رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

صعقة النخب

في ظل الأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية المشحونة والمضطربة في العالم العربي، منذ اندلاع حركة الاحتجاجات والهبات الشعبية مطلع العام الماضي، تطغى النزعات الكيدية والرغائبية المشوبة بالعواطف المنفلتة ونوازع التشفي، على كثير من التداولات والقراءات التحليلية الذاتية للأوضاع الجارية.

وقد يكون الاضطراب واللايقين هما القاسم المشترك في كل تداعيات تلك الانتفاضات الشعبية العارمة وغير المسبوقة التي اجتاحت العالم العربي شرقاً وغرباً ومحصلة نتائجها الأولى التي بدأت تترى رويداً رويداً .

وبالكاد يستطيع المرء المراقب إحصاء من تمكن، سواء من الأحزاب أو الحركات الاجتماعية أو النخب الثقافية المتوزعة، فردياً أو جماعياً، على قوس الاستقطابات الذي شُرعت أبوابه تحت وقع صيحات النفرة والفزعة المندفعة فجأة من كمونها المريب في اللاوعي . بالكاد يستطيع إحصاء من تمكن من الإبقاء على نفسه بمنجاة من هذا “التيه” الذي يصعب التنبؤ بمآلاته، خصوصاً في ظل استمرار زخمه بموجات متقطعة، مستفيدة من الخزين الوفير للسخط المتولد من “بركات” الاستبداد بالغة الكرم والعطاء .

حتى معشر الحكماء الذين أطلوا برؤوسهم لوهلة في خضم حالة البلبلة والاضطراب السياسي التي سيطرت على الشارع المصري إبان، وفي أعقاب، نجاح ثورة 25 يناير في إطاحة رأس وبعض من رموز النظام السابق، والذين كانوا من بين من أفرزتهم أحداث الثورة، بارقة أمل توسم المحيطون بقوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات فيها خيراً يمكن أن يبدد القلق الذي راح يتسرب إلى نفوسهم من جراء فداحة وهول مخاطر عدم السيطرة على جموح عوامل التفخيخ والتفجير المحدقة بدول المنطقة وشعوبها من كل حدب وصوب، حتى ذلكم النفر من الحكماء والعقلاء سرعان ما اختفى وذاب وسط الضجيج وموجات السخط العارم وتكالب المتكالبين .

ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يشي، بمعنى من المعاني، بأن “البنية التحتية” للعقلانية وللتفكير العقلاني الرشيد في العالم العربي . غير متوافرة كما يستلزم أن تكون عليه، أو أنها غير مكتملة الأركان والشروط في أحسن الأحوال . المجتمع المدني ضعيف البنية بسبب حداثة التكوين نسبياً (الحديث يدور هنا عن حالة المأسسة)، واستقلالية المؤسسات المعاصرة والأفراد هي الأخرى نسبية، حيث نجحت القوى المهيمنة على أجهزة التسيير الحكومية في تضخيم وتحويل الدولة إلى تنين متغول ومتوغل في حياة المجتمعات العربية، وأحالت سكانها من مواطنين، وفقاً للنصوص الشكلية للدساتير السارية، إلى مجرد رعايا تابعين وخاضعين بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة لمشيئة ومزاجية السياسات المتقلبة لذلك الجهاز المتضخم والمتغول ولابتزازاته، المرئي منها والمخفي .

ولعل هذا ما يفسر وجود كتلة بشرية، تصغر هنا وتكبر هناك، اختارت الصمت والفرجة والمراقبة من بعيد، مفضلة الانزواء العفيف والنأي بنفسها عن حالة الصراع اللامعقول التي أنشأها “القديم” كرد فعل مضاد وممانع لتقدّم “الجديد” في غير موقع . وما درت هذه الكتلة أن انزواءها إنما يسهم في تعقيد الموقف ويزيد بلبلته واضطرام نيرانه .

مثلما يفسر أيضاً ازدياد سخط ونقمة أولئك الشباب الثائرين

الذين أشعلوا فتيل الثورات العربية اعتباراً من مطلع هذا العام وقدموا التضحيات الجسام من أجل استمرار زخمها حتى تحقيق أهدافها، بعد النتائج المحبطة والمخيبة لآمالهم التي أسفرت عنها انتخابات ما بعد الثورات . ويكفي للوقوف على ذلك إلقاء نظرة سريعة على عناوين عديد المقالات التي كرسها كتّابها لنعي الديمقراطية العربية التي طالما شكلت حلماً عربياً موءوداً .

ونجد تجليات هذا السخط النخبوي على النتائج المثيرة لقلق أوساط مجتمعية واسعة على مستقبل الدولة المدنية ومسارات التحديث في العالم العربي، متجسدة في كتابات من قبيل “العرب يعيدون إنتاج تخلفهم . . ولكن عن طريق الديمقراطية هذه المرة”، وفي محاولة إسقاطية لا تخلو من فطنة بالغة الصحة، يكتب وهيب أيوب مستحضراً التاريخ البعيد، وتحديداً مقولة ابن خلدون التي تعود إلى ستة قرون خلت ومفادها أن “العرب لا يحصل لهم الملك إلا عن عصبية دينية”، وذلك عطفاً على نتائج الانتخابات التونسية والمغربية والمصرية . و”الخير لَقدام” كما يقول المثل الشعبي .

وكما هو واضح، فإن النخب المحسوبة على الاتجاهات الليبرالية والتحديثية . تبدو مصعوقة ومنزعجة مما آلت إليه هبّات التغيير الشعبية الكاسحة في العالم العربي . فلم تكن لتتصور أن “تستخلف” في الحكم من كان يحكمها باستغلال فوبيا الإسلاميين بمن سيحكمها باستغلال الدين . فما عساها فاعلة إزاء هذه المحنة التاريخية الجديدة التي سيتعين على البلدان والشعوب العربية اجتيازها؟

نحسب أنه لابد من احترام إرادة الشعوب، فإذا هي اختارت بمحض إرادتها قوى الإسلام السياسي فإنها هي نفسها من سيتحول إلى خيار آخر إذا ثبت لها بالدليل القاطع، أن هذه القوى قد خذلتها، بشرط أن يجري تثبيت مبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة في الدساتير الجديدة، وذلك لقطع الطريق أمام أي محاولة جديدة “لإعادة تأميم” السلطة واحتكارها، وبما يضمن إنهاء ظاهرة الاستبداد المستدام مرة، وإلى الأبد، في الحياة العربية .
نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية