عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبّارة الموت.. قصة قصيرة

بوابة الوفد الإلكترونية

 كان المكان الذي ولدت فيه مزدحمًا، أصوات صادحة وشرارات نارية هنا وهناك، بدا ذلك الرجل الذي كان مسئولًا عن وضع اللمسات الأخيرة على هيكلي فخورًا بما أنجزه من عمل، أخبرتني أخواتي أنني ذات مظهر أنيق، سمعت من مدير المصنع أنني سأغدو عبّارة مائية جيدة.

 كنت حزينة وأنا أغادر مسقط رأسي، سرعان ما أنجلى حزني بعدما علمت أنني سأطوف برشاقة في مياه دجلة، بدا كل من استقبلني في تلك الجزيرة السياحية محتفيًا بتلك العبّارة الجديدة التي ستعمل على نقل من يرغب في الانتقال بين ضفتي النهر المتقابلتين، لم أكن لأمل من وظيفتي أبدًا، كانت أحاديث الناس المتشوقين لعبور ضفة النهر تسعدني، بينما كانت ضحكات الأطفال تدغدغ قلبي، تمدني بطاقة تمكنني من المضي قُدمًا.
 بدوت معتادة على أمواج النهر، بألوانها المتعددة، الفرِحة منها والهائجة، كانت مشاكسة في أحايين كثيرة لكنني كنت دومًا بالمرصاد، أصد مزاحها بالحفاظ على توازني وثباتي.
 لم أكن أعترف أن للزمن يدًا ثقيلة على كل شيء حتى طالتني تلك اليد اللئيمة.. شعرت بنخر في جسدي، أصاب الهرم تلك الأسلاك التي طالما كانت حركتي متناغمة مع رقصاتها، كنت أصدر أنينًا بين حين وآخر، بدت حركتي ثقيلة، كنت أبث إشارات هرمي إلى مالكي الذي اعتبرني مصدر رزق وفير.. كنت كريمة معه على الدوام، لم أعترض يومًا على الأعداد التي تعتلي هيكلي مما يفوق طاقتي بكثير، كم انتظرت منه التفاتة إلى آفات الزمن التي أصابتني، بدا منشغلًا جدًا باستقطاب المزيد من السائحين.
 أذكر أنه كان يومًا ربيعيًا مشمسًا، بدا منسوب النهر مرتفعًا عما كان عليه بالأمس، لم يكترث المسئولون هناك إلى ضرورة إغلاق الجزيرة، لم تكن صيانة العبارات في جدول أعمالهم، كان المرض مستفحلًا في هيكلي المهترئ، بدا الرصيف الذي اعتدت تقبيله ممتلئًا بمن يتوق لعبور ضفة النهر، بات الصداع الذي ما زال يرافقني يدق طبولًا لا تكل.. سمعت همهمات الناس المتجمهرين حولي، كل يريد الفوز بتذكرة.. أذكر ذلك الأب الذي وقف متذمرًا يبث سخطه لزوجته وطفله، شاهدته يشير نحوي بازدراء، سمعته يشكو رداءة مظهري واكتظاظي بالبشر، بدت زوجته وابنه في جبهة معارضة له، ألحا عليه بقطع التذاكر، سرعان ما علوا سطحي.. على الرصيف ذاته وقف شاب وخطيبته، لم يزاحما الآخرين، ربما لم يريدا إفساد لحظتهما المكللة بالسعادة، انشغلا بتبادل البسمات، سرعان ما حان دورهما ليعتليا سطحي أيضًا. وجوه كثيرة ازدحمت ذلك اليوم، أطفال تعلو وجوههم ابتسامة عريضة، فرحين بملابس العيد الزاهية، لمحت امرأة عجوزًا تقف عند حافة الرصيف تودع أبناءها الثلاثة وأحفادها، ألحت عليهم بأخذ أمتعة الطعام التي

أعدتها لهم، أخبروها أنهم لن يتأخروا، لوحت لهم وعين الأم القلقة على أولادها تشيعهم.
لم يعترض مالكي على العدد الكبير الذي اعتلى سطحي، كان فرحًا بعد الأوراق النقدية التي لم يتسع لها جيبه، انطلقت أخيرًا في رحلتي اليومية! كان الألم يتصاعد في أنفاسي المتهالكة، لم أعد قادرة على الرؤية بوضوح، شعرت بتواطؤ مياه النهر مع مرضي، ربما أرادت أن تعيرني بما فعله الزمان بي، سمعت أحد الأسلاك يستغيث صارخًا، سرعان ما انتفض وقد تقطعت أوصاله، رمقني بنظرة أخيرة صارخًا: "آسف جدًا". ارتبكت بشدة وأنا أفقد اتزاني، انقضّت مياه النهر المائجة، قرأت في عيونها غدرًا، ساد الهرج والمرج بين الناس، لفّهم الفزع وهم يشعرون تمايل عبارتهم، ارتفعت المياه في أحد جوانبي، هرع الناس مبتعدين، حاولوا عبثًا إعادة توازني، كنت مثقلة بالحمل الذي تجاوز طاقتي أضعافًا، لحظات قليلة جدًا، انكببت على وجهي عندما انقلبت رأسًا على عقب، كنت أريد احتضان الناس الذين انقلبوا معي، حاولت انتشالهم، وددت لو أملك ذراعين، أنتشل هذا وأسعف ذاك، أطفال ونساء وشيوخ، نزف قلبي وأنا أشاهد الجثث السابحة حولي، مزقني منظر ذلك الأب الذي احتضن ابنه وزوجته، بدت المياه عاجزة عن التفريق بين جثتي الحبيبين النائمين إلى الأبد.
 سرعان ما انطفأت الأصوات بالتدريج، كانت سكينًا باردة تلك التي نبتت في قلبي جعلتني أختار الغرق خجلًا، كنت لا أزال أستطيع سماع البكاء والعويل من حناجر فقدت محبيها، استطعت تمييز صوت تلك الأم تنادي أبناءها بصوت متقطع، تلح عليهم بأخذ مؤنتهم فرحلتهم باتت طويلة جدًا! سمعت أمواج النهر تعتذر من الغرقى، حاولت الاعتذار أيضًا لكنني أدركت حينها أن الغرقى لا يسمعون صوتي، وأن المسئولين عن كل شيء لا يفقهون لغتي!