رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

خالد الحروب يكتب:انتخابات مصر ومستقبل العرب

خالد الحروب
خالد الحروب

لعل أكثر الجوانب التي تشير إلى عمق التغيير في مصر يتمثل في عدم قدرة أي من المتابعين للحدث المصري توقع نتيجة الانتخابات الرئاسية ومن سيفوز بها. ينطبق هذا على جمهور الناخبين انطباقه على السياسيين وحتى على من هم من بواقي "المؤسسة" التقليدية للحكم، مثل المجلس العسكري ومن يحيط به.

ويعني ذلك أننا أمام تنافس حقيقي وديمقراطي على القيادة، وأمام تجربة عظيمة تقطع مع الماضي القريب والبعيد الذي امتاز بحكم الفرد الواحد، فرضاً وقسراً لا انتخاباً واختياراً. ومنذ عهد الفراعنة الأوائل مروراً بالعهود البيزنطية والإسلامية وغيرها لم يشهد تاريخ مصر، وربما تاريخ العرب أيضاً، مثيلًا لهذا الحدث وهو تجسد إرادة عشرات الملايين من الشعب والناس العاديين في اختيار من يقودهم. ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وتاريخ العرب الحديث، تجري انتخابات رئاسية من دون أن يكون الجميع على معرفة تامة ويقينية بالنتيجة سلفاً ومسبقاً، حيث يفوز الرئيس الأوحد والزعيم الأعظم والمتفرد، بالتخويف أو التزييف أو كليهما. وفي الذهن الانتخابات الرئاسية العربية في دولة ما بعد الاستقلال، ونتائجها الفضائحية المعروفة دوماً حيث فوز الزعيم الدائم والمرشح الوحيد بنسبة 99 في المئة، صارت تنتمي إلى مجال السخرية والكوميديا السوداء ولم تعد لها علاقة بالسياسة الجدية. ونمط الانتخابات الصورية ذاك معطوفاً على ترسخ الاستبداد وأنماط الحكم القبلي والوراثي أبقت العرب خارج التاريخ الحديث. وتقدمت الأمم وتبدلت أنماط الحكم والسياسة في معظم أجزاء العالم في الوقت الذي تجمد فيه العرب، واستبد بهم استبدادهم فتكلست سياستهم واجتماعهم وثقافتهم وديناميتهم.
والآن تغلق الانتخابات الرئاسية المصرية كثيراً من تلك المراحل، وتفتح مرحلة جديدة، وتنقل مصر والعرب معها إلى غد أفضل قوامه الحرية وإرادة الناس والصراع السلمي على السلطة والتنافس البرامجي لخدمة الشعب الذي تؤول لإرادته الكلمة الفصل في تقديم من يتولى زمام القيادة. وعلى رغم كل الشوائب وكل النواقص وكل التخوفات والانتقادات المحقة، تأتي الانتخابات الرئاسية المصرية بحمولة رمزية هائلة وتفتح أفقاً تفاؤلياً، وتنتزع صفتها التي ستلازمها أبداً وهي كونها حدثاً تاريخياً بكل ما في الكلمة من معنى، يرسم خطاً بين حقبة وأخرى، بين ماض ومستقبل.
سيقول كثيرون إن التوصيف السابق يغرق في رومانسية وإنشائية تدحضهما الوقائع والتخوفات والفوضى على الأرض. ذلك أنه على بعد خطوة واحدة من العرس الانتخابي الديمقراطي تتراكم مشكلات مصر التي تبدأ ولا تنتهي: اقتصاد منهك ومتدهور، بطالة كبيرة، فقر منتشر، فساد ومحسوبيات، نظام سياسي حديث العهد وهش أمام وطأة السياسة وجبروتها، أصولية وأصوليون يسيطرون على سياسة لا يعقلونها أصلاً، نظام إقليمي متوتر فيه تغول إسرائيلي وتغول إيراني يتطلبان قيادة مصرية غائبة، تربص أميركي ورقابة لصيقة بكل ما يحدث في مصر وحولها، جوار متفتت وتهديدات لا تني تتناسل، من انفصال جنوب السودان، إلى الصومال، إلى معضلات تقاسم مياه النيل. غير أن كل ذلك ربما يتقزم أمام توقعات عشرات ملايين المصريين وفقرائهم من النظام الجديد، وهي توقعات لا يمكن حتى لحكومات إسكندنافيا مجتمعة أن تحققها في الأمد القصير. وهذا كله صحيح ودقيق ولأنه كذلك واستمر على ما هو عليه لعقود طويلة فإنه احتاج إلى ثورة شاملة كي تغير النظام الفاشل والفاسد الذي أبقى على كل تلك الاختلالات.
إن معضلات مصر أو أي دولة أخرى خارجة من عقود من الفساد السياسي والاستبداد الطويل لا يمكن أن تحل عبر إسقاط النظام فحسب. ولن تحل مباشرة عقب إجراء انتخابات برلمانية أو رئاسية. والذين انتظروا من ثورات ما أصبح يسمى الربيع العربي أن تحقق المعجزات فقد ظلموها بتوقعاتهم المُتسرعة، وتناسَوا في غمرة رفع سقف تلك التوقعات وطأة الإرث المتراكم الذي خلفته أنظمة الاستبداد في بلدانها. والأكثر معقولية وواقعية هو ضرورة الانفلات من أسر الزمن المباشر لما بعد سقوط النظام، وانكشاف الدمار والخراب الذي خلفه وراءه. إنه تراكم فشل عقود طويلة ويحتاج سنوات طويلة لكنسه. ولهذا فإن ثمة

ضرورة بالغة لإبقاء المنظور التاريخي العريض مرافقاً للتحليل والتأمل، وهو يفيدنا لجهة موضعة التغير الذي جلبه الحراك العربي في إطار التحولات الكبرى التي تستلزم زمناً مريحاً لتأتي ببدائل.
والأهمية الكبرى للانتخابات المصرية تتعدى بطبيعة الحال الرمزية التاريخية، ذلك أنها خطوة تأسيسية كبرى في سياق بناء النظام السياسي والدستوري الجديد في مصر، النظام الذي يتحرر الآن من ممارسة استبدادية طويلة الأمد دامت على مدار قرون. هناك معيقات كبيرة وهناك تخوفات وهناك شكوك في استقواء "الفلول" وعلامات استفهام حول مواقف المجلس العسكري، وحنق متبادل بين الأطراف السياسية واتهامات بالجملة. وهذه هي سمات الديمقراطية والصراع السلمي على السلطة. والبديل عن ذلك كله هو الحكم الديكتاتوري، أو الصراع على السلطة عبر استخدام القوة وإسالة الدماء حيث يؤول الحكم للأقوى والأقدر على فرض بطش أكبر. وعبر عملية الصراع المريرة (لكن السلمية) على السلطة فإن الرأي العام، مجاميع وأفراداً، يندرج في عملية فهم وممارسة الديمقراطية على الأرض وفي الواقع وليس تنظيراً وتغزلاً بها عن بُعد. فالعملية الديمقراطية ممارسة مليئة بالصعوبات والعقبات والإحباطات، وفيها تتجلى بشاعة السياسة حيث تبادل الاتهامات، والنكوص عن الوعود، وتجميل الكذب، وتغيير التحالفات، ومحاولة شراء الولاءات، وسوى ذلك كثير مما نراه حتى في أكثر الديمقراطيات رسوخاً في العالم -وهو ما رأيناه أيضاً في الانتخابات المصرية، البرلمانية والرئاسية. ولكن ذلك كله لا يعيب الديمقراطية بل يؤكد على شرعيتها وأهميتها وأنها الآلية السياسية الوحيدة لإدارة الصراع داخل الوطن الواحد من دون عنف. والديمقراطية ليست مشروعاً ناجزاً في أي مكان في العالم فهي أقرب إلى السيرورة الدائمة التي تحتاج إلى تطوير وتحسين وتصويب بشكل دائم، وليس هناك أي زعم حتى عند أكثر أنصارها حماسة بكمالها وانتفاء النواقص عنها. فالديمقراطية فيها إشكالات وعيوب عديدة، ولكنها بالمقارنة مع كل النظم السياسية الأخرى التي أنتجها البشر وعرفها التاريخ تظل أفضل نظام للحكم وصل إليه الإنسان. فهي على الأقل تضمن أمرين في غاية الأهمية والمركزية لضمان حياة صحية وآمنة وناجحة للمجتمعات: عدم اللجوء للعنف والدم، الذي أشير إليه أعلاه، وإطلاق الحريات وحمايتها. فالحريات بأنواعها جميعاً هي الرأسمال الحقيقي للشعوب والمجتمعات، لأنها تطلق طاقات الأفراد وإبداعاتهم في كل المجالات، ولأنها توفر آلية النقد الدائم، عبر الإعلام الحر وعبر آليات التعبير الشعبي كما في منظمات المجتمع المدني راهناً. وتمأسس النقد والمحاسبة والشفافية سواء عن طريق النظام السياسي نفسه، أو عن طريق ديناميات المجتمع المفتوح الأخرى، هو الذي يضع القيود والإجراءات الوقائية ضد أية نزعات استبدادية، سياسية كانت أم غيرها.

نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية