رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

صلاح سالم يكتب : الفكر العلماني العربي وخبرة التنوع الأوروبي

الحياة
الحياة

أخذ الفكر العربي، منذ عقود، يتخلى عن دعوته الصريحة الى مفهوم العلمانية، تحت ضغط الاتهام بالإلحاد أو ما يشبه من انتقادات، متراجعاً الى مفاهيم جزئية تعكس جانباً واحداً من جوانب المفهوم أو تخاطب جزءاً من الفضاء الواسع الذي يشمله من دون آخر، وذلك من قبيل «الدولة المدنية» أو «الدولة الحديثة» أو «دولة القانون» وغير ذلك من مصطلحات. كان هذا هو السياق الفكري السابق على اندلاع عاصفة الربيع العربي التي أحالها الإسلام السياسي بفعل ادعاءاته اللاتاريخية، وكذلك بتمركزاته القارّة والصدئة في وعي مجتمعاتنا، الى خريف ثقيل الوطأة، يكاد يفتك بحال السلم في مجتمعاتنا وليس فقط بحال الحرية فيها، حيث أتت العاصفة على الأخضر قبل اليابس لدينا.

لقد رافق الفكر العلماني العربي نقيضه الديني، من دون قدرة على حسم الصراع معه في أوقات مبكرة، تمتد في الربع الثالث من القرن الفائت، وفي ظل سياقات مواتية أكثر بالقياس الى ما نعيشه الآن، ما يمثل فرصة ضائعة على الأمة، انفلتت من قبضة يدها قبل أن تحسم واحدة من أخطر مشكلاتها العملية وإشكالاتها النظرية، تحت ضغط الاستبداد العسكري المتغلغل في ثناياها، والذي طالما نافق الاستبداد الديني بهدف استعماله في كبح النزعات التحـــررية التي سوف تترتب على المجاهرة بعلمانية ناجزة لا تذهب الى غايتها الطبيعية وهي الديموقراطية وما تنطوي عليه من مطالب مجتمعية مشروعة لتبادل السلطة، ولكنها ليست مشروعة أبداً في نظر تلك الجماعات المسيطرة والتي بدا وكأنها قد وضعت يديها على مجتمعاتنا.

اليوم، بعد المآسي التي خلّفها الخرىف الإسلامي، صارت مجتمعاتنا أحوج ما تكــــون لإنجاز علمانيتها خلاصاً من أمراض السلـــطة الجامدة، وأسئلة الشرعية المجمــــدة ناهيك بالواقع المهترئ، ومن ثم يتــــوجب على الفكر أن ينتقل من خانة الدفـــاع الى موقع الهجوم. صحيح أن الأرض لا تزال محترقة والاستبداد لا يزال مسيطراً، ولكن تبقى الفرصة متاحة لمثل هذا الهجوم مثلـــما أن الحاجة اليه ماسة، ذلك أن الفترات القلقة من عمر الزمن والتي تشهد تشككاً في اليقينيات السياسية والدينية، كالتي نعيشها اليوم، هي نفسها الفترات التي يُقبل فيها الناس على تمحيص مفاهيمهم المستقرة، مع إمكان قبول أخرى جديدة، حيث مفهوم العلمانية يمثل فريضة الوقت، التي لا يجب تأجيلها الى الغد.

