رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

العزب الطيب الطاهر يكتب "طبلية"و"لاب توب": إعادة إنتاج نظرية الأصالة والمعاصرة

العزب الطيب الطاهر
العزب الطيب الطاهر

ليس هذا عنوانا ميتافزيقيا لكنه يعكس واقعة عايشتها بشخصي. وبالتأكيد لا تبدو ثمة علاقة بين "الطبلية" وهي لمن لا يعرف تشبه مائدة الطعام لكنها منخفضة المستوى وبثلاثة أرجل، كانت تستخدم في الريف المصري على نطاق واسع في الأزمنة القديمة وعلى نطاق ضيق في هذا الزمان والـ"لاب توب"وهو الكومبيوتر المحمول الذي أضحى سيد العصر والأوان.

والواقعة التي عايشتها بشخصي تعود إلى قيام ابنتي الكبرى وهي فنانة تشكيلية وتعمل في مجال الصحافة الإلكترونية من خلال مجلة مصر المحروسة التي يصدرها قطاع الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة المصرية بشراء "لاب توب" أكثر تطورا وسعة من جهازي الضخم نسبيا الذي أحمله بحقيبتي التي تثقل كاهلي من فرط ثقله وكان ذلك مقبولا بحكم أنني أزعم مواكبتي للمتغيرات الحديثة رغم أنني بلغت من العمر عتيا.
وقد أقامت ابنتي ستارا حديديا على الـ"لاب توب " الخاص بها بحيث لا يكون بمقدور أي من أفراد العائلة - والذين دمروا جهازي كومبيوتر عاديين - الاقتراب منه وتقبل الجميع الأمر على مضض وفي حقيقة الأمر شجعتها أنا بشدة على فرض حالة حظر التجوال بالقرب من الـ" لاب توب " ليس لأنني مساهم في كلفة شرائه فهي التي اشترته من حر مالها بعد أن ظلت توفر من مرتبها على مدى أكثر من عشرة أشهر ولكن لقيامي بخطوة استباقية من هذا النوع بعد شرائي لجهاز الـ" لاب توب " الخاصة بي قبل أكثر من ثلاث سنوات خاصة بعد أن رأيت الهجمة التتارية على جهازي الكومبيوتر العاديين في المنزل وتحولهما إلى بقايا حطام تحملان ذكريات حواراتي ومقالاتي وكتاباتي الشعرية.
وحرصت ابنتي الكبرى على تخصيص مكان لها ولـ" للاب توب" بعيدا عن الأنظار فأحيانا تستخدم الطاولة الخاصة بتناول الطعام وأحيانا أخرى تجلس بالأنتريه في الصالة الواسعة بالشقة التي لاتطل على النيل رغم أن صاحبها الذي باعها لنا أكد هذه الحقيقة وأشار بإصبع سبابته إلى النهر الذي يبعد عن موقع العمارة التي تحتوي الشقة بحوالي كيلو متر مربع وإن كنا في بعض الأوقات نشعر برائحة النهر الخالد.
وأحيانا ثالثة تجلس فوق السرير المخصص للضيوف بالصالة ذاتها ولم يبد أي من سكان الشقة تبرما أو ضجرا من كل هذه الأساليب المتنوعة لاستخدام الـ " لاب توب ".
وذات مساء عدت إلى المنزل مبكرا أي في حوالي التاسعة مساء وذلك يعد بالنسبة لي مبكرا فقد اعتدت العودة بعد منتصف الليل أو قبله بقليل وفي معظم الأحيان بعده بكثير. أقول عدت مبكرا ومن فرط بهجتي بهذه العودة المبكرة والاستثنائية حملت معي في هذا المساء كيسا بلاستيكيا من بائع الفواكه الشهير في الشارع الذي يضم العمارة يحمل بضعة كيلوغرامات من فواكه الموسم وتعمدت أن أنوعها وفق رغبات بناتي الخمس لأن أذواقهن نادرا ما تتلاقى على نوع واحد أو نوعين فأضطر إلى انتهاج استراتيجية التنويع مع تقليل الكميات وأظن أنها استراتيجية ناجحة حتى الآن.
وبعد أن أفرغت الكيس على مائدة الطعام التي تكون أول ما تشاهدها عيناك بعد دخول الشقة والتفت حولي أربع من البنات وكانت الكبرى غائبة فسألت عنها فلم ينبس أحد ببنت شفة لتقديم إجابة عن مكان وجودها أو سر غيابها عن استقبالي ومشاركتي البهجة الاستثنائية بكيس الفواكه المتعدد الأنواع والقليل الكميات. وهددت بإعلان غضبي فنظرت إلى صغرى البنات بابتسامة تنطوي على معنى لم أسبر غوره ثم صحبتني إلى غرفة البنت الكبرى فشاهدتها منكبة في حالة أشبه بالغياب الصوفي لا تطرف عيناها يمينا أو شمالا شاخصة ببصرها إلى قريب وليس بعيدا وجهاز الـ" لاب توب "يجلس القرفصاء على طبلية تتمدد أمامها ودوت صيحة تلقائية منى: "طبلية "و"لاب توب " وكلاهما يخاصم الآخر وجودا وعدما. لا علاقة حضارية بينهما على وجه الإطلاق. فالطبلية تنتمي إلى قرون فائتة وتجاوزتها معظم القرى والبلاد والبشر والذين

استعانوا بطاولات وصوان وأشياء أخرى والـ"لاب توب " ينتمي إلى ثورة المعلومات المتدفقة وإلى عصر مغاير تماما كل شيء يتحرك فيه عبر الضغط على الأزرار.
سكنتني الدهشة أو قل الذهول واستعدت على الفور علاقتي الحميمة بالطبلية التي احتوتني بحنوها في منزلنا القديم بقريتي جنوب الأقصر. لم تكن مجرد مائدة للطعام الذي يتكون في معظم الأحيان من طبق واحد وعدة أرغفة أو ما يسمى بالبتاو وهو نوع من الخبز كان يعد من دقيق الذرة أو الشعير وكان ثقيلا على المضغ وعلى المعدة ولكنه لذيذ خاصة عندما يكون الإدام الذي نغسمه فيه ملوخية أو بامية والتي يطلق عليها "ويكا" بجنوب مصر
كانت الطبلية تقوم بوظيفة أخرى أكثر أهمية تتمثل في استخدامها كطاولة للمذاكرة وكنت أضع فوقها أوبجوارها اللمبة الجاز رقم 5 في معظم الأوقات أو رقم 10 عندما تتحسن الأحوال المالية للوالد. وذلك كان يتطلب مني تكليف واحدة من شقيقاتي بتنظيفها بعد تناول العشاء عليها خاصة أن الملوخية أو الويكا من الأنواع التي تترك آثارها الواضحة عليها وبالطبع لم يكن هناك مفرش أو يحزنون.
وصادقتنى الطبلية طوال سنوات دراستي حتى مرحلة الثانوية العامة التي حصلت على شهادتها بمجموع أهلني للالتحاق بجامعة القاهرة والتي تبعد عن الأقصر بحوالي 700 كيلومتر وعندما وطأت قدماي العاصمة التي كنت أشتهي الإقامة فيها وحلمت بها طويلا حتى أتخلص من الطبلية وأخواتها والتداعيات المحيطة بها فوجئت بها – أى الطبلية- ترافقني في ليلتي الأولى بمنزل عمتي التي استضافتني في عامي الأول وكانت تقطن بإحدى ضواحي العاصمة التي لم تكن الكهرباء قد أدركتها وبات مقدرا على استخدام الطبلية للطعام ثم للمذاكرة وأمامي لمبة جاز وإن كانت من نوع عشرة.
ورغم تنقلي في أماكن الإقامة بالقاهرة وفي شقق بالمعادى وقرب الجامعة والزيتون فإن الطبلية لم تغادرني وإن كانت غادرتني اللمبة الجاز وظلت رفيقتي حتى بعد زواجي في شقتي القديمة بمنطقة الزيتون والتي لم تكن غرفها الضيقة تسمح باستضافة مائدة طعام والتي دخلت شقتي التي لا تطل على النيل بعد الزواج بحوالي ربع قرن. ومع ذلك أعادت ابنتي الكبرى الحنين إلى الطبلية وسنينها عندما اشترت واحدة قبل أيام لتكون وسيلتها لتشغيل الـ"لاب توب " والاستمتاع بتحميل البرامج ورسوماتها ومتابعة وقائع ما يجري في المحروسة وغير المحروسة عبر الفيس بوك وجوجل والياهو عليها فتثير فينا البهجة والأشواق لزمن الطبلية الجميل وتعيد إنتاج نظرية الأصالة والمعاصرة التي افتقدناها بعد أن هيمنت على مفردات حياتنا الحداثة وما بعد الحداثة
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط