عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

طريق مانديلا إلى الحرية

بوابة الوفد الإلكترونية

أسدل هذا العام قبل رحيله الستار على أيقونة النضال الوطني برحيل الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا عن عمر يناهز الخامسة والتسعين, الذي قاد الكفاح الوطني ضد سياسات التمييز العنصري بجنوب أفريقيا,

ليتصدر خبر وفاته العناوين الرئيسية والنشرات الاخبارية للقنوات الإعلامية العالمية والمحلية التي قامت بتسليط الضوء على حياته وما قاله زعماء العالم عنه وإذاعة بعض الأغاني التي خصصت لأجله. ومع ذلك أجد أن أكثر القراءات تشويقا ومتعة هي ما سرده مانديلا بنفسه في سيرته الذاتية "Long Walk to Freedom" أو الطريق الطويل إلى الحرية, والتي بدأ في كتابتها عام 1974 خلال فترة سجنه في جزيرة روبن وحتى الافراج عنه عام 1990, لتظهر للنور عام 1994 لناشرها ليتل وبراون وكامبني بالمملكة المتحدة.

ومن الجدير بالذكر أن اسم مانديلا الأصلي هو روليهلاهلا (Rolihlahla) وهو الاسم الأفريقي الذي أطلقه عليه والده ويعني "قاطع غصن من الشجرة" أو بالمعنى الدارج "مثير المشاكل", أما نيلسون فهو الاسم الذي أعطته له مدرسته الانجليزية عندما التحق بالمدرسة, حيث جرى العرف وقتها أن يكون لكل شخص اسمين: اسم غربي واسم أفريقي.

سرد مانديلا مشاهد عدة لطفولته وكتب عن ارتباطه وتأثره بشخصية والده الذي كان متزوجا من أربع زوجات, الثالثة كانت والدته, وإن كان لكل واحدة منهن منزلا منفصلا مرفقا به مزرعة لتربية الحيوانات وحقل لرزاعة المحاصيل, ويبعد كل منزل عن الآخر عدة كيلومترات يتنقل بينهم والده الذي أنجب ثلاثة عشر طفلا (أربعة أولاد وتسع بنات).

تلقى مانديلا تعليما جيدا ولنبغه التحق بالمدارس العريقة القليلة والتي كانت مخصصة للسود. ولا يستطيع مانديلا أن يحدد اللحظة التي جعلته مسيسا, ولكن بلا شك قد أدرك مبكرا بأن الرجل الأسود ليس عليه قبول عشرات الإهانات التافهة الموجهة إليه كل يوم من "البيض".

يعتقد مانديلا بأن رياح التغيير بدأت في الأربعينيات عندما تم توقيع ميثاق الاطلنطي عام 1941 الذي أكد على كرامة الانسان ودعم مبادئ للديمقراطية ألهمت المجلس الوطني الأفريقي الذي كان مانديلا عضوا به لإصدار ميثاق خاص يدعو إلى المواطنة الكاملة لجميع الأفارقة والحق في شراء الأراضي وإلغاء جميع التشريعات التمييزية. كان مانديلا يأمل في أن ترى الحكومة وقتها والأقلية البيضاء بأن المبادئ التي كانوا يقاتلون من أجلها في أوروبا هي نفسها التي يدعو إليها في جنوب أفريقيا. كان يتمنى إقامة نموذج لحكم ديمقراطي حقيقي وكان يؤمن بأن التحرر الوطني من الأفارقة سوف يتحقق بواسطة الأفارقة أنفسهم. لم تكن أصوات الشباب المناضل مثل مانديلا عالية في ذلك الوقت ولم تكن كافية ليتمرد المواطنين على المعاملة الدنيا التي يتلقونها من الأقلية البيضاء. إلا أن الكفاح الطويل أثبت أن صوت الحق وإن بدا ضعيفا فهو بلا شك يمهد الطريق إلى ما يعتقد وقتها أنه من المستحيلات.

كانت بشائر الأمل تنهمر مع عام 1946 الذي شهد عددا من الأحداث المهمة التي شكلت وعي مانديلا السياسي وظبطت بوصلة نضاله ونقلت الحراك الوطني إلى الشارع. فقد أضرب عمال المناجم التي يعمل بها ما يقرب من 70,000 شخصا وقاموا بعمل مسيرات حاشدة مطالبين برفع الحد الأدنى ليوميتهم, فتم القبض على قادتهم وتعاملت الشرطة بوحشية مع المسيرات فأسفرت عن مقتل 12 عاملا. وكما هو متوقع نتج عن سياسة القمع اتساع رقعة الاحتجاجات والاصرار على الاستمرار حتى تحقيق المطالب, وبالفعل خضعت الحكومة في النهاية لضغط عمال المناجم ورفعت الحد الأدنى ليوميتهم من اثنين "شلن" إلى عشرة.

