عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

«اصح ياغفلان وحد الرحمان أسعد الله لياليك في رمضان»

بوابة الوفد الإلكترونية

لحظات من الصمت الممزوج بالرهبة تغلف المكان، ينطلق صوت اشبه بالرنيم ليشق الصمت في نعومة فتزداد الرهبة في القلوب.. وتعلو اصوات اخري اكثر رنيما.. تمتمات وتسابيح وآيات من الذكر الحكيم.. لتغشي المشهد رعدة تنتابني في خشوع.. إنه شهر رمضان.

يدفعني سحر تلك الليالي لأستحضر معكم كيف كانت مصر تستقبل الشهر الكريم في الماضي البعيد  وكيف كان لكل عصر طقوسه الخاصة به لاجد ضالتي بين دفتي كتاب«رمضان في الزمن الجميل» لعرفة عبده والذي يعود بنا لعام 55 هجرية لنري أول قاض خرج لنظر الهلال في شهر رمضان.. وهو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله ابن لهيعة الذي ولي القضاء في مصر وخرج لنظر الهلال وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته حيث كانت تعد لهم دكة علي سفح جبل المقطم عرفت بـ«دكةالقضاة» يخرجون إليها لنظر الأهلّة. فلما كان العصر الفاطمي بني قائدهم (بدر الجمالي) مسجدًا له علي سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصدًا لرؤية هلال رمضان.

وفي القرن الثالث الهجري اهتم أحمد بن طولون بأمر العمال.. خاصة في شهر رمضان.. فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت بنائه. فرأي الصناع يشتغلون إلي وقت الغروب. فقال: متي يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم؟ اصرفوهم العصر. فأصبحت سنة من ذلك الوقت. فلما فرغ رمضان قيل له: لقد انقضي شهر رمضان. فليعودوا إلي عادتهم. فقال «قد بلغني دعاؤهم وقد بركت به. وليس هذا مما يوفر العمل.

يأتي العصر الفاطمي بروحانياته التي عشقها المصريون ومازالوا فقد كان يعهد فيه للقضاة بالطواف بالمساجد في القاهرة وباقي الأقاليم لتفقد ما تم اجراؤه فيها من اصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل. وفي زمن الحملة الفرنسية في مصر أشار (الجبرتي) إلي أمر (ساري عسكر الفرنسي بونابرته) بالمناداة في أول رمضان بأن نصاري البلد يمشون علي عادتهم مع المسلمين ولا يجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق، ولايشربون الدخان ولا شئ من ذلك بمرأي منهم.. كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية.

ومع بداية القرن العشرين في عهد الخديو عباس حلمي الثاني انتقل إثبات رؤية الهلال إلي المحكمة الشرعية بباب الخلق، وكانت مواكب الرؤية تخرج من مبني المحافظة إلي المحكمة الشرعية، وتنتشر فرق موسيقي الجيش والبوليس في الشوارع وتزدان القباب والمآذن.. يوم كانت المآذن تعلو البيوت.. بينما مدافع القلعة والعباسية تدوي.

لم يغب ذاك السحر عن اعينهم بل بهروا به وذابوا عشقا في تفاصيله فراحوا يخطون باقلامهم كل ما يرونه في شغف لا يخفي.. فقد رصد الرحالة والمستشرقون الأجانب كل مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وياتي في مقدمتهم المستشرق البريطاني (إدواردلين) الذي شغف حبًا بمصر، واختلط بأهلها وتأثر بهم حتي إنه شارك المسلمين صلاتهم بالمساجد وفي حلقات الذكر.. وأطلق علي نفسه (منصور أفندي)، وكان يخرج مع جموع المصريين من المسلمين وهم يطوفون بأحياء القاهرة ليلة الرؤية وهم يصيحون: يا أمة خير الأنام صيام.. صيام، وإذا ثبت العكس يكون النداء: غدًا متمم لشهر شعبان فطار.. فطار.

وعن المسحراتي يذكر أنه يدور في كل ليلة، ولكل منطقة مسحراتي خاص بها، يطلق المدائح لأرباب المنازل، ممسكًا بيده اليسري بازًا صغيرًا وبيده اليمني عصا أو قطعةً من الجلد يضرب بها عند كل وقفة ثلاث مرات، يرافقه صبي يحمل ناقوسين؛ موحدًا الله ومصليًا علي الرسول- صلي الله عليه وسلم- “اصح يا غفلان وحد الرحمان.. أسعد الله لياليك يا فلان”، داعيًا بالتقبل والحفظ لأهل الدار، ولا يذكر أسماء البنات، وإنما يقول: أسعد الله لياليك يا ست العرايس، وكان المسحراتي يلزم الصمت عندما يمر ببيت في حالة حزن لوفاة عزيز.

وتحدث إدوارد لين عن العشر الأواخر من رمضان، فقال إن غالبية المؤمنين يفضِّلون قضاءها في المشهد الحسيني وجامع السيدة زينب، كما لم يغفل ادوارد لين ان يلحظ  دور المقاهي في شهر رمضان فرصدها في كتابه «المصريون المحدثون وعاداتهم في عهد

محمد علي». يقول لين «لا نصادف خلال شهر رمضان الناس في الشوارع يحملون أدوات التدخين، كما هي الحال في الأوقات الأخري، بل نراهم يمشون فارغي اليدين، أو يحملون عصا أو مسبحة، ولم يكن النصاري في محلاتهم يدخنون علي مرأي من المسلمين الصائمين. وفي هذه الأوقات، يتوافد أبناء الطبقات الدنيا إلي المقاهي، ويفضل بعضهم كسر صيامه بفنجان قهوة وتدخين البيبة، وقليلون هم الفقراء الذين يكسرون صيامهم، وقد يعمد بعض أبناء الطبقتين الغنية والمتوسطة إلي التوقف عن الصيام سراً».

ويمدنا إدوارد لين بصورة حيوية عن دور المقاهي في حياة الناس بقوله: «يتناول المسلمون فطورهم بشكل عام في منازلهم، وبعد ذلك بساعة أو ساعتين يمضون إلي منزل أحد الأصدقاء، وبعضهم يرتاد المقاهي، حيث تتم اللقاءات الاجتماعية، أو يستمعون إلي رواة السير والحكايات الشعبية، أو سماع الموسيقي من الموسيقيين الذين يسلونهم في كل ليلة من ليالي رمضان».

ومثلما شغف المستشرقون برمضان مصر ولع به ايضا الرحالة الاجانب فلم يفت منهم من حط بأرضنا ان يفتن بما رأي من مظاهر ففي عام 1483م،زار الرحالة الإيطالي فيلكس فابري مصر وأعرب عن دهشته ليلة دخوله القاهرة؛ لكثرة ما رأي بشوارعها من المشاعل والأنوار والفوانيس المختلفة في ألوانها وأشكالها، وممن شاهده وسجَّله في مشاهداته المسحراتي، والذي اعتقد أنه من “رجال الدين”، وذكر أن المسحراتي كان يمرُّ ليلاً ثلاث مرات في الشوارع ومعه طبلة يدق عليها مناديًا للناس بأسمائهم.

أما الرحالة الفرنسي فيلامون- الذي زار مصر عام 1589م- فقد وصف لنا مواكب دراويش الصوفية احتفالاً بقدوم الشهر المبارك، وكذلك حلقات الذكر وزحام الأسواق والمساجد المضاءة وموائد الإفطار، وذكر لنا أن من عادات المصريين في الإفطار أنهم يجلسون علي الأرض ويأكلون في فناء مكشوف أو أمام بيوتهم، ويدعون المارَّة إلي الطعام في صدق وحرارة؛ ولذلك وصفهم بالكرم.

أما ريتشارد بيرتون الرحالة الأيرلندي- الذي زار مصر عام 1853م- فيذكر أن مختلف الطبقات تراعي شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد، رغم قسوتها، فلم أجد مريضًا واحدًا اضطُّرَّ ليأكل حتي لمجرد الحفاظ علي حياته، ويذكر أن الأثر الواضح لهذا الشهر علي المؤمنين هو الوقار الذي يغلِّف طباعهم، وعند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطلُّ الناس من النوافذ والمشربيات، منتظرة لحظة انطلاق مدفع الإفطار من القلعة، ويجلجل صوت المؤذن جميلاً، داعيًا الناس للصلاة، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية”سراي عباس باشا الأول” وتعم الفرحة أرجاء القاهرة.

ولأنه سحر لا ينسي خلقه بلد مختلف، فسيظل أبداً خالباً للأعين وآسراً للقلوب.