رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

في رثاء رجل نادر

فهمي هويدي
فهمي هويدي

كل الذين عرفوا محجوب عمر أحبوه وبكوه، لكن قليلين هم الذين فهموه. الجميع رأوا فيه إنسانا نبيلا ومناضلا من الطراز الأول، إلا أنني أزعم أنه كان إنسانا نادرا بلا نظير تقريبا. والذين تحدثوا عنه باعتباره ابنا للحركة الشيوعية المصرية، وقفوا عند فترة معينة في تاريخه،

لم ينكرها الرجل لكنه تجاوزها بمراحل إلى الحد الذي دفعه حين التحق بالمقاومة الفلسطينية عام 1969 في عمان لأن ينضم إلى حركة فتح وأن يرفض الانخراط في المنظمات اليسارية العاملة هناك (الجبهتان الشعبية والديمقراطية). وقال لي الأستاذ عبدالقادر ياسين اليساري الفلسطيني الذي رافقه في سجن الواحات والتقاه في عمان إنه في تلك المرحلة لم يكتف بالابتعاد عن الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وإنما نأى بنفسه أيضا عن يسار فتح وصار أقرب إلى القياديين ياسر عرفات وخليل الوزير (أبوعمار وأبوجهاد)، لذلك أصبح يحسب على التيار الوطني وليس اليساري. مما يذكره ياسين أيضا أن محجوب عمر أمضى عشر سنوات في سجن الواحات (من عام 54 حتى 64) رغم أنه كان محكوما عليه مدة ثماني سنوات فقط لأنه كان مسؤولا عن خلية الحزب الشيوعي في جامعة إبراهيم باشا (عين شمس حاليا). والسبب في إطالة المدة أنه طلب منه وقت إطلاق سراحه أن يسجل إدانته لما فعله ويتعهد بوقف نشاطه، لكنه رفض التوقيع على ذلك الإقرار الذي وقع عليه آخرون. وحينذاك أعيد إلى السجن مرة أخرى كمعتقل، حيث أمضى سنتين قبل أن يطلق سراحه بعد ذلك. وبعد خروجه ظل محتفظا باسمه الحركي الذي كان يستخدمه خلال فترة عمله السري، حتى عرفه الجميع باسم محجوب عمر ونسوا رءوف نظمي، واسمه المدون في شهادة الميلاد.
الكتابات المحدودة التي تعرضت لسيرته قدمت رحلته وذكرت فضائله، لكنها تضمنت معلومة غير دقيقة، حين ذكرت أن الرجل اشترك في الثورة الجزائرية، وهو استنتاج انبنى على أنه سافر إلى الجزائر بعد أربع سنوات منذ خروجه من السجن. والحقيقة أن الثورة الجزائرية انطلقت وحققت انتصارها وهو في سجن الواحات. وكان ذهابه إلى الجزائر في سنة 1968 (بعد ست سنوات من الاستقلال عام 62) ليعمل طبيبا هناك. ومن الجزائر انتقل إلى فرنسا ثم إلى عمان حيث انضم إلى مقاومة الاحتلال الصهيوني. وهي القضية التي نذر نفسه لها حتى لحظة وفاته هذا الأسبوع.
أما لماذا هو إنسان نادر، فلأنه كان رجلا مفتوح العقل والقلب، وعابرا للأيديولوجيات، بحيث اختار أن يرتفع فوق كل انتماء

له. وأن يجعل النضال من أجل القضية الفلسطينية محور حياته وموضوع نضاله. وقد كان صديقنا الراحل عادل حسين ممن لمسوا ندرة معدنه، لذلك أصبح من أقرب المقربين إلى قلبه. وحين كان يرأس تحرير صحيفة «الشعب»، ظل محجوب عمر أحد كتابها الأساسيين حتى توقفت عن الصدور. ورأيته في جنازة عادل حسين يذرف الدمع الغزير حزنا على فراقه. كما لحظته وقد دخل المسجد على كرسيه المتحرك أثناء الصلاة على جثمانه.
النموذج الذي قدمه محجوب عمر يجسد لنا أهم ما نفتقده هذه الأيام بالذات. إذ إنه بارتفاعه فوق الأيديولوجيات، وتطهره من الرواسب والمرارات واختياره الموقف الصحيح من القضية المركزية وانخراطه، في إنكار مدهش للذات، مع كل من التقى معه على الهدف، بصرف النظر عن هويته أو مِلَّته أو جنسه. إذ لم يكن يهمه من يكون الشخص، لأنه كان مهجوسا بشيء واحد هو موقفه من قضايا الوطن والمستقبل.
نفتقد محجوب عمر بشدة هذه الأيام، التي نشهد فيها استقطابا وتنازعا على الأنصبة واقتتالا بين ركاب السفينة، ناهيك عن الادعاء والتهريج والاتجار بالثورة والوطنية. نفتقد ذلك الاستعلاء فوق الصغائر وذلك الصفاء في الرؤية والنظر، وذلك الزهد في الأضواء والمناصب، وذلك الإدراك العميق لقيمة احتشاد الشرفاء دفاعا عن مصالح الوطن وأحلام البسطاء.
كأن الأقدار اختارت له أن يظل مغمورا ومنكرا لذاته حتى في لحظة رحيله، التي حجبها تزامن تلك اللحظة مع حدث وفاة البابا شنودة الذي أغرق مصر في بحر من الحزن. ولأن الأخير أعطى ما يستحقه، فقد وجدت أنه من الإنصاف أن نعطي محجوب عمر أيضا بعض ما يستحقه.
نقلا عن صحيفة الشروق القطرية