رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الربيع العربي وديناميات التأثير الإقليمي

بوابة الوفد الإلكترونية

على الرغم من الاختلاف الظاهر والصراع التاريخي والاستقطاب الحاد بين المشروع الإيراني والمشروع التركي، فإن هناك نوعاً من التفاهم في الإبقاء على الوضع القائم بين البلدين على ما هو عليه ومن دون أية تغييرات تُذكر، لاسيما في مجال العلاقة الثنائية والاتفاقيات الجيوسياسية الستراتيجية التي ربطتهما والتي أبعدتهما منذ قرون عن اندلاع حرب أو نزاع مسلح بينهما، لاسيما على أراضيهما .

وبفضل هذا التوافق تمكن البلدان من أن يكونا فاعلين رئيسين في أمن المنطقة، في ظل أحداث كبرى وتطورات هائلة شهدتها المنطقة من أقصاها إلى أقصاها خلال العقود الثلاثة ونيّف الماضية، وزاد الأمر وثوقاً العلاقة التجارية والاقتصادية التي ربطت البلدين، خصوصاً بعد الثورة الإيرانية في 11 فبراير/ شباط العام 1979 وانقلاب كنعان إفرين في تركيا في 12 سبتمبر/ أيلول العام 1980 .

ومع أن عوامل التنافس التاريخية قائمة والتعارض الأيديولوجي بين المشروع الإيراني والمشروع التركي مستمرة، فإن البلدين حاولا، وكل حسب منطلقاته وأجنداته، الاستفادة والتأثير في بلدان الربيع العربي، علماً بأن الموضوع السوري اليوم مطروح على بساط البحث على نحو شديد، خصوصاً وهو مصدر خلاف حاد بين المشروعين التركي والإيراني .

وقد كان موضوع الربيع العربي والتأثير الجيوبولتيكي لدول الجوار غير الإسلامي باستبعاد “إسرائيل”، والمقصود إيران وتركيا، مصدر نقاش معمّق ومتميّز في القاهرة نظمه المركز الدولي للدراسات المستقبلية الاستراتيجية ومركز الإمام الحكيم، وشارك فيه نخبة من الباحثين والمختصين من زوايا نظر مختلفة .

كان العالم العربي يشهد احتداماً وصراعاً بين شرعيتين، الأولى ذابلة ومتآكلة ومُسَاءَلة، والثانية لم تولد بعد أو لم تتحدد ملامحها، وإنْ استظهرت صورتها، إلاّ أنها لم تكتمل، وقد تحتاج إلى زمن ليس بالقصير، وهي تمرّ بمرحلة انتقالية تتجاذبها صراعات شتّى . وحسب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي فإن الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد، وإنْ كانت بعض ملامحه هلّت علينا .

والسؤال الملح الذي يواجهنا، ما هو حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه دول الجوار في رسم المتغيّرات العربية؟ فثمة إشكالات ذات طبيعة منهجية، وأخرى ذات طبيعة عملية، تكتنف بحث علاقة الربيع العربي ارتباطاً بمنظور تركي أو إيراني، خصوصاً أن هناك اختلافات لدرجة التناقض في المواقف أحياناً إزاء ما حصل، فضلاً عن تفسيره وتأويله . وإذا كانت المفاجأة للبلدين قد حصلت بشأن الربيع العربي فهي ليست مفاجأة لهما وحدهما، بل مفاجأة للقوى والتيارات السياسية في البلدان التي حصل فيها الحراك الشعبي، فما بالك بدول الجوار والعالم . بل ويمكن القول إن أكثر مراكز الاستخبارات في العالم أهمية ومعرفة لم تكن تتنبأ بما حصل، بل إن بعضها كان يعتبر بعض البلدان مستقرّة أو أقرب إلى الاستقرار، فظلّ يقدّم خطوة ويؤخر أخرى، لكنه اندفع بالاتجاه المعاكس عشية التغيير، واختلفت لهجة واشنطن إزاء التغييرات، لاسيما بعد مفاجآتها لما جرى في تونس ومصر وبهذه السرعة، خصوصاً خشيتها من أن يؤثر ذلك في مجريات الصراع العربي  “الإسرائيلي” .

أما “إسرائيل” فقد كانت الأكثر تطيّراً إزاء الحراك الشعبي العربي، فإذا كانت قد اعتبرت أن تغيير النظام التونسي قد يخلّ بمعادلة الصراع العربي  “الإسرائيلي”، فما بالك بالتغيير الذي حصل في مصر، الأمر الذي جعلها في حالة استنفار وقلق، وحتى ممانعة لإحداث أي تغيير في العالم العربي، خوفاً من التأثير في اتفاقيات الصلح المنفرد وكامب ديفيد لعامي 1978-1979 وما تبعها من صيغ ومعادلات، بما فيها اتفاقيات أوسلو العام 1993 التي وصلت الى طريق مسدود .

كانت إيران وتركيا تنظران إلى بعض البلدان العربية بكونها دولاً مستقرّة، فلإيران علاقات استراتيجية مع سوريا، الأمر الذي استلزم إعادة التفكير في ما سيؤول إليه الوضع لو حدث تغيير النظام السوري، على سبيل المثال، حيث ظلّت علاقاتها تتطور منذ الثورة الإيرانية العام ،1979 واختُبِرت في منطعفات عديدة منها: الحرب العراقية  الإيرانية التي دامت ثماني سنوات 1980-،1988 حيث كان موقف سوريا أقرب إلى الموقف الإيراني بسبب عداء مستفحل بين دمشق وبغداد، وهو عداء استئصالي حزبي وسياسي، وكذلك بعد احتلال العراق العام ،2003 لاسيما في الموقف من الوجود العسكري الأمريكي .

أما علاقة سوريا بتركيا فقد بدأت بالتحسن الملحوظ والسريع منذ إخراج عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التركيPKK  من سوريا، وبلغت ذروتها في العام 2010 . وإذا بها تستدير ثانية إلى الجانب السلبي من دون أن ننسى نظام العقوبات الذي تم تطبيقه على سوريا عربياً ودولياً، حيث تشكل تركيا جزءاً فاعلاً منه .

كما كانت علاقة تركيا بمصر فاترة وإذا بها بُعيد التغيير تشهد تطوّراً مهماً، بما فيه زيارة رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان إلى القاهرة وإلقائه خطاباً من دار الأوبرا داعياً إلى إقامة دولة علمانية، عارضاً تجربته كرئيس لدولة علمانية، بمرجعية دينية وإسلامية، ولعلها قد تكون رسالة للإخوان المسلمين، الذين التقطوا الإشارة معلّقين عليها بقولهم: إن هذا الأمر يصلح لتركيا، في إطار جدل مصري محموم حول هوّية الدولة ومرجعيتها، وربما سيزداد حدّة بعد فوز الرئيس محمد مرسي . وإذا كانت علاقة “إسرائيل” السياسية مع تركيا قد تراجعت في الفترة الأخيرة بسبب تعرّضها لسفينة تركية تابعة لأسطول الحرية وقتلها تسعة من مواطنيها، ورفضها الاعتذار، إلاّ أن الموقف التركي الأخير من سوريا ونصب الدروع الصاروخية لحلف الناتو على أراضيها يمكن أن يعد موقفاً تعويضياً أقرب إلى الاعتذار من

التحسّن النسبي والتفاهم السياسي للعلاقات التركية  الإيرانية في الفترة الأخيرة . ولعلّ من أبرز القضايا التي ستكون محط صراع وجدل طويلين بعد الربيع العربي هو موضوع نشر الدرع الصاروخية لحلف الناتو في تركيا وعلاقة ذلك بالملف النووي الإيراني، وذلك لما له علاقة بالجيوبوليتيك، خصوصاً ببعدها التاريخي والمستقبلي، وإنْ اكتسبت بُعداً أيديولوجياً في العقود الثلاثة الماضية، وهو التعارض بين المشروعين التركي (ذي التوجه الديمقراطي) بالخلفية الإسلامية، لاسيما بعد فوز حزب العدالة والتنمية في العام 2002 بالضد من النموذج الإيراني (الراديكالي) وبخلفية ولاية الفقيه، خصوصاً منذ الثورة الإسلامية في إيران العام 1979 .

ويتوقف على التفاهم الإيراني  التركي حلّ هذه القضايا والتأثير المحتمل للربيع العربي في العلاقات الإيرانية  التركية، لا مستقبل العلاقات فحسب، بل جزء أساسي ومهم من مستقبل المنطقة بما فيها القضية الكردية، لعموم دول المنطقة كالعراق (لاسيما في ظل احتدام الخلافات) وسوريا . وقد شهد عقد التسعينات كلّه اجتماعات ثلاثية على نحو دوري بين تركيا وإيران وسوريا لاتخاذ موقف موحّد إزاء القضية الكردية في العراق، والأمر يتعلق بمخاوف الدول الثلاث من النظام الفيدرالي واحتمال قيام دولة كردية في شمال العراق .

ولعل مثل هذا الأمر يتطلب اليوم حواراً بين النخب الفكرية والثقافية والسياسية عن العلاقة بين الأمة العربية والأمة التركية والأمة الفارسية ومستقبلها بخصوص أمن المنطقة بعد الربيع العربي .

المشروعان يسعيان لمدّ نفوذهما إلى العالم العربي: الإيراني بوسائل صلبة عبر دعم القوى الراديكالية وفي إطار مذهبي أو ديني في الأغلب ومن خلال الاستقواء . أما التركي فيسعى بالوسائل الناعمة، عبر قوة المثل والتقدم المحرز والعلاقة المتصالحة مع الغرب ومع بعض القوى المعتدلة في المنطقة، من دون نسيان الإبقاء على علاقة خاصة مع “إسرائيل” على الرغم من تصدّعها بسبب حادثة أسطول الحرية، لكن هناك بعض الاتفاقيات الأمنية مثل “اتفاقية ترايندت” التي لا تزال نافذة منذ العام ،1958 ناهيكم عن ارتفاع حجم الميزان التجاري بين تل أبيب وأنقرة الذي لم يتأثر بالأساس، بل ازداد وثوقاً .

أثار الموقف الإيراني إزاء أحداث البحرين ومطالب المعارضة ردود فعل حادة، بشأن التدخل في الشؤون الداخلية الذي قابله موقف مجلس التعاون الخليجي بإرسال قوات درع الخليج إلى البحرين . الموقف الإيراني لا يخلو من مفارقة حقيقية، فهو وإن بدا مشجّعاً وداعماً سياسياً ومعنوياً لمشاريع التغيير في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، لكنه ظل معارضاً، بل رافضاً للتغيير في سوريا، وهو ما حصل فيه تعارض حاد مع الموقف التركي، وقد بدا الأخير أكثر تطرّفاً واندفاعاً حتى من الموقف الأوروبي والأمريكي، بشأن المسألة السورية، وتلك مفارقة تركية مقابل المفارقة الإيرانية، وبلا أدنى شك فقد كانت قرارات جامعة الدول العربية عاملاً مشجعاً لتركيا في تصعيد موقفها، فضلاً عن تدويل المسألة السورية، خصوصاً بالقرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، وبتشكيل فريق المراقبة برئاسة كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة .

لقد قلب الربيع العربي الكثير من المسلّمات والبديهيات، لا في البلدان العربية حسب، بل بشأن العلاقة مع دول الجوار الإقليمي، خصوصاً تركيا وإيران، ولعل نهوض مصر المحتمل ومعها الدول العربية التي شهدت تغييرات باتجاه الانتقال الديمقراطي، واستعادة الأمن والاستقرار واسترجاع هيبة الدولة ومعالجة آثار الماضي يمكن أن يبلور مشروعاً عربياً جديداً، لاسيما إذا أعيد تأسيس وبناء المجتمعات العربية وفقاً لعقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، أساسه تداولية السلطة سلمياً وحكم القانون واستقلال القضاء ومحاربة الفساد المالي والإداري وتأكيد مبادئ المساواة والمواطنة والمشاركة واحترام الحقوق والحريات .
نقلا عن صحيفة الخليج