رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مأمون فندى يكتب:دولة مياه الشرب والصرف الصحي

مأمون فندي
مأمون فندي

خلط مياه الشرب بالصرف الصحي في مصر هو اسم رسمي لا يتوقف عنده أحد في بلد قوامه يصل إلى 90 مليون نسمة، فهناك هيئة رسمية حكومية تابعة للدولة اسمها الرسمي هو «الهيئة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي»، أي أن المصريين ببساطة ليس لديهم مشكلة في خلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي على الأقل في العنوان أو في اسم تلك الهيئة الرسمية.

حالة اشتباك المفاهيم والتباسها هي حالة عامة في المجتمع المصري الذي يمر بتحولات كبرى، كلما بينتها للمصريين إما أن يهتف بعضهم في غضب بأنك تتبنى مشروع جلد الذات وأن جميع المجتمعات هكذا ولكنك لا تنظر في مصر إلا إلى نصف الكوب الفارغ، وإما أن يغفل البعض التناقض تماما في هزة كتف وامتعاضة مصحوبة بمص الشفاه تتبعها عبارة «وإيه يعني».
إما غضب شديد من النقد وإما تجاهل تام له، وتلك حالة مصرية ثابتة لم تغيرها لا هذه الثورة ولا الثورة التي سبقتها أو ربما لن تغيرها الثورة القادمة، فالبلادة الفكرية وعدم الإحساس بالتناقض في المفاهيم أصبحت سمة من سمات النخب المصرية المختلفة، وإذا كانت الثورة تحدث في الرأس، فرأس النخبة في مصر على ما يبدو ليس فيها سوى مزيد من الشعر الأسود الذي ينتظر الخروج من فروة الرأس ويجد طريقه إلى الهواء الطلق.
ولا يمكن لثورة أن تنجح إلا بتفكيك المفاهيم السائدة التي تختلط فيها مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، ففي خلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي في الواقع والمقنن في اسم الهيئة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي هناك حالة خلط ذهني تؤدي إلى حالة تلوث وطني للمفاهيم قد يصيب الوطن كله بالتسمم.
دولة تخلط رسميا مياه الشرب بالصرف الصحي تحتاج إلى جدل وحوار عام، ولكن القائمين على الحوار في مصر بتلفزيوناته وإذاعاته وصحفه لا يقبلون أن نناقش عصب المفاهيم الحاكمة للمجتمع لأن في ذلك أيضا تعرية لمن يطلقون على أنفسهم نخبة.
كتبت في السابق هنا وتحت عناوين مختلفة نقدا للمجتمع المصري لم يلق استحسانا لأنه وحسب آراء من يتصدرون الشاشات فيه قسوة. فكيف لي - كما قال لي أحدهم في القاهرة - أن أقول عن الطبقة الوسطى إنها «الطبقة الوسخة»؟ لا يهم أنني شرحت في مقال كامل كيف تنتقل الطبقة من حالة الطبقة الوسطى إلى الطبقة الوسخة. قلت يومها إن الطبقة ليست مفهوما اقتصاديا فقط بل هو مفهوم اقتصادي ملفوف بمنظومة قيمية، فإذا ما نزعنا القيم عن الأموال تتزحلق الطبقة الوسطى من موقعها إلى طبقة «وسخة» أي طبقة خالية من القيم.
كتبت أيضا ومنذ سنين عن مجتمع «فاتني القطار» أي أن المسؤولية في مجتمعاتنا تقع على القطار وليس على من تخلف عنه، بينما في اللغات الحية الأخرى نقول «أنا الذي لم يلحق بالقطار». المسؤولية تقع على عاتقي أنا وليس على القطار. وسؤالي هنا لمجتمع الثورة هو: كيف تحدث ثورة على الأرض في وقت لا تفكك فيه مفاهيم بالية، تختلط فيها رسميا مياه الشرب بالصرف الصحي ؟
في مصر ومنذ الثورة هناك محاولة وإصرار على فض الاشتباك بين الصرف الصحي ومياه الشرب في الواقع وفي عقول المصريين، ولم ينجح المجتمع حتى هذه اللحظة في أي نوع من الجدة الحضارية

لفتح حوار نقدي حول المفاهيم الحاكمة لمجتمع تم تجهيله لمدة ستين عاما أو أكثر، مجتمع يهتف بماضي الافتخار ولكنه يحيا حياة الاحتقار والفقر والعوز.
لم يعد المصريون في المدن الكبرى يشتمون رائحة الزبالة التي تملأ الشوارع، إذ أصبحت رائحة الزبالة سمة من سمات الشوارع، ولا أستطيع أن أعرف تكلفة رفع القمامة من الشارع إلا أن أقول إن هناك بلدانا أخرى في العالم نظيفة، إلا إذا كانت النظافة سمة من سمات الشعوب، فكيف لشعب يعيش في شوارع متسخة أن يتفاخر في ذات النفس بأنه ابن حضارة قديمة صنعت تاريخ العالم؟!
هذا الكلام بالطبع لا يصدقه إلا العقل المصري وحده، ذلك العقل الذي لا يرى تناقضا في تسمية هيئة مياه الشرب المطلوب منها جودة ونقاء المياه، أن يخلطها بالصرف الصحي. تفكيك المفاهيم هو الحل، والعقل النقدي هو الحل، العقل الذي ينتقد العبارات السيارة والدارجة التي تلهج بها الألسنة رغم أنها خلط يثير الغثيان حرفيا. كيف لوطن يريد أن يتقدم ولا يرى غضاضة في خلط مياه الشرب بالصرف الصحي ؟!
القصة في مصر اليوم ليست دستورا أو رئاسة أو برلمانا، بل هي ذلك الخلط بين ما هو أدنى وما هو خير في نفس واحد وفي عبارة واحدة، خلط في المفاهيم يؤدي إلى ضبابية في الرؤية. والثورة رؤية، والأوطان رؤية، فإن اختلطت الأمور في رؤوس الشعوب واختلطت مياه الشرب بالصرف الصحي ، فلا يكفي أن نكرر عبارات حب الوطن، فالحب لا يحدث إلا في حالات الصفاء، ولا يحدث في حالات التلوث.
كتبت قبلا مقالا بعنوان «الثورة في مجتمع متخلف»، وقلت فيه إن الثورة التي لا تكون الحرية بمعناها المطلق هي نتيجتها، فبئس الثورة هي. الثورة لا تكون على النظام السياسي، بل تقوم أولا ضد النظام الاجتماعي والمنظومة الثقافية الحاكمة للمجتمع. من دون تفكيك الثقافة الرثة السائدة لا تحدث ثورة.. الرئيس لا يصنع المجتمع ولا يغير ثقافة، وكذلك الصندوق الانتخابي، الثورة تغيير ثقافة، وثقافة تغيير، وهذا لم يحدث في مصر حتى الآن، لأن مياه الشرب مختلطة بالصرف الصحي في الرؤوس وفي الشارع في ذات الوقت.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط