رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبدالله بن بجاد العتيبى يكتب: جدل الديمقراطية في الربيع العربي

عبدالله بن بجاد العتيبي
عبدالله بن بجاد العتيبي

أدارت عدد من وسائل الإعلام المصرية أوّل مناظرة رئاسية في العالم العربي بين اثنين من المرشحين للرئاسة بمصر حصلا على أعلى نسبة ترشيح حسب استطلاعاتٍ للرأي وهما السيدان عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح، وقد نجحت هذه الوسائل في إخراج المناظرة بشكل إعلامي منظّمٍ وجذّاب.

تمّت المناظرة في مشهدٍ مصري وعربي مزدحم بصناديق الاقتراع التي ملأت قاعات الانتخابات في دول محتجّةٍ كتونس ومصر كما في دول مستقرةٍ كالأردن والمغرب والكويت، وما هو أهمّ من هذا أن صناديق الاقتراع أصبحت تسيطر على المساحة الأكبر من مخيلة الأفراد ومن طموح التيارات وبالتالي ملأت وسائل الإعلام باعتبارها تمثّل الديمقراطية التي هي عينها المنقذ المخلص حسب هذا الخلط المتفشي.
إنّ الديمقراطية حسب نسختها التي تطوّرت في الغرب تمثّل تعبيرا سياسيا عن الجدالات بين مفاهيم ثلاثةٍ هي العدالة بما تشمله من الحقوق والمساواة ونحوهما، والحرية باعتبارها الناظم الأكبر للفكر الليبرالي الغربي الحديث، والسعادة أو الرفاه باعتبارها الغاية للفرد وبالتالي للمجتمع وللدولة.
غير أنّ ثمة سعيا حثيثا في العالم العربي لجعل الديمقراطية - كآلية لا كمفهومٍ - حاكمةً على مفاهيمها المؤسسة لها كالعدالة والحرية والسعادة أو الرفاه، ومن هنا انطلق في العالم العربي ضخٌ ثقافي وآيديولوجي ضخمٌ باتجاه اختزال تلك المفاهيم في آلية الديمقراطية أي صناديق الاقتراع فحسب، ولهذا فحين تصرخ الشعارات ضدّ الظلم والجور فإن الحلّ لا يكون في العدالة بل يصبح في آلية الديمقراطية، وحين يهتف الجميع ضدّ الكبت والتضييق فإن الحرية لا تبرز كغايةٍ ولكن تحتلّ مكانها الديمقراطية كآليةٍ، وعندما يطمح الجميع وتعبّر الجماهير ويندفع الأفراد للحصول على السعادة فإنّ الحلّ لا يكون في الرفاه بل آلية الديمقراطية تكفي، لتصبح صناديق الاقتراع وكأنّها فانوس سحري تتناثر منه كل الأماني والأحلام.
الفكر الغربي ثري وغني بالجدل والكتب والأفكار التي تناولت مفهوم العدالة في الفكر الحديث، كما تداول بشكل يوازي هذا الجدل نقاشاتٍ فلسفية وطروحاتٍ عميقة حول مفهوم الحرية، وليس أقلّ منهما البحث عن السعادة والرفاه، ولكنّهم أبدا لم يختزلوا هذا الجدل العميق والمثري في «آلية الديمقراطية» أو «صناديق الاقتراع».
إنّ لكل واحدٍ من هذه المفاهيم الفلسفية المؤسسة للديمقراطية تجلياتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية، عبرت عن نفسها بأساليب مختلفةٍ وبالتالي كان الموقف منها في العالم العربي مختلفا، فعلى المستوى السياسي يعتبر البعض أنّ الديمقراطية الغربية تمثّل نموذجا يجب تطبيقه في الداخل، ولكنّ هذا البعض نفسه يعتبر ذات السياسة حين تتجه للخارج مجرّد «هيمنةٍ، أمّا على المستوى الاقتصادي فالنظام الرأسمالي الغربي يعتبره كثيرٌ من المثقفين العرب إمبرياليا ويطرحون بدائل عنه يساريةً تارةً وإسلامية تارةً أخرى فيما يسمى بالنظام المصرفي الإسلامي الذي صنعته الجماعات الإسلاموية على عينها عقودا، أو نظاما مختلطا بين الاشتراكية والإسلاموية. أمّا اجتماعيا وحين سهل على الغرب تمدين المجتمع عبر مؤسساتٍ أهليةٍ ووسائل إعلاميةٍ، تلقّى بعض العرب هذا التجلي باعتباره «الغزو الثقافي».
يحسب بعض الكتّاب العرب أنّه من المعيب في زمن الثورات ألا تكون من دعاة الديمقراطية أو أن تقارن بين أولويتها وأولوية التنمية، أو أن تتوجّس منها خيفةً، حتى وإن تمّ ذلك في إطارٍ واقعي عملي وتاريخي فلسفي، للوهم الذي يبعثه لديهم تشابه الأسماء لا تطابق المعاني فيمنعهم بالتالي من فهم الديمقراطية كما نشأت في الغرب، ويحجب عنهم استحضار البيئة الثقافية والحضارية والدينية والاجتماعية التي ولد فيها مفهوم الديمقراطية كما التطبيق الحديث لآلياتها هناك، هذا إذا استبعدنا الدخول في

تجارب أثينا وروما في غابر التاريخ التي يحب الفلاسفة والمؤرخون التعريج عليها ولكنّها تمثل موضوعا مختلفا عن هذا السياق.
إن التطبيق الحديث للديمقراطية في الغرب مرّ بمخاضاتٍ شديدة الألم ودروب شديدة الوعورة، وبخاصة في فرنسا التي يستخدم البعض نموذجها لتشبيه الحالة الاحتجاجية في العالم العربي، والفروق هنا أكبر من أن تعشى عنها عين مطلعٍ فضلا عن مثقفٍ خاصة حين تبعدهما عن سلطة الجماهير وسطوة الغوغاء وهوس الأتباع.
إن آلية الديمقراطية هي تجلٍ سياسي وواقعي لطروحاتٍ فلسفيةٍ وفكريةٍ وحراكٍ اجتماعي لا تدفع به السياسة إلا بقدر ما يحرّكه الاقتصاد وقد كان تشارلز بيرد يرى أنّ الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية «كانوا مدفوعين بمبادئ الاقتصاد أكثر من مبادئ الفلسفة».
إنّ من الجيّد هنا استحضار أنّ الديمقراطية السياسية الحديثة في الغرب لا تعدو كونها تجليا للثقافة الليبرالية الفردانية التي رسخت أقدامها عبر قرونٍ حتى استطاعت تجاوز ثوابت اللغة والعرق والدين إلى الرابطة الوطنية، التي مكنت بالتالي من إنشاء وعي حقيقي واسع الانتشار بهذه الديمقراطية بوصفها آليةً سياسية فاعلة ونشطة وليست بالضرورة عادلةً في تمثيلها للشعب أو في نتائجها، فلقد جاء على أكتاف هذه الآلية ديكتاتوريون شرسون كما هو هتلر بألمانيا وستالين بروسيا، حيث دفعت أوروبا والعالم معها ضريبة انحياز آلية الديمقراطية لخصومها عبر صناديق الاقتراع.
حين فعّلت آلية الديمقراطية فإنّ تاريخ الفلسفة العريق لم يشفع لبلدٍ مثل ألمانيا ولم يحمها من نازية هتلر، كما لم تشفع قبله فلسفة الأنوار التي يختزل التاريخ الفرنسي أكثرها من خروج أمثال روبسبير وثلاثين عاما في العتمة والاستبداد، غير أنّه ولئن لم يشفع ذلك التاريخ والتراث بمنع خروج مثل هذه الظواهر السياسية الشرسة حين التطبيق إلا أنّه منح الفرصة والأرضية لفضحها وتعريتها في أوج سلطتها وشراستها، ما مكّن لاحقا من الاستدراك وإعادة صياغة المشهد السياسي وفقا للإرث الفلسفي النقدي التراكمي المستمر لعقودٍ تجاه كل شيء ولكن تحديدا تجاه سلطتين: الدينية في عصر النهضة والسياسية فيما بعد عصور الأنوار.
أخيرا، فإنّ منظري الديمقراطية كمفهومٍ شاملٍ لن يستطيعوا الوقوف أمام مدّ المتطرفين في اللحظات الثورية فلدى المتطرفين كما يرى كرينتن «مائة وسيلةٍ» للانتصار أو التخريب و«لا تعوقهم أي عقائد في الحرية ربما عبّروا عنها في أوقاتٍ أخرى».
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط