رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

الثورات والباشوات

بوابة الوفد الإلكترونية

ثمة شيء فاسد في دول الديموقراطيين هذه الأيام: صهر خوان كارلوس، ملك اسبانيا، يحاكم بتهمة المال غير المشروع، مع انه لاعب كرة ثري. وألمانيا تطالب باستقالة رئيس الدولة لأنه طلب من صحيفة "بيلد"، عدم نشر مقال عما ارتكب. ماذا ارتكب الهر كريستيان فولف؟ يا لهول ما فعل. لقد حصل على قرض بقيمة نصف مليون أورو من زوجة رجل اعمال، بفائدة 4%. ومثل هذه الفائدة تعتبر محاباة واستغلالاً للمنصب.

وأي منصب. فالرئاسة في المانيا شيء احتفالي مثل ملوك أوروبا والحاكم العام في كندا، وهو موقع تكريمي يعطى عادة في نهاية عمر سياسي. وفي العام 1974 ذهبت الى بون لمقابلة مع رئيس المانيا الغربية (آنذاك) فالتر شيل، الذي تعرفنا اليه في بيروت وزيرا للخارجية. ولم تشأ الرئاسة الا ان تقدم لي هدية خاصة في المناسبة: أسطوانة موقعة من الرئيس، تضم اغاني للاطفال: الملحن والمؤلف والمغني، هو فالتر شيل.
الاوروبيون ليسوا الأقرب الى الكمال، لكنهم الاقرب الى دولة القانون. ليسوا بعيدين عن الرشى والصفقات والعمولات، لكنها ليست هي القاعدة، والسلوك العام وكل شيء آخر لا وجود له. والسرقة هي العيب وليست المفاخرة. والقضاء هو الملجأ الاخير للعدالة لا للمخالفة. الذي أودى بالانظمة العربية هو الفساد ومظاهره الفاجرة، وليس فقط وأد الحريات. ففي مصر كانت الصحافة تمارس حرية اشبه بالفوضى. وكان بعض الصحف يمثل، علنا، جهات خارجية اكثر مما يمثل مصر. لكن الطبقة الفاسدة التي احاطت بالرئيس حسني مبارك وابنائه، ودلع نجله الأصغر جمال، هما المحرك الاكبر للثورة. كذلك في تونس واليمن. وقد سارع رامي مخلوف في سوريا الى الاعلان عن خروجه من عالم المال والتبرع للعمل الخيري، لكن ذلك لم يحدّ من درجة الاحتجاج.
يخوض مغني الراب يوسو (يوسف) أندور في السنغال معركة ضد الرئيس عبدالله واد في شباط المقبل رافعا الشعارات السائدة في العالم الثالث: لا للرئيس مدى الحياة، ولا للاهتراء الرسمي. ويقول الدكتور واد ان ميزاته هي العلم والخبرة السياسية وليست الطرب، فيرد المغني (52 سنة) ان ميزاته هي الشعور بآلام الناس وآمال السنغاليين الذين يبلغ معدل دخلهم الفردي ألف دولار سنويا. وقد خصص جزءا ضخما من ثروته للمساعدة الاجتماعية، اضافة الى محطة تلفزيون توقظ الناس الى حقوقهم.
لا تنقص السنغال الحريات. فهي احدى الدول الديموقراطية النادرة في القارة البائسة بأنظمتها. وفيها صحافة جميلة ومتقدمة، متعتها الكاريكاتور اللماح، الباعث على التفريج، والكتّاب البالغو الثقافة والرفيعو المشاعر، وعندما ارغب في متابعة مسألة افريقية ما، اجد المستوى المدهش في الصحافة السنغالية والجزائرية. فالأخيرة ايضا لم تفقد حريتها، لا في وجه الدولة، ولا في مرحلة الاغتيالات التي نشرها الاسلاميون في صراعهم مع الحزب الحاكم اوائل التسعينات.
اختصر كوميدي في ريكيافيك (جون غنار) المسألة عندما خاض معركة رئاسة البلدية (وربحها) تحت شعار: ما دام السياسيون قد اخفقوا الى هذا الحد فلماذا لا نجرب المهرجين؟ كانت ولايتا رونالد ريغان من ابرز العهود في البيت الابيض: رجل بسيط، وساذج احيانا، اهم خصائصه انه يعرف مدى بساطته وسذاجته، فيصغي جيدا الى الذين يعرفون. ليس بذكائه ساهم في سقوط الاتحاد السوفياتي، ولكن بإدراكه ان ذروة المعرفة هي ان تعرف انك لا تعرف.
