رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الثورة والإصلاح في الميزان

عبدالمنعم سعيد
عبدالمنعم سعيد

لا تزال مفاجأة «الربيع العربي» تهز أوساط النخب السياسية والفكرية وحتى الأكاديمية العربية من زاويتين: الأولى أن أحدا لم يتنبأ بما جرى؛ كان هناك حديث عن الظلم، والحراك السياسي وزواج السلطة والثروة، ولكن أن يؤدي ذلك إلى ثورة مثل التي رأيناها فقد ظل ذلك دائما من المحال.

والثانية أن ما جرى كان من حيث الكم والكيف والتعقيد أكبر من كل الأحلام والكوابيس جنونا، سواء داخل النخب الحاكمة أو حتى لدى الجماهير الشعبية التي تدافعت لتشارك في الثورات عندما جرت، والتي لا تزال تراقب وتزن الأمور عندما فضلت الانتظار على الاندفاع لكي يتم مشاهدة التجربة وهي تجري على أرض الواقع.
لم يكن معنى ذلك أن النخب الحاكمة كانت بعيدة تماما عن الواقع، بل كان في داخلها جماعات إصلاحية كانت قادرة على شرح القلق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الجاري. وفي مصر وحدها كان عدد مرات وأشكال الاحتجاج الجارية في عام 2004 نحو 222 وقفزت إلى 690 في عام 2009، وفي العام التالي مباشرة بلغ المتوسط العام للحركات الاحتجاجية خمسا يوميا. وهكذا لم تكن الثورة بعيدة منطقيا، ولكن التعامل معها جرى وفق منهجين؛ أحدهما إصلاحي والآخر محافظ. كان الإصلاحيون يرون أنه من الممكن تفادي الثورة إذا ما سبقت السلطات الحاكمة «منحنى» الغضب المتراكم من خلال إصلاحات جدية في النظام السياسي تكفل تداول السلطة ومشاركة أجيال جديدة شبت عن الطوق ولم تر طوال حياتها سوى نفس الحكام الذين فقدوا طبيعتهم «الأبوية» التقليدية في عصر جديد متميز بالتكنولوجيا فائقة السرعة والحراك الاجتماعي المتواصل والاحتكاك الذي لا يتوقف بالعالم الخارجي، حيث يحصل الكل على نصيب من السلطة والثورة. لم تكن أهداف الإصلاحيين طموحة كثيرا، وفي مصر بدا ذلك أحيانا ممكنا عندما قبل مبارك بعد سنوات طويلة من الرفض فكرة تعديل الدستور. ومع ذلك عندما تم التعديل بالفعل ظهر أن تغييرا يُذكر لم يحدث.
كان المحافظون يستندون إلى مجموعة من الحجج التي تستبعد الثورة، وكان أولها أن «الديمقراطية» والمشاركة من المطالب النخبوية للتشبه بالبلدان الغربية، ولكنها ليست من المطالب الشعبية. لم يكن هناك «طلب» إذن يحتاج إلى عرض مقابل، وحتى داخل الحركات الاجتماعية الاحتجاجية فإن المسألة الاقتصادية هي جوهر الموضوع، ومن ثم بدا الخبز سابقا على الحرية. وكان ذلك ثانيا هو ما يدعيه المحافظون، فمن المدهش أن تحدث الثورة بينما كانت تونس ومصر في أفضل أحوالهما الاقتصادية، وفق كل المؤشرات المعروفة للنمو الاقتصادي. وليس صحيحا أنه كان هناك (على الأقل في مصر) خلل فادح في توزيع الثروة. وحسب كل المقاييس الاقتصادية، فقد كان توزيع الثروة في مصر أفضل حالا منه في البرازيل أو الصين أو جنوب أفريقيا أو تركيا أو الهند أو حتى الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن التحسن في الأمور الاقتصادية كان في جوهره أحد محركات الثورة لأن الجوعى لا يثورون وإنما يثور الذين يعتقدون أنهم - بعد أن ذاقوا الثروة - من حقهم المشاركة في توزيعها، وهو ما لا يتحقق إلا من خلال إنهاء احتكار السلطة السياسية.
وثالثا كان هناك تصور سائد، ولا يزال ذلك شائعا في الدول العربية التي لم تحدث لها ثورة، أن ما يجري من قلاقل في بلادهم لا يمكن أن يتحول إلى ثورة نتيجة الطبيعة السياسية السائدة في البلاد. «هذه الطبيعة السياسية السائدة» كثيرا ما تكون من صنع الإعلام، والاستقبالات المزيفة لرئيس الدولة، وأحيانا أخرى تستقر نتيجة وضع تاريخي أو تركيبة قبلية أو سيطرة طائفية.
ورابعا أن الجماهير، وهي عاقلة هذه المرة، تميز ما بين وضع قد لا ترضى عنه، والبديل الذي سوف يأتي، والذي هو واحد من اثنين: الفوضى أو البديل الإسلامي. لم يكن ذلك بعيدا كثيرا عن الحقيقة، فقد كان ذلك هو ما جرى فعلا في دول الربيع العربي، حيث غرقت إما في الفوضى أو سيطر عليها «البديل الإسلامي» أو كلاهما معا. وفي

مصر هذه الأيام، وعلى الرغم من سيطرة الإخوان المسلمين على السلطة التشريعية، فإنها مصممة على عقد مظاهرات مليونية في ميدان التحرير لكي تستحوذ على ما يقال عنه «شرعية الميدان» مع «شرعية البرلمان». ولكن مع هذا التنبؤ الصحيح، الذي عرف في الأوساط الليبرالية بـ«الفزاعة»، وجدت الجماهير أنها ربما تكون أفضل حالا إذا ما قامت بالمحاولة والتجربة.
وببساطة كانت «المحاولة» و«التجربة» وحق الاختيار هي ما تبحث عنه الجماهير والشعوب بينما النخب الحاكمة مصابة بالحيرة من هذه الخيارات العقيمة، طالما أن الأحوال دائما على ما يرام. والحقيقة أن الأحوال لم تكن أبدا على ما يرام، وفي دول كان التقدم فيها أقل مما يجب عند توزيع الثروة، وفي دول أخرى كان التقدم الاقتصادي والتوزيع كافيا حتى ولو لم يكن عادلا، وفي الحالتين لم يكن النصيب هو القضية وإنما عملية التوزيع ذاتها هي الموضوع. وكان هذا ما يدركه الإصلاحيون حينما أرادوا أن يسبقوا منحنى التغيير وبسرعة أكبر من الحراك الاجتماعي والسياسي الجاري، ولكن المحافظين في السلطة كانوا يرون ذلك دائما كثيرا ويمكن تجنبه، بل إن مزيدا من الإصلاح كان يعني فتح الشهية للتمرد والثورة. على أي الأحوال حدث التمرد والثورة في بلدان، ولم يحدث في أخرى، وبقيت القلاقل الكبيرة والصغيرة في ثالثها، ولكن الثورات سرعان ما وقفت غير مصدقة ما نجم عن الثورة من نتائج. وفي مصر اليوم هناك حالة من الاعتذارات الكبرى لأن الثورة خذلت الشعوب حينما لم تلتحم بها أولا، ولأنها ثانيا تركت الساحة لقوى رجعية لم تدفع في اتجاه الثورة أبدا لكي تقطف الثمرة الناضجة حينما حان وقتها بقدرة ومهارة.
المدهش في الأمر كله كما يبدو هو أن الإصلاحيين فشلوا في إقناع الحكام بأن يسبقوا منحنى التغيير في بلادهم بأثمان معقولة، وتكون سببا في تقدم البلاد دون أن تعرضها إلى ما لا طاقة لها به من عنف وفوضى. وسواء التحق الإصلاحيون بالنظام حتى يمكن إصلاحه من الداخل أو بقوا في الخارج حتى لا يفقدوا استقلاليتهم، فإن النتيجة لم تكن فقط إسقاط النظام وإنما وقوعهم هم في ضرر بالغ حيث جرى حسابهم على نظام كانوا يحاولون إصلاحه. الثورة في جانبها كان ثمنها عاليا من الأرواح والجرحى وأشكال مختلفة من التدمير المادي والمعنوي، ولكن نتيجتها كانت استبعاد الثوار الأول وسقوطهم من حالق، بل وطردهم أحيانا من ساحات الثورة ذاتها بعد أن احتكرها تيار جاء من أزمنة قديمة ولا يزال لديه مشكلة في التعامل مع عصر وعالم. سقط الإصلاح والإصلاحيون، وشحبت الثورة والثوار، وفاز التخلف!
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط