عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

في يوم رحيلها الأليم ..الوفد تعيد نشر حوارها مع نفيسة قنديل زوجة الشاعر عفيفي مطر

بوابة الوفد الإلكترونية

  في حادث أليم رحلت عن دنيانا السيدة نفيسة قنديل، زوجة الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر .
ونعيد اليوم نشر حوار أجريناه معها منذ عامين فإلى نص الحوار :

هناك بين دفتى قرية صغيرة تقبع فى أحضان محافظة المنوفية كان يعيش، تضمه جدران بيت تحيطه حديقة وارفة، تشتم بين أوراق أشجارها عبق شعره وأريج نثره، تلفحك إذا دلفت من باب البيت نسمات فكرة ولحظات شروده وألقه.

هنا.. فوق ذلك المقعد البسيط كان يجلس مرتشفًا شايه المفضل بعد عودته من أرضه، وهنا فوق مكتبه تنفست أشعاره نسيم الحياة بعد ساعات مخاض مؤلمة.

جلست أتأمل ذلك الجو المفعم بالإبداع وأنا أتخيل الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر، ممسكًا بقلمه الرصاص المحبب إليه ليسطر لنا أعمالا أثرت وجدان أجيال بأكملها.

محمد عفيفى مطر..ذلك الشاعر والكاتب والمترجم المغيب عمدًا والمنسى كثيرًا، ولد بمحافظة المنوفية عام 1935وتوفى عام 2010، تخرج فى كلية الآداب قسم الفلسفة، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر عام 1989 وجائزة العويس عام 1999وعلى التقديرية عام 2006، يعد أبرز شعراء جيل الستينيات فى مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وكتابة الشعر وترجمته. ومن دواوينه «الجوع والقمر» الذى صدر فى دمشق عام 1972، «ويتحدث الطمى» الذى صدر فى القاهرة عام 1977، ورباعية «الفرح»، وصدر فى لندن عام 1990، و«احتفالية المومياء المتوحشة»، وصدر فى القاهرة عام 1992م،ويعد كتاب «أوائل زيارات الدهشة» سيرة ذاتية أثارت أقلام النقاد طويلًا.

أفقت من شرودى لأجدنى بين يدى زوجته ورفيقة دربه لثلاثة وأربعين عامًا كاملة، السيدة نفيسة محمد قنديل، الكاتبة والناقدة الأدبية، فكانت فرصتى لأطرق أبوابًا فى عالم عفيفى مطر الإنسان والزوج لم يطرقها أحد قبلى.

«كان أبًا وأخًا وصديقًا قبل أن يكون زوجًا».. هكذا ابتدرتنى باسمة شاردة، واستطردت زافرة فى أسى: ثلاثة عشر عامًا هى الفارق بين عمرينا، لذا فقد كنت بمثابة التلميذة والابنة له، فقد تولى أمر تثقيفى عن طريق القراءة الممنهجة وليست المزاجية وهو ذلك الأسلوب الذى انتهجته حتى عندما صرت كاتبة ومترجمة فى مجلة الأقلام العراقية والآداب البيروتية وغيرهما فى فترة السبعينيات.

أما عن رومانسيته كزوج فتضيف السيدة نفيسة بأنها كانت تحمل من الرصانة ما كان يميز أشعاره، وهو رغم انفتاح فكره وثقافته الواسعة إلا أن صفات الرجل الريفى كانت بداخله، فقد كان كثير الغيرة على أهل بيته وبنتيه.

بينما تعتبر زوجته أن ما كتبه فى المرحلة الأولى من عمر كتاباته يعد من أرق ما كتب فى الشعر العربى الرومانسى، وهو ما كان موجهًا لها أثناء خطبتهما، فها هو يقول «حبك فى دمى النيران والبرد / فكنت الشعر والإنسان واللقمة».

ومن دلائل رومانسيته تقول زوجته إنه كان شديد الخوف عليها، وكان يقول لها إننى أشفق عليك من المصير الأليم، وكان سبب تخوفه ذلك القمع والظلم الذى كان يواجهه المثقفون آنذاك، لكنه أبدًا لم يفصح عن مصدر تخوفه.

ومنذ ما يزيد على الأربعين عامًا قال فيها « يا امرأة أموت على محفتها الفقيرة» لتتحقق نبوءته، عندما صحبته فى مرضه بالمستشفى فكان كل همه أن يعود إلى منزله ليموت على محفتها الفقيرة.

أما علاقته بأولاده الثلاثة «ولد وبنتان» فتقول زوجته إنه لم يكن يثقل عليهم بالتوجيه بل كان كالمتصوفة يربى بالنظرة. ولم يكن يفرض عليهم ثقافة معينة بل كانت مكتبته تضم العديد من الكتب فيترك لهم حرية قراءة ما يشاؤون.

وتتحدث زوجته عن حالته المزاجية إذا ما أصابه طائر الشعر، قائلة إنها كانت تعد البيت وتهيئه لاستقبال مزاجه المتقلب الذى كان يصحبه فى ساعات ولادة القصائد، فكان يقبع بمكتبه لساعات طوال يشرد خلالها كثيرا.

وتعتبر السيدة نفيسة أن أى زوجة لمثقف أو كاتب هى نصف شهيدة بما تتحمله من تقلبات مزاجية ونزوات شعرية واكتئاب قد يستمر لسنوات، ذلك أنه لم يكن ينظم شعرًا عفو الخاطر بل كان يعد للقصيدة بالقراءة المتعمقة والتهيؤ لسبر أغوارها.

أما عشقه لقريته رملة الأنجب فقد تحدث عنه كثيرا فى رائعته «أوائل زيارات الدهشة»، وتؤكد زوجته أنه كان مولعًا بالماء والخضرة وربما يرجع ذلك إلى أنه ولد على شاطئ الترعة عندما كانت أمه تستسقى الماء ذات يوم، فنما بداخله

حبه للأرض وكان يقضى أمتع أوقاته فى فلاحة حديقة منزله وزراعة الفاكهة، حتى أنه عندما حصل على جائزة العويس وكانت تقدر بمليون دولار اشترى بالمبلغ كله أرضًا وحفر بها بئرًا، إلا أن بعض البلطجية قد استولوا عليها أثناء فترة الانفلات الأمنى حتى الآن.

وربما كان حبه للنحل موازيًا لعشق الأرض، فقد كان يمتلك منحلا خاصًا به يذهب إليه كثيرًا ويعمل به بيديه، يجلس طويلا يتأمل تلك الحشرة العجيبة ويعجب من إبداع الله بها.

ورغم عشقه هذا إلا أنه يعترف بأنه كان كثيرًا ما يهرب بعيدا عن قريته، فقد ذكر فى كتاباته أنه لو ظل قابعًا بها لما استطاع أن يكون الشاعر محمد عفيفى مطر، فجمود القرية وخمول أهلها الروحى ما كان ليساعده على الخروج إلى آفاق أكثر رحابة.

فقد كان يمتلك من الطموح الأدبى والعلمى ما كان يجعله غير راضٍ عما وصل إليه من مكانة، بل كانت تسكنه أحلام التبحر فى علوم أخرى، وذلك كله رغم إنجازاته الأدبية وما تركه من إرث ثقافى فى الشعر والنثر والترجمات، حتى أن زوجته ترى أن له العديد من الكتب التى لابد وأن تدرس فى المدارس والجامعات، وتضاف لذاكرة الأجيال، مثل كتابيه عن الثورة العرابية وزكى مبارك.

وتعود لتتساءل عن سر استبعاد أعماله وافتقارها للانتشار المناسب لمكانتها، وتستطرد مجيبة بأن الأمر ربما يكون مرجعه عدة أسباب أهمها مواقفه السياسية الرافضة خاصة فى فترة السادات، كذلك عدم دخوله فى أى زمرة أو شلة من شأنها أن ترفعه، بل كان دوما ينأى بنفسه عن الشللية ويرى فى نفسه ضميرًا رهنًا للأمة.

وأخيرًا فقد كان لأسلوبه الرصين وعمق فلسفته أثر فى عدم استيعاب بعض الأجيال لأدبه إلا فى الفترة الأخيرة، فكتاباته هى نتاج قراءة طويلة وعميقة وجهد فى البحث والتقصى، وهى هنا تشبهه بأبى العلاء المعرى الذى لم تدرك عبقريته إلا متأخرًا.

ولم أكد أذكر تجربة الاعتقال المريرة التى تعرض لها مطر عقب مشاركته فى تظاهرات مناهضة لحرب العراق، حتى أطرقت زوجته أرضًا وغزت ملامحها سحابات الحزن، وقالت بصوت خفيض:كم تمنيت لو كنت أنا من اعتقل وليس هو، فقد كان الأمر مريرًا ومؤلمًا، تعرض للكثير من التعذيب حتى أنه كان يعانى من مرض بالكبد وكانوا يعلمون ذلك فيركزون مظاهر التعذيب على كبده، حتى أنه حلم بالحسين يواسيه ويبرد كبده، فقال إن رأس الحسين بردت كبدى، وهو ما ذكره فى ديوانه «المومياء المتوحشة»، ورغم كل ما لاقاه بتلك التجربة إلا أنه لم يكِن كُرهًا لأحد، بل خرج من تلك التجربة أكثر صفاءً وقوة وأقل حرصًا على الدنيا.

«أشتاق إلى مطر، إلى إحساسي بأنني ابنته وأمه وحبيبته» هكذا اختتمت حديثها معي، وتركتني أبحث في ثنايا بيتها عن ذلك الأب والحبيب..عن محمد عفيفي مطر.