عام 1952 بدأ جمال عبد الناصر ورفاقه الثورة على الباشوات. طبقة من الاثرياء يستغلون الفلاحين والعمال ويعيشون في قصور مشيدة. وامتلأت الكتب والصحف، وخصوصا الافلام التي لم يكن يعرف المشاهد العربي سواها، بالروايات ضد ذوي الطرابيش الظالمة وقصورهم. من هي الطبقة التي تحاول الثورات اطاحتها الآن؟ انهم الفلاحون والضباط الذين تحولوا باشوات جددا. وتعلو قصورهم ومزارعهم في قراهم، التي كانوا "يناضلون" منها في سبيل العمال والفلاحين. وحدها الديموقراطية تحاسب، على الاقل، مظاهر الفساد. ونحن لم نكن دوما في هذا الفجور وهذه الفجاجة في تصرفات الموظفين والرسميين.
يروي السفير سمير شما، انه يوم كان المسؤول المالي في الخارجية، احيل عليه ملف احد الديبلوماسيين في الخارج، فأحاله بدوره على ديوان المحاسبة الذي أصدر حكمه فيه. فحمل الحكم الى الرئيس رشيد كرامي الذي كان وزيرا للخارجية ايضا. فيما كان الرئيس الراحل يقرأ نص الحكم، انحنى على اذنه سفير من المحسوبين عليه وقال بصوت مسموع: الرجل يخص المفتي!
وضع كرامي التقرير على مكتبه وتطلع الى الرجل وسيط الخير، وقال له بلهجته الشهيرة: نحن اقمنا ديوان المحاسبة لكي يفتي في ادارة الدولة، وسوف نقبل من سماحته اي فتوى في شؤون الدين.
عندما خرج اهل هايتي من ركام الزلزال المرعب ليجدوا انفسهم عزلا وعراة الا من الهبات الخارجية، سارعوا الى انتخاب المغني ميشال مارتيللي (سويت ميكي) رئيسا للجمهورية العام الماضي. منافسه كان ايضا مغنيا. لم يكن هناك مكان للسياسيين بعد نصف قرن من ديكتاتورية "بابا دوك" ومن تبع جمهورية ولده المضحكة، "بيبي دوك" يحسن العودة الى قراءة غراهام غرين لكي نعرف في اي نوع من انواع الجحيم كانت تعيش هايتي، الارض الاولى التي وطئها كريستوف كولومبوس.
فيما تنقرض الصحف السياسية الكبرى حول العالم تزداد صحف الثرثرة واخبار النجوم، ازدهارا وتوزيعا. اليأس من فساد السياسيين ليس ظاهرة عربية على الاطلاق. والدول الفاشلة لا يأتي لبنان الحالي في طليعتها، لكنه يحتل مرتبة متقدمة في كل حال. انجح مؤسستين "رسميتين" هما المصرف المركزي والميدل ايست. ليس لأن لا سياسة فيهما، بل لأن فيهما حصانة ضد الحدر السياسي. العالم المعاصر صار يحتاج الى اداريين لا الى سياسيين. "أقوى" سياسي في العالم هو حاكم كوريا الشمالية، لكن بلده هو الوحيد على هذا الكوكب، الذي ليس فيه ارقام رسمية للصادرات ولا فيه سجل لمعدل الدخل القومي. ويحصل على احتياط العملة الصعبة من تجارتين: الاسلحة النووية والفياغرا المزورة. الشعب نفسه له دور واحد: ان ينتحب عندما يغيب زعيم مبجل وان يجوع بقية الوقت.
لم يكد الرئيس الالماني يسقط، بل كاد يقيل معه الفراو ميركل، التي اختارته للمنصب. وقبله كان المستشار هلموت كول، الرجل الذي اعاد توحيد المانيا، قد ارغم على الاستقالة لأنه وضع بعض اموال الحزب باسمه الشخصي. وقبل اسابيع اصدرت محكمة فرنسية حكما بالسجن على جاك شيراك، آخر ورثة شارل ديغول المباشرين. لم يأخذ القاضي في الاعتبار ان هذا الرجل طالما ساهم في بريق فرنسا، بل تطلع فقط الى انه خالف كرئيس لبلدية العاصمة. نعود مرة اخرى الى جملة الرحابنة الساحرة: العدالة أجمل من القانون، لأنها سمحاء والقانون مطبق.
قبل أكثر من سنة تقريبا، كنا نرى جاك شيراك كل مساء، آتيا الى مقهى "لا باليت" خلف السان جيرمان، مستندا الى عصاه، ومعه رفيق له. غابت القامة التي رأيتها للمرة الاولى في مؤتمره الصحافي في الأمم المتحدة قبل ثلاثين عاما. والقامة التي شاهدناها هنا في قريطم، ضيفا، على عشاء رفيق ونازك الحريري. ويتظاهر الفرنسيون في "لا باليت" انهم لا يعرفون جاك شيراك. ويتظاهر بأنه لا يشعر بالمرارة. يضرب عصاه في بلاط الرصيف مثلما يفعل عجائز القرى في الساحة قبيل الغروب. ويحدث رفيقه عن الايام التي كان فيها الرجال على الخيول يقبلون سيوفهم تحية له.
نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية