عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

زيارة لنجيب محفوظ في متحفه بحارة التبليطة

متحف نجيب محفوظ
متحف نجيب محفوظ

 سيظل دائمًا بيننا حديث خاص يا عم "نجيب"، لكن هذه المرة أنا مدينة لك باعتذار، فمنذ أيام أحيوا جميعًا ذكراك، بينما انشغلت أنا بشأنٍ خاص، لذلك عندما قررت أن أستعيد نشاطى، كنت أنت أول منْ انشغلت به، كنت على علم بأن مشروع متحفك الذى تأجل أكثر من مرة رأى النور أخيرًا، وتم افتتاحه رسميًا، لذلك قررت أن تكون هديتى لك هذا العام هى زيارتى له؛ وقد كان.

 تجربتى فى زيارة المتاحف وكتابة تجارب صحفية عنها غير مريحة بالمرة، ففى كل مرة أطلب فيها عمل تحقيق صحفى عن أحدها، أظل ألف وأدور من هنا لهناك من أجل الحصول على التصاريح، وفى إحدى المرات بعد انتهاء كل الأوراق والتوقيعات، ووصولى إلى متحف ما مع مصور الجريدة، فوجئنا بأن مدير المتحف ليس لديه أي معلومات عن زيارتنا، وظللنا ساعتين كاملتين نجرى اتصالات حتى سمح لنا بالتجول فى المكان وإنهاء مهمتنا.

 لذلك قررت هذه المرة أن أذهب إلى متحف نجيب محفوظ كزائرة، وليس بصفتى الصحفية، وكنت متفائلة  بفكرتى تلك؛ لأننى استشعرت أننى كدت أضرب هدفين بحجر واحد؛ الأول هو التخلص من معاناة التصاريح وبيروقراطيتها، والثانى أننى سوف يمكننى أن أتجول فى المكان، وأكتب كل ما يحلو لى عنه من دون قيد أو شرط.

 ولأن المتحف حديث جدًا؛ فالمعلومات المتوفرة عنه مازالت قليلة، وأغلبها يتحدث عن حفل الافتتاح الذى أقيم فى الرابع عشر من يوليو الماضى، بحضور  كل أحبائه وكثير من السفراء.  فبحثت عن عنوان المتحف على موقعه على الإنترنت، وكانت الإجابة كالآتى؛ "3 عطفة العفيفى الصغيرة الدرب الأحمر القاهرة"، ولأننى من سكان الجانب الآخر من القاهرة الكبرى، فقد عانيت حتى وصلت إلى منطقة الدرب الأحمر، لكن هذه المعاناة لم تكن شيئًا بجانب الساعات الثلاث التى قضيتها فى محاولة منى للوصول إلى عطفة العفيفى الصغيرة تلك، ولأن المصريين طيبون جدًا، وجميعهم يعرف كل شئ عن كل شئ، فلم يخبرنى شخص واحد من المئة الذين سألتهم أنه لا يعرف.

 فى الحقيقة؛ جميعهم كانوا يعرفون المكان ويصفونه لى، وأنا أطيعهم وأمتثل لوصفاتهم التى تدحض كل منها الأخرى، حتى ضبطنى أدندن كلمات جاهين العبقرية "دى وصفة سهلة.. دى وصفة هايلة"، ولكن الذى جعلنى أغفر لهؤلاء الطيبيين جهلًا ممزوجًا بادعاء المعرفة، أنهم وفروا لى فسحة مجانية فى القاهرة القديمة من دون قصد منهم، جعلنى أتذكر "محفوظ" عندما كتب فى مقدمة "أولاد حارتنا"؛ "رغم تعاسة حارتنا فهي لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة فى القلوب المتعبة".

 فقد مررت بأحياء جميلة وكثيرة، فزرت من دون موعد أو ترتيب منطقة الشيخ ريحان وحى المغربلين والعطارين، أما حى الخيامية فهذا حى فريد يصعب وصفه على الأقل الآن.

 لكن الحقيقة أن كل تلك الأحياء الرائعة التى تمثل جزءًا من حى الدرب الأحمر، هى ليست ذات أى صلة بمتحف نجيب محفوظ، لأن المتحف ببساطة يقع فى حى الأزهر.

عندما وصلت إلى المتحف كانت الساعة تقريبًا الواحدة ظهرًا، وأنا التى بدأت رحلة البحث عنه فى الحادية عشرة صباحًا، وكنت علمت أن المتحف يعمل يوميًا على فترتين؛ الأولى من التاسعة صباحًا حتى الثانية ظهرًا، والفترة الثانية تبدأ من الخامسة ظهرًا حتى التاسعة مساءً، لذلك حمدت الله أننى مازال أمامى ساعة كاملة لأتجول داخل المتحف.

 استقبلنى رجل الأمن على البوابة بترحاب، بينما أبديت أنا توجمًا، وسألته" أنتم كاتبين العنوان غلط على النت عشان تدوخوا الناس؟"، فأجابنى بابتسامة محايدة، لم أفهم منها هل هى موافقة ضمنية على ما أقول، أم أنها ابتسامة يطرحها على وجهه لكل منْ يمر من هذه البوابة؟

 تجاوزتُ ابتسامته غير المفهومة بالنسبة لى، "الحارة دى اسمها إيه؟"، سألته "حارة التبليطة"، أجابنى، وهنا اسمح لى أيها القارئ أن أقدم لك عنوان المتحف سهلًا لمن يريد زيارته، حتى لا يعانى أحد منكم ما عانيت فى الوصول إلى هناك، فالمتحف يوجد فى حارة التبليطة فى حى الأزهر أمام مقام سيدنا الحسين "بس كده"، وعلى رغم أن حارة التبليطة هذه لا يتجاوز عرضها مترين، وافترشها الباعة من كل جانب لتصبح سوقًا شعبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى السوق، إلا أنها حارة تاريخية بامتياز، ويمكنها أن تخبرك أنك فى قلب قاهرة المعز منذ اللحظة الأولى فيها، وربما كان اختيار هذا المكان تحديدًا، وهو تكية محمد بيك أبو الدهب ليكون متحفًا لنجيب محفوظ اختيارًا عبقريًا لأنه قريب من حى الجمالية الذى سكنه "محفوظ" فى طفولته وبداية المراهقة، والذى تشكل من خلاله وعيه وإبداعه الذى أهداه لنا فيما بعد فى شكل كل شخصيات رواياته.

 الأهم ؛ أخبرت رجل الأمن أننى أريد التجول فى المتحف، فوجهنى إلى مكتب الاستقبال، الذى بدا العاملون عليه فى قمة البشاشة والرقى، وسألنى أحدهم إن كنت مصرية؟ وعرفت بعدها أن سعر التذكرة للمصريين خمسة جنيهات، وللأجانب عشرون، وجنيهان فقط للطلبة، وكانت التذكرة مطبوعة ورقية جميلة تصلح للاحتفاظ بها كذكرى لزيارة المكان؛ مستطلية الشكل طولها حوالى عشرة سنتيمترات، بينما عرضها 15، وبالطبع تحمل صورة نجيب محفوظ، ولوجو المتحف ذو ألون فرعونية تميل للون الأصفر.

 فى الواقع إن ما حدث فى المتحف كان فوق كل مستوى طموحاتى من الاهتمام، وعرفت أن كل الزائرين لا يتجولون فى المتحف بمفردهم، إنما هناك مرشد يقودهم داخل المكان ويتولى شرح كل شئ لهم، وتصورت أننى زائرة وحيدة فى هذا التوقيت الذى كان بدأ يقترب من الواحدة والنصف، لكن المكان كان به عدد لا بأس به من الزائرين، سبقونى مع مرشديهم يتجولون فى المكان، وتوجه معى أحد المرشدين يشرح لى كل تفاصيل المكان باهتمام، كأنه يتحدث مع مجموعة كاملة من السائحين، فقد كان سعيدًا بالمكان وفخورًا به وهو يتحدث عن كل التفاصيل، وكان مطلوبًا منى أن أحتفظ بكل ما يقول فى ذاكرتى الضعيفة جدًا، لأنه ببساطة لا يعلم أننى صحفية.. من حقى أن أسجل وأدون كل ما يخبرنى به.

 بدأنا الجولة فى المتحف من قاعة الأوسمة والنياشين، أنا أكاد أجزم أنه ليس هناك كاتب فى مصر أو فى غيرها غير نجيب محفوظ، حصل على كل هذا العدد من الشهادات والجوائز، فعددها لا يتماشى حتى طرديًا مع عدد كتاباته، إنما هو يتجاوزها كثيرًا، كان أقدم هذه الشهادات تقريبًا يحمل تاريخًا من أربعينات القرن العشرين، ويحمل توقيع الكاتب الكبير يوسف السباعى، حيث كان وزيرًا للثقافة آنذاك، وكان أهمها قلادة النيل العظمى، التى يمكنك أن تكتشف أنها ذهبية الهيئة، فضية المعدن، إذا نظرت إليها جيدًا، التى كانت محل ضجة إعلامية منذ عامين بعدما كشفت ابنة نجيب محفوظ أن القلادة لم تكن كمثيلاتها التى حصل عليها توفيق الحكيم من الذهب الخالص، ومنها أيضًا جائزة الدولة في الأدب التي حصل عليها في عام 1957، عن رواية "بين القصرين"، وكان سبقه إلى هذه الجائزة وقتها إثنان فقط، هما طه حسين، وعباس محمود العقاد، اللذان تأثر محفوظ بكتاباتهما كثيرًا.

 وعلى رغم كثرة عدد هذه الجوائز وأهمها إلا أن تظل"جائزة نوبل" التى حصل عليها "محفوظ" هى الجائزة التى لفتت أنظار العالم له، لذلك كانت فى قاعة خاصة بها، تحمل اسم الجائزة؛ وتعرض بها شهادة نوبل، وعلى الجدران حيثيات منح محفوظ الجائزة، وكذلك صور لكل من حصل على نوبل في الآداب منذ تدشين الجائزة في عام 1901 حتى الآن، وتتضمن كذلك معلومات عن الجائزة وتاريخها، وصورة للكاتب محمد سلماوى الذى تسلم الجائزة نيابة عن "محفوظ"، وكذلك نص الكلمة التى كتبها "نجيب" بمناسبة حصوله على الجائزة.

 على بعد خطوات من ذلك تجد مقتنياته الشخصية بقاعتى أصداء السيرة الذاتية وأحلام الرحيل، حيث تقع عيناك على ساعة لم تتوقف عقاربها عن الدوران، وعلبة سجائر "كِنت" ما زال بداخلها تسع وحدات توقف صاحبها

عن تدخينها، بعد محاولة اغتيال كادت تودى بحياته، وبدلة شهرتها من شهرة صاحبها، وقبعة وحذاء، وملف وظيفى يحمل اسم نجيب محفوظ وإلى جوارها لقب مرحوم، وكراسات مكتوبة بخط يده اليسرى، التى كان يحاول تمرينها على الكتابة بعدما أصيبت يده اليمنى فى محاولة اغتياله، وهى الكتابات التى لن تستطيع فك طلاسمها أبدًا؛ لتدرك معها كيف كان هذا الرجل عاشقًا للكتابة، فلم يتفهم، أو يتقبل فكرة أن يملى على أحد، التى طرحها عليه كثيرون من أصدقائه بعد إصابته، هو الذى كان وقتها فى السبعين من عمره، وكذلك من مقتنيات القاعة عدة حلاقة كاملة وفرشاة شعر، وسماعة أذن كانت وسيلة تواصله مع العالم طيلة عقديه الأخيرين فى الحياة، وعدسة مكبرة كانت عيناه بعدما فعل الزمن فعله فى  نوريهما، وسبحة ثلاثة وثلاثون حباية برتقالية اللون، كانت ابنته تحققت من وجودها وقت الافتتاح، وبطاقات شخصية وجواز سفر بها صور شاب لا تكاد تتعرف عليه سوى من اسمه الثلاثى نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم، ومقتنيات عدة يجمعها أخيرًا متحفه الذى طال انتظاره لما يزيد على 13 عامًا.

 من أهم معالم المتحف والمكان الذى ربما لن تنساه بعد خروجك منه، هو قهوة الحرافيش، والحرافيش هم مجموعة حقيقية من أصدقاء نجيب محفوظ كانوا يجتمعون بشكل أسبوعي، إما في منزل أحدهم، أو في أحد المقاهي للتسامر وتبادل الآراء والأخبار فى نهاية الأربعينات من القرن الماضى، على عكس ما يتخيل البعض أنهم فقط أبناء الحارة الذين كتب عنهم "محفوظ" سلسلته الشهيرة، فالحرافيش كانت مجموعة حقيقية فى حياته، وكان منهم الفنان أحمد مظهر، الذي أطلق تسمية الحرافيش عليهم، والروائى عادل كامل، والسينمائي توفيق صالح، والطبيب النفسي يحيى الرخاوي، والكاتب الساخر محمد عفيفي، والكاتب علي أحمد باكثير، وعاصم حلمي، وأحمد زكي مخلوف، ومحمد شبانة، وتوفيق صالح، لتمتد أحاديث شلة الحرافيش على مدى أكثر من أربعين عامًا تقلص خلالها عددهم، كما دخل وخرج من "الحرافيش" من أطلق عليهم محفوظ "الأعضاء غير الدائمين"، مثل صلاح جاهين، مصطفى محمود، لويس عوض، أحمد بهاء الدين، وثروت أباظة، وعن عدم وجود امرأة واحدة ضمن هذه المجموعة، كانت هناك أقاويل تشير إلى أن الفنانة زوزو ماضى كانت من بينهم، بينما لم يؤكد أو ينفي أحدهم ذلك.