غير أن نجاح مثل هذا الهجوم يتطلب التـــحلي بأكثر درجات المرونة الفكرية، والتخلي عن حال التصلب التي تورط فيها مراراً كثيرون من رواد الفكر العلماني العـــربي وقــــوعاً في فخ الخطاب التبسيطي، والطـــروحات الحدية للإشكالية التي انبروا للدفاع عنها، حيث الحاجة شــــديدة إلى أكثر الوسائل نجاعة في بناء الجسور وتدعيم المشتركات وصياغة تيار رئيـــسي يحملنا الى المستقبل رغم ممانعات متصورة وتيارات مناوئة لا يمكن القضاء عليها نهائياً، ولكن تمكن إزاحتها الى الخلف أو إحالتها الى هامش يعارض ولا يعطل. كما يتطلب استدعاء أكثر التجارب تصالحاً ونجاحاً على صعيد الممارسة التاريخية حيث تندرج تجارب ونظم متعددة تفصل جميعها بين الدين والدولة، وتتفق على مبدأ أساسي يتمثل في رفض الوصاية الكهنوتية على المصير البشري، وادعاءات فئة من الناس بالحق في احتكار المعرفة في أي شأن دنيوي، على أساس أنه متاح لها وحدها معرفة ما الذي يريده الله منا خصوصاً في الشأن العلمي أو السياسي، ومن ثم توكيد الفصل بين الديني والزمني. لكنها، وعلى قاعدة هذا المبدأ، تتفاوت في كيفية توكيد هذا الفصل وذاك الرفض. فمثلاً

قام النموذج الفرنسي/ اليعقوبي في القرن الثامن عشر على قاعدة الفصل الخشن، وإقامة التناقض الجذري بين الدين والعلمانية، والهجوم على الكنيسة ومحاولة قنص ممتلكاتها، وحصار دورها ليس فقط في المجال السياسي بل أيضاً في المجال الاجتماعي/ المدني. ولكن ثمة تجارب أخرى نهضت على قاعدة التصالح والتسامح ومن ثم الفصل الناعم بين المجالىن بهذه الدرجة أو تلك.

فالنموذج البريطاني، على سبيل المثل، يختـــلف تماماً عن النموذج الفرنسي، حيث رأس الدولـــة هو نفسه رأس الكنيسة، وحيـــث الملكــية دستورية ومدنية وليبرالىة على النمط البرلماني الذي يمثل تجسيداً للتراث البريطاني التالي على ثورة كرومويل التي أفضت الى إعدام الملك شارلز الأول (1949)، وشرعت لدور البرلمان في مواجهة المؤسسة الملكية. ورغم سقوط جمهورية كرومويل وعودة بريطانيا الى النظام الملكي مع الملك الابن شارلز الثاني عام 1660 ثم جيمس الأول حتى عام 1689، فإن دور البرلمان قد ازداد وترسخ نهائياً وفرض نفسه على التطور السياسي لبريطانيا، التي غادرت موقع الثورة ولزمت طريق الإصلاح التدريجي على طريق الملكية الدستورية منذ ثلاثة قرون ونصف القرن لتعطينا درساً بليغاً في كيفية التطور من داخل الاستمرار، وفي كيفية الدمج بين الدين والعلمانية وفي الفصل الناعم بين الدين والدولة.

أما النموذج الألماني فيقدم خبرة ثالثة يمكن القول إنها وسيطة بين الخبرة الفرنسية ونقيضتها البريطانية، حيث أن الحزب الحاكم في ألمانيا الىوم، والأكثر سيطــرة على مقاليد الأمور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (الديموقراطي المسيحي) يمثل حزباً مدنياً الى أبعد مدى، لا يُكفِّر منافسيه خصوصاً الاشتراكيين، بل يحترم نظام الحكم العلماني للدولة، ويعكس ديموقراطية سياسية ربما اتسمت فقط بنـــوع من المحافظة التي تحترم المطلقات الأخلاقية المسيحية من قبيل رفض الإجـــهاض والمثلية الجنسية على سبيل المثل، فهو أقرب الى التعبير عن مسيحية حضارية لا تمت بصلة الى المسيحية السياسية القروسطوية، ولا الإســـلام السياسي من قريب أو بعيد، ومن ثم فــإن النموذجيـــن الأخيرين يعطيان العالم العربي أملاً في حل الإشكالية وأفقاً للتطور الســــياسي عبر بناء نظم حكم علمانية ودول مدنية لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا مـــع القيم الأخلاقية الإسلامية، ومن ثم لا تتصــــادم مع مشاعر الجماهير العريضة بل فقط مع ادعاءات الإسلاميين السياسية.

 نقلا عن صحيفة الحياة