 

سرد مانديلا شكل وطبيعة الحياة التي كان يعيشها المواطن في ظل نظام الفصل العنصري الذي كانت فرضيته تقوم على تفوق الجنس الأبيض على الأفارقة والملونين والهنود, وبالتالي فإن جنوب أفريقيا يجب أن يكون بلد الرجل الأبيض. وتبنى مانديلا في دعوته للتصدي لهذا النظام مبادئ غاندي التي تقوم على اللاعنف, والتي وصل صداها أنحاء البلاد وبدأت تجني ثمارها من اندلاع الاحتجاجات السلمية وعصيان مدني شارك فيه أصحاب المهن المختلفة والطلبة من الأفارقة والهنود, مما أقلق الحكومة التي ترى في تكوين جبهة موحدة بين الجماعات العرقية المختلفة ما يشكل تهديدا لأمنها وسياستها العنصرية.

سرد أيضا مانديلا طبيعة التحديات التي واجهها كسجين سياسي والتي على رأسها كيفية البقاء على قيد الحياة وعدم اليأس وتفويت الفرصة على ساجنيه لكسر روحه وعزيمته. وكيف أنه كرس وقت كبير داخل الزنزانة للتعلم والقراءة.
رحلته الأولى إلى القاهرة
في عام 1961, قرر مانديلا بدء جولاته في أفريقيا للحصول على الدعم المعنوي والمادي والخبرات اللازمة لتكوين جيش لتحرير بلاده من حكم البيض بعد أن وصل إلى قناعة بأنه قد حان الوقت للانتقال إلى الكفاح المسلح. ومن الملاحظ أن مانديلا قد أشاد ببعض الدول الأفريقية في جولته تلك التي ساندته بشكل أو بآخر وتعاطفت بشكل كبير مع قضيته, لكنه لم يذكر بشكل واضح كيف ساعدته أو دعمته القاهرة.

كانت أولى محطاته في الخرطوم حيث أصابته الدهشه عندما شاهد لأول مرة في حياته كابتن طيار أسود البشرة, ليسأل نفسه "كيف يمكن لرجل أسود أن يقود طائرة؟" ليدرك متألما بأنه هو أيضا قد وقع أسيرا لعقلية الفصل العنصري والاعتقاد بأن جنس الأفارقة أقل شأنا وأن مهنة كالتحليق هي من مهام الرجل الأبيض.

أما تجربته في أثيوبيا فقد كانت فريدة, فلأول مرة في حياته يرى جنودا سود بقيادة قادة سود يتم التصفيق لهم من قبل زعماء سود الذين كانوا جميعا ضيوفا لدى الرئيس الأسود للبلاد. كما التقى في تونس بالرئيس الحبيب بورقيبة الذي عرض عليه تدريب جنوده وخسمة آلاف جنيها استرلينيا لشراء أسلحة. كما رأى مانديلا في الجزائر أجواء تشبه إلى حد كبير الأجواء في جنوب أفريقيا حيث مواجهات المتمردين ضد المستوطنين البيض التي تحكم أغلبية السكان الأصليين.

وجد مانديلا في مصر فرصة للتأمل من خلال الفن المصري القديم في هؤلاء الرجال الذين أسسوا لحضارة عظيمة يراها مهمة جدا للقومية الأفريقية لدحض الادعاءات الوهمية للبيض بأن الأفارقة هم دون ماض حضاري بالمقارنة مع الغرب, فقد كان للمصريين القدماء أعمالا عظيمة من الفن والعمارة في الوقت الذي كان فيه البيض لا يزالوا يعيشون في الكهوف.

في نفس الوقت كان مانديلا يرى في مصر نموذجا مهما لهم لما تملكه من قوة جيش وبحرية وجوية, ولما تشهده في ذلك الوقت من برامج إصلاحية اقتصادية اشتراكية أطلقها الرئيس جمال عبد الناصر والتي كان يأمل المجلس الوطني الأفريقيي أن يتبنى أي منها في يوم ما.

طوفان التحرير
يرى مانديلا أن كل شيء قد يبدو مستحيلا في أوله, ولكن مع العزيمة والاصرار تكون النتائج عظيمة. ففي يونيو 1976, اتشرت تقارير غامضة عن ثمة انتفاضة كبيره ستعم البلاد. وبالفعل في 16 يونيو تجمع ما يقرب من خمسة عشرة ألف من طلبة المدارس في سويتو للاحتجاج على قرار الحكومة بأن نصف الطبقات في المدارس الثانوية يجب أن تدرس باللغة الأفريكانية, دون رغبة الطلاب والمعلمين الذين يرفضون تعلم أو تدريس لغة "القامع" على حد تعبيرهم. تعاملت الشرطة بوحشية مع هذا الجيش من الطلاب وبدون سابق إنذار فتحت النيران لتسفر عن مقتل واصابة المئات, في حين قاوم الطلبة باستخدام العصى والحجارة وعمت الفوضى الشاملة. ومع تردد أصداء أحداث هذا اليوم في كل مدينة وبلدة من جنوب أفريقيا, سادت أعمال الشغب والعنف في جميع أنحاء البلاد. وأشعل الشباب روح الاحتجاج والتمرد, فقاطع الطلبة المدارس, وانضم إليهم منظمي المجلس الوطني الأفريقي, وأصبحت الجنازات الجماعية لضحايا العنف نقطة تجمع وطني ضد النظام.

استمر الكفاح الوطني سنوات طويلة يقابله تعنت الحكومة واتخاذها لطرق القمع الوحشية لإنقاذ سياستها العنصرية, وأعادت فرض حالة الطوارئ في كل من عامي 1987 و 1988, في وقت تصاعدت فيه الضغوط الدولية لتخضع للمطالب الشعبية, وغادرت الكثير من الشركات جنوب أفريقيا, كما مرر الكونجرس الأمريكي قانون عقوبات كاسحة, حتى أثمر في النهاية على إطلاق سراح مانديلا عام 1990 بأمر من رئيس الجمهورية وقتها فريدريك ويليام دي كليرك الذي كان له دور في رفع الحظر الذي كان مفروضا على المجلس الوطني الأفريقي وفي إنهاء نظام الفصل العنصري, والذي حصل مع مانديلا على جائزة نوبل للسلام عام 1993.

رحلته الثانية إلى القاهرة
بدأ مانديلا رحلته الأفريقية بعد الإفراج عنه مباشرة, والتي اصطحب فيها هذه المرة زوجته ويني, والذي كان في استقباله الجماهير الغفيرة لدعمه, ففي دار السلام مثلا استقبله على حسب تقديره ما يقرب من نصف مليون شخص. ولم يفصح مانديلا مرة أخرى ما إذا كانت القاهرة قد ساندت قضيته وبأي بشكل, وإن كان لا ينكر أنها من المحطات المهمة في رحلاته الأفريقية, إلا أنه فيما يبدو أن رحلته هذه لم تكن موفقة وقد يكون هذا نتيجة لسوء التنظيم. فبعد لقائه بالرئيس حسني مبارك, كان من المقرر أن يوجه خطابا للجماهير في قاعة داخلية, إلا أنه لاحظ بأن الجماهير المحتشده قد تسربت إلى داخل المبنى في وجود قدر قليل من التأمين. فأعرب مانديلا لأحد أفراد الشرطة عن حاجته إلى تعزيزات لكنه لم يبالي. وفي الساعة المحددة, طلب رجل الشرطة من مانديلا وزوجته الدخول إلى القاعة, فحاول مانديلا اقناع رجل الشرطة بأن يتقدمه مرافقيه لخشيته من حدوث حالة من الهرج بين الجماهير المحتشده, لكن رجل الشرطة أصر على أن يدخل مانديلا أولا غير عابئا بما قاله. وما أن وطأت قدمي مانديلا القاعة حتى اندفعت الحشود المنتظرة وخرجت عن سيطرة الشرطة التي كانت تشكل كوردون بشري أمامها. وفي منتصف هذا التزاحم فقد مانديلا فردة حذائه وفقد أثر زوجته. وأخيرا بعد ما يقرب من نصف ساعة, تم احضار ويني إليه والتي كان واضحا أنها ضلت طريقها وسط الحشود المندفعة, ولم يستطع مانديلا أن يخاطب الجماهير التي ظلت تصرخ في حماس وتهتف "مانديلا مانديلا", ليغادر بدون أن يقول شيئا وبدون فردة حذائه ومع زوجتة وهي في حالة ذهول وصمت على غير عادتها.

دستور جديد للبلاد
في 3 يونيو 1993, وبعد شهور من المفاوضات في مركز التجارة العالمي, تم تحديد موعد لانتخابات وطنية غير عنصرية في 27 ابريل 1994, لتذهب الأغلبية السوداء لأول مرة في تاريخ جنوب أفريقيا إلى صناديق الاقتراع لانتخاب قاداتهم. كان الاتفاق أن يتم التصويت لانتخاب 400 ممثلين لجمعية تأسيسية من شأنها كتابة دستور جديد للبلاد. وفي منتصف الليل في 18 نوفمبر 1994, تم الموافقة على دستور مؤقت للبلاد.

يرى مانديلا أن سياسة الفصل العنصري قد خلقت جرجا هائلا وعميقا, يحتاج شعبه إلى أعوام أن لم يكن أجيال للتعافي من الأذى النفسي الذي حل به. وكان مانديلا فارسا نبيلا حتى في تعامله مع خصومه, فمن تجربة مر بها وهو طفل صغير تعلم كيف يحارب خصمه لكن دون أن يمتهنه أبدا.