 أما قاعة "تجليات" فإذا ما دخلتها ستجد أن نجيب محفوظ ينتظرك فى الداخل ليرحب بك فى متحفه، ففى القاعة مكتب ومقعد نجيب محفوظ اللذان اعتاد الجلوس عليهما للكتابة، وفي الخلفية حوار لصاحب نوبل وهو يجلس على إحدى المقاهى يحدثنا عن فلسفته في الحياة والموت والحب.

 ليس فقط عدد الجوائز التى حصل عليها نجيب محفوظ تفوق عدد كتاباته، إنما أيضًا عدد الدراسات النقدية والببلوجرافيات التى كانت عن كتاباته تفوق كثيرًا عدد ما كتب؛ لذلك خصصت قاعة كاملة لكل ما كُتب عن العالمى.

 كما يتضمن المتحف مكتبات عدة للقراءة للكبار والصغار، لكن تظل "كفاح طيبة" هى ما لفتنى فى مكتبة الأطفال، حين وقع نظرى عليها على إحدى الطاولات الصغيرة، تلك التى أوقعتنى فى هوى قلمه بعدما قرأتها فى إرهاصات القراءة الأولى فى حصة مكتبة مدرسية كانت عقابًا لنا كأطفال لم يمتثل بعضنا للأوامر كما يجب!!

 المكان به عدد كبير من القاعات متعددة الأهداف صُممت ونُفذت بروعة وجمال ورقى كقاعة فيلموغرافيا؛ وبها لقطات لأهم أعمال محفوظ التي تحولت إلى أفلام سينمائية، أو مسلسلات تلفزيونية، التي أخرجت شخصياته من المتخيل المكتوب إلى الإبداع المرئي. وقاعة الحارة: ويُعرض فيها فيلم الحارة تلك البيئة الشعبية التي أثرت على مخيلة الراحل، وكذلك قاعة السينما: وتعرض بها بعض لقطات من أهم أعمال نجيب محفوظ، سواء التي شارك في كتابتها، أو من أعماله التي تحولت إلى أفلام.

 من الواضح أن المتحف يعد نفسه كى يصبح مركزًا حقيقيًا للإبداع، حيث أقام قطاع صندوق التنمية الثقافية فيه معرضًا بعنوان "نجيب محفوظ بريشة فنانى العالم"، عرض من خلاله بورتريهات شخصية لأديب نوبل، بريشة أربعين فنانـاً ًامن مختلف دول العالم، كما أقام فى بداية الشهر الحالى معرضًا بعنوان "نجيب محفوظ.. بختم النسر"، يتضمن أكثر من 70 وثيقة من الوثائق الحكومية التي تحمل ختم النسر والمأخوذة من كتاب ختم النسر، للكاتب الصحفي"طارق الطاهر"، على مدار حياته بدءًا من شهادة إتمام نجيب محفوظ المرحلة الابتدائية ويظهر فيها توقيعه  باللغتين العربية والأجنبية، وكذلك شهاداته في المراحل الدراسية المختلفة حتى حصوله على ليسانس الآداب، إضافة إلى المستندات الوظيفية الخاصة بالراحل الكبير، منها؛ القرارات الوزارية بتقلده رئاسة مؤسسة السينما، إقرارات الذمة المالية، القرار الوزارى بضمه لمجلس إدارة جامعة الثقافة الحرة، إضافة إلى العديد من أوراقه الخاصة، مثل: كشف الممتلكات، تقارير العمل السرية، والقرارات التي تخص فترة توليه للرقابة على المصنفات الفنية، وأهم القرارات التي اتخذها فيها.

 فى الحقيقة أن الساعة الآن تجازوت الثانية ظهرًا، وعلىّ مغادرة المكان، وترك العاملين عليه لوقت راحتهم، ولكننى فى النهاية لا يمكننى أن أترك المتحف، من دون الاعتراف بأن المكان إضافة حقيقية للثقافة فى مصر بشكل عام، ولمحبى نجيب محفوظ بشكل خاص، فتحية ودٍ واحترام لكل منْ شارك، أو ضرب سهمًا فى هذا الإنجاز السعيد، "بس والنبى تصححوا العنوان على الإنترنت".