عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

فاصل ونعود.. ابقوا معنا لكي نتمكن من العودة!

بوابة الوفد الإلكترونية

جاء صوته عبر الهاتف وهو يستغيث بالمذيعة في تعاسة: نحن نحو مائة موظف في وزارة المالية، وكلاء وزارة ومديرو عموم، ومحاسبون.. مبنى الوزارة الآن محاصر بعدة مئات من الأشخاص المسلحين بالأسلحة البيضاء، يقولون إنهم من مصابي الثورة، ويطلبون إعطاءهم الشيكات الخاصة بهم، أسماؤهم ليست موجودة في كشوف المصابين، ولا نعرف عنهم شيئا، ولا أحد يعرف عنهم شيئا.. أرجوكم الحقونا.. الحقونا قبل ما يدبحونا.

- هل اتصلتم بالقوات المسلحة؟
- نعم.. اتصلنا ولم يأت أحد.
- هل اتصلتم بالشرطة؟
- نعم.. اتصلنا ولم يأت أحد.
- حاضر.. سنحاول نحن الاتصال بهم.. (ترفع رأسها وصوتها وهي تتكلم مع فريق العمل في غرفة الكنترول).. شوفوا لنا الحكاية دي يا جماعة.. بس بسرعة قبل ما يحصل لهم حاجة.
وبعد مرور نصف ساعة قالت المذيعة في ارتياح وزهو: أنا عاوزة أطمئن السادة المشاهدين إلى أنه قد تم فك الحصار عن موظفي وزارة المالية وأنهم خرجوا بسلام من الوزارة.
أريدك أن تلاحظ أن الجماعة المحاصرة في وزارة المالية بعد فشلها في الحصول على النجدة من الجهات المسؤولة، كتب الله لها النجاة بعد أن اتصلت بالبرنامج التلفزيوني، على الرغم من صعوبة الاتصال في هذه الأحوال أو استحالته. معنى ذلك أن هناك رقما سريا خاصا بكل فضائية يعرفه المواطنون المحاصرون أو المعرضون لخطر داهم. أنا شخصيا فشلت في الاتصال بأي برنامج لسنوات طويلة، من خلال الأرقام المعروضة على الشاشة، بالتأكيد هناك أرقام يعرفها هؤلاء المساكين. غير أن صديقا لي من خبراء الاتصالات قال لي إنه لا توجد أرقام سرية ولا يحزنون، بل هو برنامج يتم تغذية الكومبيوتر به واسمه «نجدة المستغيثين والملهوفين»، وهو برنامج يعمل ببصمة الصوت، فعندما تطلب إحدى الفضائيات تليفونيا لتبلغ عن مشكلة يمكن تأجيل حلها ليوم أو يومين أو عدة شهور أو سنوات، وهو الأمر الذي يتضح من خلال صوتك، يتجاهل البرنامج مكالمتك، غير أنه يلتقط المكالمات التي امتلأت برنات العذاب والضياع والتعاسة.. مثل «الحقونا.. أغيثونا.. سرقونا.. حا يموتونا.. إلخ إلخ». هكذا تكتسب مكالمتك أولويتها ويرد عليك المذيع أو المذيعة.. إنها تكنولوجيا العصر يا صديقي.
طبعا أنا لم أصدقه غير أنني انشغلت بالتفكير في تلك العلاقة الغريبة التي تربط الإعلام بالكوارث، لماذا يكون الإعلام مؤثرا بالفعل في حالة الكوارث، لقد اتصل المحاصرون ولم يستجب لهم أحد، ثم اتصلوا بالإعلام فجاءت النجدة؟
دعنا نبحث عن الإجابة عند عالم النفس الشهير يونج الذي يرى أن العقل البشري يشبه دفتر الأحوال الموجود في أقسام الشرطة، كل ما حدث للبشر أو منهم على مدى التاريخ مسجل على صفحات هذا العقل، غير أنه لصالح البشر يقوم بتخزين هذه الوقائع بعيدا في لا وعي جمعي، غير أن هذه الوقائع لا تفقد تأثيرها مطلقا على وعي الإنسان، إذ هي بين الحين والآخر عندما تسمح لها الظروف، تقفز على سطح الوعي لتعيد إنتاج الواقعة القديمة. أنا أعتقد أن أخطر الظواهر الإعلامية التي عرفها وتمتع بها المصريون لمئات السنين، هي موكب «التجريس» أو «الجرسة»، وهي صوت الأجراس. إنه ذلك الموكب أو التظاهرة التي تعاقب فيها السلطة أحد المواطنين لخطأ أو جريمة ارتكبها، يقيد ويركب حمارا ووجهه إلى الخلف بعد أن يعلق على رقبته وجسمه عدد من الأجراس ويمشي في موكب تنضم إليه الجماهير الفرحة بالمشهد. ثم عدد آخر يلعبون دور المذيعين.. هذا المجرم الوغد.. فعل كذا وكذا.. وعلى الفور تتصاعد الشتائم من الجماهير، بالإضافة بالطبع إلى راجمات الطوب والأقذار وكل ما تستطيع أيدي الجماهير الفرحة الوصول إليه. لا بد أن هذه الصورة محفورة في مكان بعيد في لا وعي البشر تدفعهم للخوف من الإعلام، إنه الخوف من التجريس. ولكن الخوف من الإعلام مبطن بعشقه والحرص على الوصول إليه. فالجرسة لها طرفان، طرف يعلن ويذيع، وطرف آخر يقود الموكب، وعليك أن تكون ضمن الأخير.
قضية أخرى اهتم بها الإعلام.. اعتصم عدد من النواب بمجلس الشعب، ولم يعلنوا بوضوح طلباتهم، غير أنها لن تخرج عن رحيل المجلس العسكري ورحيل الحكومة المدنية وتطهير الإعلام وتطهير القضاء

وتطهير التربية والتعليم وتطهير وإعادة هيكلة وزارة الداخلية، بالإضافة بالطبع إلى تطهير بقية الجهات التي يتضح أنها في حاجة إلى تطهير، وهو الأمر الذي يحتاج كما ترى إلى كميات من الديتول أشك في وجودها في كل صيدليات العالم!
اعتصم النواب في مجلس الشعب بغير موافقة رئيسه وبغير استعداد لمتطلبات الحصار، ومنها الطعام بالطبع، فخرج أحدهم لشراء طعام وشراب وبعد عودته رفض حرس المجلس دخوله طبقا للأوامر المعطاة لهم، وهي عدم دخول مخلوق إلى المجلس ليلا. وجاءت كاميرات الإعلام بالطبع، وقضى الرجل ليلته خارج المجلس بعد أن أمده أحد المواطنين ببطانية (عدد كبير من المواطنين في مصر الآن يمشون مسلحين ببطانيات لزوم الاعتصامات المفاجئة) ماذا كان الخطأ؟!
الواقع أن هناك خطأين، الأول هو انعدام الديمقراطية في القرار بعدم دخول النواب إلى المجلس ليلا، لأن في ذلك تمييزا للنهار على الليل.. الواقع حياتيا وديمقراطيا أن النهار مساو في الحقوق والواجبات لليل. أما الخطأ الثاني فهو أن النواب المعتصمين لجأوا للحصول على طعام إلى الطريقة التقليدية قبل الثورة، وهي: روح يا فلان من فضلك هات لنا أكل ومايه!
لقد تجاهلوا تكنولوجيا الاتصال الحديثة التي كانت سببا مهما في نجاح الثورة، كان عليهم أن يرسلوا رسالة موحدة إلى أهل دوائرهم الانتخابية من خلال التليفون الجوال: نحن النواب المعتصمين بمجلس الشعب نشعر بالجوع والعطش.. يا تلحقونا، يا ما تلحقوناش.
بعدها بلحظات كان الآلاف من الناخبين سيأتون لهم بكل ما لذ وطاب، أكيد سكان شارع قصر العيني كانوا سيقيمون جسرا من الكباب والكفتة بين محل «أبو شقرا» وبين المجلس. أما سكان حي المدبح والسيدة زينب فمن المتوقع أن يندفعوا حاملين عدة كيلومترات من حبال الممبار، وتلالا من الكبدة والفشة والطحال. أما سكان حي قصر النيل، فمن الطبيعي أن يتحركوا بسرعة بحمولات كبيرة من ساندويتشات الهمبورغر و«الماكدونالدز» وزجاجات المياه الغازية والكنافة والبقلاوة. أنا واثق أن الشعب المصري من الممكن أن يتحمل آلام الجوع، غير أنه من المستحيل أن يوافق على أن يجوع نوابه الذين أرسلهم إلى مجلس الشعب ليعتصموا هناك.. نجوع نحن ولا يجوع نوابنا!
الأوامر المعطاة لحرس المجلس هي منع البشر من الدخول ليلا وليس الطعام. ولذلك سيجدون أنفسهم مطالبين بإيصال هذا الطعام بأنفسهم إلى النواب.
أيها السادة النواب، المعتصمون وغير المعتصمين، أنتم لستم نوابا فقط، أنتم القدوة والأسوة الحسنة، في ملابسكم وطريقتكم في التفكير وفي صياغة كلماتكم، لا تقلدونا في عيوبنا بل دعونا نقلدكم نحن في كل سلوك عظيم.
ويا كل سكان وحكومات عواصم الأرض، تحملونا قليلا.. هذا فاصل رديء في تاريخنا، فاصل ونعود.. ابقوا معنا.. لكي نتمكن من العودة.. لا تتخلوا عن الشعب المصري.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط