رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أدب الحصار إبداع ولد فى ليالى الترقب والقلق

رسائل بنت «الشيمى» لابن «الرحيمى»

«الوكيل» وحكاياته عن أيامه فى الحجر الصحى مع «الكوليرا»

«الرافعى» أقام معرضاً فنياً لرسامين جسدوا أزمة الإنسان مع « كورونا»

 

جهزت الكاتبة الشابة كوباً لذيذاً من القهوة، ودلفت إلى مكتبة أبيها، تراجع بعضاً من الأوراق التى كانت قد أعدتها كجزء من بحث، كان عليها إنهاؤه، والتى اعتمدت فيه على موسوعة بعنوان «أحوال المصريين فى عشرين عشرين» والتى تتكون من خمسة أجزاء.

عزيزى القارئ، هل لديك قليل من الوقت تأتى فيه معى، أعتقد أننا جميعاً صار لدينا وقت فى أيام الحظر تلك، وأتوقع أنه لن يكون لديك مانع، خاصة إذا عرفت أننا سوف نذهب إلى عام 2080، مع كاتبة شابة وإلى أحد الكتب التى اختارتها لتعرف ما الذى حدث فى بدايات القرن الواحد والعشرين؟  لتُعد عن هذه الفترة دراسة كانت قد طلبت منها فيما يخص عملها، وعلى الرغم من أن الدراسة المطلوبة كانت اجتماعية، إلا أن الكتاب الذى لجأت إليه الشابة لتعد منجزها، كان قد تضمن صفحات خاصة، توقفت أمامها الفتاة كثيراً، ربما حين كتبت هذه الصفحات، لم تكن تهم أحد سوى أصحابها، لكن الزمن كان كفيلاً بأن يجعلها صفحة فى دفتر الوطن والحياة. فما كان منها إلا أنها تركت الكتابة عن الدراسة التى هى بصددها، وبدأت تكتب فى دفترها الخاص.....

عندما تفتح الصفحة التى تحمل رقم 397 من الجزء الثالث فى موسوعة «أحوال المصريين فى عشرين عشرين» الصادرة منذ ثلاثين عاماً أى فى عام 2050، سوف تقع عيناك أول ما تقع على رسائل الروائية منى الشيمى لزوجها الكاتب أسامة الرحيمى. بما تضمنته من توثيق اجتماعى وسياسى وثقافى وفنى لما عاشه المصريون فى هذه الفترة من ترقب وخوف وأمل، وذلك على الرغم من أن هذه الموسوعة توثق لأغلب ما شهدته مصر من أحداث فى النصف الأول من هذا القرن، خاصة عام 2020، بكل ما شهده من أحداث خطيرة ومؤثرة، بعدما انطفأ نور العالم الذى عمِل الإنسان على إضاءته قروناً  طويلة فى لحظة واحدة، لحظة أغلقت فيها الموانئ والمطارات، وتوقفت المسارح والمتاحف، حتى دورالعلم والعبادات.

 صحيح، إن تلك الأحداث أخذت حيزاً كبيراً من مؤلفى تلك الحقبة وما بعدها، لكن أغلب هذه الكتابات لم تحفل بالجانب الأدبى فى هذه الفترة، ليأتى هذا الجزء من موسوعة «أحوال المصريين فى عشرين عشرين» ويلقى الضوء على ما قد يعتبره البعض هامش الإبداع، ألا وهو مكاتبات العاشقين ورسائل المبدعين الخاصة. ولقد كانت رسائل الروائية منى الشيمى، وهى من أهم كاتبات القرن الواحد والعشرين، ورسائلها إلى زوجها فى هذا الوقت من أكثر هذه الرسائل إثارة للوسط الأدبى، بعدما تضمنت تفاصيل مهمة عن تلك الفترة وما قبلها، وقد كتبت «منى» تلك الرسائل لزوجها بشكل يومى خلال أيام الحظر، والحظر كان إجراءً فرضته السلطات المصرية على الشعب فى فترة انتشار الوباء، كدرجة قصوى من الحماية للمصريين، يلزمهم بالبقاء فى بيوتهم.

 وقد جاءت هذه الرسائل كما أوردها الكتاب تحت عنوان «محاولات للتغلب على التوتر والخوف»،  وكانت الكاتبة قد نشرتها على أحد مواقع التواصل الاجتماعى، والتى انتشرت فى ذلك الوقت فى العالم، وكانوا يطلقون عليه «فيس بوك»، وكان هذا الموقع الإليكترونى يتيح للجميع النشر والتعليق على ما ينشر بشكل آنٍ، وأسامة الرحيمى الرجل الذى كُتبت تلك الرسائل لأجله، كان كاتباً صحفياً متميزًا، وهو صاحب كتاب « بوح المبدعين» الذى تضمن حوارات صحفية مهمة فى ذلك الوقت.

أماعن سبب كتابتها هذه الرسائل لزوجها، فهذا هو ما سوف يتضح لنا بعد قراءة الرسالة الأولى التى تقول فيها: «لا أعرف يا أسامة! أى سيناريو هذا الذى وجدنا فيه وفرض علينا! كنا نتوقع أسبوعا فقط لإنهاء الأوراق والرجوع إلى القاهرة، الآن أنا عالقة فى الغردقة وأنت فى القاهرة! وأكمل فراقنا شهرا وبضعة أيام، انقسم العالم، بعضهم يرى أن كورونا تم تصنيعه فى المعامل، كى تظل أميركا سيدة العالم! هل تذكر؟ موجة الأفلام الهوليودية فى الأمسيات. كنت أقول لك دائما لا أحب مشاهدة أى من أفلام العنف أو الزومبيز، وكنت تقول لى إنها مجرد تمثيل فلا داعى للرعب، نتوغل فى النقاش فتقول إن لكل أمة حضارتها، والسينما إضافة أميركا للحضارة.

لكن يبدو أنه كانت هناك أيام تمر بين الزوجين دون رسائل، لذلك اعتذرت الكاتبة لزوجها فى إحدى رسائلها وكتبت له: «أعتذر عن عدم الكتابة إليك أمس، كانت الأحداث تجرى بشكل أسرع من قدرتى على الاستيعاب، أرقام الموتى والمصابين تتصاعد بجنون على مؤشرات المراصد يا أسامة».

وتعتبر رسالة منى الشيمى عن الزهور، من أهم الرسائل التى أشار إليها مؤلف كتاب «أحوال المصريين فى عشرين عشرين» معبراً عن إعجابه بها. وكانت الرسالة تقول: «أشعر بالحسرة؛ فى هذه اللحظة تقوم أجهزة مكافحة الوباء فى هولندا بالتخلص من محصول الورد، تكسح اللودرات الأطنان منه فى هذه اللحظة، وتلقى به بعيدا! تخيل؟ انصرف العالم عن شرائه، لم يعد الأحبة يهتمون بتقديم ورود حمراء لحبيباتهم، والأزواج الصالحون لم يخرجوا من بيوتهم كعادة كل يوم، ليعودوا به إلى زوجاتهم آخر اليوم. لن تجلس المسنات المرفهات لينسقنه فى المزهريات الكريستال قرب ضوء النهار عند النوافذ، والأكثر أسى يا أسامة: الميتون، لن يضع أحد على قبورهم الباقات الملونة».

هذه الرسالة تحديداً حصلت على مئات اللايكات، و«اللايك» فى هذا الوقت كانت علامة توضع على النص بهدف الإعجاب به.

السيد الوكيل، من أهم النقاد والكتاب فى هذه الحقبة، وقد أشار إليه الكتِاب بهذه الصفة فى صفحة 421 من الجزء الثالث أيضاً، ذاكراً ما كان  قد دونه على يومياته فى أيام الحظر وقتما انتشر وباء «الكورونا»، ويبدو أن «الوكيل» كان قد عاصر قبل ذلك الوقت بنصف قرن تقريباً، وباءً آخر عُرف «بالكوليرا»، وهذا ما يتضح من يومياته التى كتب عليها: «كنت وقتها طالبا فى المعهد الفنى للطيران، وأصيب

أحد الطلاب بالكوليرا، لهذا وضِعنا فى الحجر الصحي، طبعا بالنسبة للطلاب كانت حالة ممتعة، فلا طوابير ولا نوبات حراسة ولا حصص دراسية، ولا عقوبات من أى نوع، مع توصية بنوعية وكمية الطعام الذى كان يصل إلينا حتى باب العنبر. وبدون الوقوف فى طابور «الميز».. فقط تمام يومى فى الصباح للتأكد من وجودنا جميعا، كان الأهم أنها كانت فرصة للعب والسهر دون بروجى يوقظنا فى السادسة صباحاً. ابتكرنا حيلا عديدة لتمضية الوقت، نلعب، نغني، نحكى ذكريات، فاكشفنا مواهب فى كل منا، وفكرت فى عمل مسرحية. وبالفعل كتبت المسرحية وبدأنا البروفات، المشكلة أننا اكتشفنا أن لا جمهور سيرى مسرحيتنا، فنحن الممثلون ونحن الجمهور أيضاً. وكانت هذه نقطة تحول من البهجة للإحباط، شعرنا بالملل مع الوقت. أصبح اليوم طويلا ، ولا نفعل شيئا غير أن ننام ونستيقظ ونأكل ونستحم فى اليوم الواحدة عدة مرات لأننا بدأنا نفكر فى إمكانية الإصابة بالكوليرا، فقط نتداول وبالدور حسب الأبجدية، مجلة واحدة نجح أحد الزملاء فى إخفائها بعيدا عن العيون، وتحولت المجلة إلى مبرر للخلافات على من يفوز بها، حتى أن البعض طمع فى أن يقرأها أكثر من مرة، ثم يلقى بها لأنه لم يجد جديدا بطبيعة الحال. وفى اليوم التالى يطالب بدوره فى قراءة نفس المجلة».

وقد وعد هذا الناقد قراءه باستكمال حلقاته التى لاقت تفاعلاً كبيراً منهم، يومياً، لكنها كانت يوميات «الكوليرا» وليست «الكورونا»، ربما لأن وقت كتابته لهذه التجربة لم تكن أزمة الوباء قد انتهت، ولا كان أحد يعلم متى ستنتهى ولا كيف، وربما أن لم يفضل كتابة التجربة إلا بعد نهايتها.

ويبدو من خلال كتاب «أحوال المصريين فى عشرين عشرين» كم كان المبدعون المصريون على علاقات متينة مع جيرانهم من المبدعين المجاورين لهم جغرافياً؛ والدليل على ذلك هو ذلك العدد الكبير الذى أشار منهم على يومياته، إلى الكاتب المغربى المهم فى هذه الفترة أنيس الرافعى، بما يملكه «أنيس» من مؤلفات ومفردات تخصه وحده، لكن يبدو أن الشكل الأدبى الذى تناوله هذا الكاتب على صفحته فى تلك الحقبة جاء مختلفاً عما نشره غيره، حيث حوّل يومياته إلى معرض فنى لكل الرسامين الذين تناولوا هذه الأزمة فى لوحاتهم فى ذلك الوقت أو قبله. فجاء فى بدايات الجزء الرابع من الموسوعة، كيف أن «الرافعى» بدأ ينشر كل ليلة لوحة  فنية لرسام من رسامى هذه الحقبة، معلقاً عليها وعلى صاحبها، وقد عنون هذه اليوميات بـ«أرخبيل الفزع» وهى مؤخوذة من كلمة «الأرخيبيلاكوس» والتى تعنى باليونانية البحر، أى بحر الفزع، ثم ذكر الكتِاب بعضاً من هذه اللوحات، والتى كان من بينها لوحة الفنانة المصرية فيروز الطويلة، وقد جاءت لوحتها ترجمة واضحة ومعاصرة للأزمة وقتها، وانعكاساً لوقع الكارثة الأليم لحبس البشر الإرادي، فرسمت «فيروز» البشرية كاملة معتقلة داخل زجاجة «كوكاكولا» مدعوكة ومنبعجة، بعدما دفع فيروس «كورونا» البشرية قاطبة إلى اعتقال نفسها بنفسها، و«الكوكاكولا» كان مشروباً غازياً محبذاً لدى العالم فى ذلك الوقت.

كذلك أشار «الرافعى» من خلال الجاليرى الذى أنشأه، إلى لوحة المبدع العراقى سنان حسين، من خلال تلك اللوحة المعروفة بـ«الحجر الصحي». ولوحة أخرى  تحت مسمى «كورونا»، من توقيع الفنان العراقى صدام الجميلي، أما اللوحة التشخيصية الشهيرة الموصوفة بـ«حالة حصار» للفنان التشكيلى الأردنى محمد العامرى فقد احتلت أمسية مطولة من أمسيات أنيس الرافعى فى أيام الحظر.

ويبدو أن أمر هذه الأزمة لم تتوقف عند الكتاب والرسامين فقط، بل تجاوزتهم إلى المصورين الفوتوغرافيين، ومنهم فنانة الفوتوغرافيا الأمريكية المعروفة فى ذلك الوقت «باربارا بيمان»، والتى وجدت ضالتها فى التصوير الشمسي، باعتباره السجل المرئى للحياة والبشر، وذلك من خلال صورة أطلقت عليها عنوان «إبان زمن فيروس كورونا» وهى ملتقطة بالأبيض والأسود، غداة شهر مارس 2020 بأحد شوارع مدينة نيويورك الأمريكية، بعد أن باتت مدينة الحياة فجأة سوداوية خاوية، ومقفرة على عروشها.