رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

سليمان جودة يكتب:الحبر الذي في إصبعي

سليمان جودة
سليمان جودة

أكتب هذه السطور بعد ساعات قليلة من غلق صناديق الاقتراع، في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية، مساء الخميس الماضي، وقد عاش المصريون على أعصابهم، طوال ليل الخميس، ثم مع الساعات الأولى من صباح الجمعة، في انتظار المؤشرات الأولية للتصويت الذي دام يومين.

في انتخابات عام 2005، التي كانت أول انتخابات من نوعها، منذ قيام ثورة يوليو 1952، كان المصريون قد انتخبوا وقتها، ثم خرجوا من لجان الاقتراع، وهم على يقين من أن الفائز هو الرئيس السابق حسني مبارك، الذي كان قد دخل في منافسة غير متكافئة، مع مرشحين آخرين، لم يكن واحد منهم يحلم، مجرد الحلم، بأن يقترب من حدود الفوز، فضلا عن أن يفوز بالطبع!
هذه المرة، في عام 2012، تأتي انتخابات الرئاسة، من هذه الزاوية، على النقيض تماما، من مثيلتها في عام 2005، لا لشيء، إلا لأن اليقين الذي استقر في نفوس وعقول الجميع، فيما يخص شخص واسم الفائز، عام 2005، يقابله عدم يقين كامل، إزاء صاحب النصيب الذي سوف يكتب له الله تعالى، ثم إرادة الناخبين، أن يدخل قصر الرئاسة، ليكون أول رئيس للبلاد بعد الثورة.
اكتشف الناخبون في الأيام الأخيرة للسباق، أنهم أمام 13 مرشحا، وأن عليهم كناخبين، أن يختاروا واحدا منهم.. صحيح أن الـ13 مرشحا لم يكونوا سواء، في الوزن، والحجم، والقيمة، لدى الناخب، وصحيح أن المنافسة الحقيقية انحصرت بين خمسة مرشحين منهم بالكاد.. ولكن.. حتى هؤلاء الخمسة، لم يستطيعوا أن يبددوا الحيرة التي تلبست الناخبين، وجعلت كل واحد فيهم لا يعرف مَنْ بالضبط سوف يختاره من بين المرشحين، خاصة إذا كان كل واحد من هؤلاء الخمسة، يبدو في لحظة من اللحظات، وكأنه بالفعل يصلح بمعيار أو بآخر، لأن يكون مرشحا، وفائزا بثقة الناخب.
في تلك اللحظة، تذكرت عبارة «تشرشل» الشهيرة، التي كان يقول فيها، إن الديمقراطية، هي أفضل طريقة استطاع العالم أن يتوصل إليها حتى الآن، إذا ما كان على المواطنين في أي بلد، أن يختاروا حاكمهم، فالديمقراطية، كعملية انتخابية، ليست الأمثل، فيما يتعلق بما يرجوه المواطنون من ورائها، وإنما هي أفضل ما توصل إليه مفكرو السياسة ومنظروها، وحين نصل إلى طريقة أفضل، فسوف يهجر العالم، الديمقراطية، على الفور، ويقلع عنها.. وإلا.. فما معنى أن يختار 51% - مثلا - من الشعب، المرشح فلان، ليكون رئيسا، فيصبح كما أرادوا، ليتم في اللحظة نفسها تجاهل 49 % من المواطنين انتخبوا مرشحا آخر، وكأنهم، والحال كذلك، غير موجودين أصلا؟!.. أي منطق في هذا، اللهم إلا منطق احترام رأي الأغلبية الذي تعارف عليه الناس، وتوافقوا على الالتزام به، ليس لأنهم مقتنعون بذلك، وإنما لأنه ليس هناك بديل آخر يغنينا عنه!
على كل حال، نعود إلى الساحة المصرية، لنكتشف أن التنافس الحاد، كان ولا يزال يدور حتى الساعات الأولى التي جرى فيها الإعلان عن مؤشرات مبدئية، بين خمسة مرشحين، هم الأعلى حصدا للأصوات، وكان من الواضح أن أحدا منهم - حسب المؤشرات الأولى - لم يستطع أن يحسم المسألة لصالحه، وأن هناك احتمالات قوية لأن تكون هناك جولة إعادة، بين مرشح محسوب على التيار الديني، وبين آخر محسوب على التيار المدني، ابتداء من عمرو موسى، ومرورا بأحمد شفيق، وانتهاء بحمدين صباحي!
إنني أكتب هذه الكلمات، وأنا أتأمل إصبع السبابة في يدي اليسرى، مغموسا في الحبر الفوسفوري، ابتداء، ثم محتفظا بأثر الحبر عليه، لساعات طويلة فيما بعد، وهي تجربة لا أجد حرجا في أن أعترف بأني خضتها للمرة الأولى في حياتي، حين ذهبت عصر الخميس إلى مدرسة الأورمان الابتدائية النموذجية المشتركة، في حي

الدقي بالقاهرة، باحثا عن اسمي، ورقمي، ولجنتي، ثم مصوتا لمرشح مدني يليق بمصر، وتليق به.. لم يحدث من قبل أن دخلت لجنة كهذه، في أي انتخابات، سواء كانت برلمانية أو رئاسية، وهو شيء لا بد أنه ينال من صاحبه، غير أن هذا ما حدث، ولا بد من الاعتراف به، أولا، ثم البناء عليه لاحقا، لنكون صادقين مع أنفسنا على الأقل!
أتأمل بقايا الحبر على إصبعي، وأتابع في الوقت نفسه، مواطنين بلا حصر، كان كل واحد منهم يخرج من اللجنة، منتشيا بمنظر الحبر في يده.. بل إن بعضهم كان يمعن في نشوته بالمشهد فيلطخ أكثر من إصبع بالحبر، ربما ليعوّض جوعا إليه في انتخابات سابقة.. وقد كان كثيرون يفعلون ذلك، رغم أنهم يعرفون جيدا، أنه ليس مطلوبا من أي منهم، أن يفعل هذا، وأنه يكفي غمس طرف الإصبع، ليثبت صاحبه أنه اقترع وانتخب.. وفقط.. لا أكثر من هذا، ولا أقل.. ولكن.. لأن العملية على بعضها كانت ولا تزال جديدة علينا، كمصريين بشكل خاص، ثم كعرب بوجه عام، فلا بد بالتالي أن نتوقع ممارسات طفولية من هذا النوع، كأن تصطحب سيدة، مثلا، طفلها، وتجعله يغمس إصبعه في الحبر، أو تجعله يضع هو بطاقة التصويت في الصندوق بدلا منها، ثم تخرج لتتباهى بهذا كله أمام الأصحاب والجيران تارة، وأمام الكاميرات والعدسات تارة أخرى!
أهم ما في الحكاية كلها، أن كل ناخب ذهب ثم أدى واجبه الوطني تجاه بلده، لم يكن على يقين من أن مرشحه الذي أعطاه صوته سيكون هو الفائز، وإنما كان الناخب يبادر إلى التصويت، ويشارك، لأنه يعرف أن صوته، هذه المرة، من المرجح أن يكون له اعتبار عند حساب مجمل الأصوات في نهاية المطاف.. ولستُ أريد في هذا السياق، أن أستخدم عبارة «من المؤكد» بدلا من عبارة «من المرجح» لأني اعتقد عن قناعة في تلك الجملة الذهبية التي كان الفيلسوف الفرنسي سارتر يرددها مرارا، وهي أن أي إنسان إذا ولدته أمه في هذه الدنيا، فإن الشيء المؤكد الوحيد في حياته، هو أنه سوف يموت.. وما عدا ذلك، يظل في خانة الاحتمالات، والترجيحات، والتخمينات.
الحبر لا يزال في يدي.. ثم في يدك إذا كنت مصريا أدى واجبه تجاه وطنه.. وما عدا الحبر، الذي أراه بعيني، وتراه أنت، لا شيء نستطيع أن نؤكده، لأننا، ببساطة.. لا نملكه!
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط