر برقابة جديدة على الكتابات لتمنع مقالات تتعرض لجماعة الإخوان وأعيدت لعبة الحزب الوطني المنحل بجماعات من المحامين تتقدم ببلاغات أمام النيابة لتحقق مع رؤساء تحرير ثلاث صحف مستقلة، بينما الإشاعات تتزايد بالاتجاه إلى دفع النائب العام للاستقالة، سواء بسبب مرضه أو بإعلان تشريعي يحدد السن بما يتيح إقالته.
ويتواكب مع هذا الانقلاب اتجاه في مجلس الدولة بتأجيل القضايا الخاصة بدستورية مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وهو التأجيل الذي يتيح لهم استكمال الانقلاب ووضع الدستور خارج الإرادة الشعبية وبعيدا عن التوافق الوطني، وكأن لعبة التأجيل تسهم في اغتيال إرادة الثورة، والتي ليست بالقطع إرادة جماعة الإخوان أو المجلس العسكري الذي اندمج معها في سلطة واحدة بعد التغييرات الأخيرة في قيادات الجيش، والتي تتبارى فرق الإشاعات من عناصر الإخوان على التدليل بأن ولاء القيادات العسكرية الجديدة لصالح جماعة الإخوان، وذلك على حساب الإرادة الشعبية ومطالبها، وصار تحالفهما خندقة أصابت اندماجهما في مواجهة الإرادة الشعبية.
ويتربص الانقلاب التمهيدي بمؤسسة القضاء، وفي ذات الوقت تتزايد الريبة فيما يستهدفه تيار استقلال القضاء ومواقفه الحالية تتماهى مع مواقف الجماعة، خاصة تجاه المحكمة الدستورية العليا والتي تمثل العائق الرئيس أمام استكمال استحواذ الإخوان على السلطة المطلقة خاصة بعد موقفها برفض قرار الرئيس المنتخب بعودة مجلس الشعب للانعقاد رغم حكم المحكمة بعدم دستوريته، ولا يتورع عناصر الإخوان ووزير العدل الجديد والذي كان واحدا من أعمدة تيار الاستقلال، على مهاجمة المحكمة الدستورية وعناصرها خاصة المستشارة تهاني الجبالي التي كانت لها مواجهات من قبل مع الرئيس المنتخب عندما كان رئيسا لحزب الحرية والعدالة في اجتماع مشترك مع المجلس العسكري.
ناهيك عن دستور تجري صياغاته الانقلابية ضد قوى المجتمع الإنتاجية دون وضع بدائل تضمن لهذه القوى حقها في الحياة على أرض وطنها، وبعد أن اغتالها النظام السابق بهدم اتحادات الفلاحين وجمعياتهم الزراعية وانقلابه على قانون الإصلاح الزراعي، فضلا عن تسريح العمال من المصانع تحت عنوان المعاش المبكر وأصبح الشارع المصري مليء بالعاطلين والمحالين للمعاش المبكر الذين أهدرت طاقاتهم الإنتاجية خلال برنامج الخصخصة، يجري الآن وبنصوص دستورية يضعها من لا ينتمون إليهم وبدون وجود ممثلين حقيقيين لهم تنحيتهم عن سلطة التشريع في وطن يمثلون فيه القوة الرئيسة للإنتاج، اغتيال جديد لنتائج تحققت للمواطنين في قاع المجتمع بادعاء الديمقراطية ورفض المحاصة في التمثيل النيابي بينما هم يسعون لتمثيل الأحزاب بغير قدر وجودهم في المجتمع.
إن جملة ما يجري يفتح الباب على مصراعيه لنقيض الوحدة الوطنية التي يحتاجها الوطن في هذه اللحظة، ووقائع ما يجري فوق أرض سيناء تمثل قمة التردي للتحالف الذي استحوذ على مقدرات الأمور في القاهرة، بخطاب سياسي باهت، لغو قول بعباءة الدين، ومواجهة دامية بين الجيش وجماعات تحاول إعلان سيناء إمارة إسلامية، بينما سيناء هدف لمخططات صهيونية وفق مشاريع تبادل الأراضي.
فتنة جديدة قد تتطور إلى مواجهات دامية، بين دعوة يوم 24 أغسطس ضد جماعة الإخوان وشرعية وجودها، وفتوى من شيخ بإهدار دم كل من يخرج يومها، ووعيد أمني يذكرنا بالعادلي، وتربص باحتجاجات المواطنين.
الاحتقان يتزايد دون متنفس يحول بين تزايد الضغط إلى حد الانفجار، وتمادي في لغة الاستحواذ وممارساته، وليس من حل غير تعديل ميزان القوى داخل المجتمع، ولعل هذا يكون محل حديث قادم.
نقلا عن صحيفة الشرق القطرية