رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الخدم وتشكيل الإطار الجنسي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

في كتابه "المسكوت عنه في عالم نجيب محفوظ" يضع الناقد مصطفي بيومي بابا بعنوان  " الخدم " وبالتحديد فصل " الإطار الجنسي " حيث يتناول ذلك بقوله قد يبدو موضع الخادم هامشيا في أدب نجيب محفوظ، لكن هذا الانطباع الأول ليس صحيحا أو دقيقا، فالكاتب الكبير يقدم رؤية شاملة متماسكة متوازنة، تسهم في تحقيق المزيد من الإحاطة والوعي بطبيعة الظاهرة، التي تمثل ملمحا راسخا في الأنظمة الاجتماعية كافة، وعبر مختلف الأزمان.

الأغلب الأعم من الخدم في الحياة المصرية، وفي أدب نجيب محفوظ بالتبعية، أقرب إلى الأعضاء الأصلاء في الأسرة، من المنظور الإنساني دون المادي، ويتسم أسلوب التعامل معهم بقدر كبير من الاحترام والمودة والتسامح، لكن المناخ العام لا يخلو من بعض التجاوزات والانتهاكات والإساءات، وهو ما يقود كثيرًا من الخادمات إلى السقوط في هاوية الاستغلال والقهر الجنسي، داخل الأسرة أو خارجها، وهذا المصير لا ينجو منه بعض الخدم من الرجال أيضًا.

ضعف الخلق: في "السكرتيرة" تتراجع المغامرات الجنسية لياسين عبدالجواد مع التقدم في العمر، لكنه يحتفظ بمخزون هائل من الخبرة النظرية التي لا يطبقها عمليا إلا في القليل النادر: " لم يبق لك من عالم المسرات إلا لذة المشاهدة في هذا المفرق من الطرق، ثم الصيد الرخيص، وخير الصيد الرخيص خادمة مصرية من العاملات في الأسر الإفرنجية.. فهي في الغالب مهذبة المظهر نظيفة، أما سيد مزاياها دون منازع فضعف الخلق، وتوجد أكثر ما توجد بسوق الخضار بميدان الأزهار" خادمات سوق الخضار بميدان الأزهار، وغير ذلك من الأسواق والميادين، ساقطات على الصعيد الجنسي، خارج دائرة الأسر اللاتي يعملن في خدمتها، ليس لأن المفاهيم والقيم الأخلاقية مختلفة عند العائلات الأجنبية فحسب، بل أيضا لأن الخادمة عرضة لكثير من المؤثرات السلبية بحكم الاحتكاك اليومي مع الشارع وتفاعلاته السلوكية غير المنضبطة. وعندما تتأزم الأوضاع الاجتماعية، وتحتاج سوق الدعارة إلى عاهرات محترفات لتلبية الطلب المتزايد، يبدو منطقيا أن تكون الخادمات في طليعة المرشحات للنزول إلى الساحة، وهذا ما يتجلى بوضوح في "خان الخليلي" ، حيث الرصد الموضوعي والتحليل الدقيق لبعض جوانب التغيير المصاحبة لاشتعال الحرب العالمية الثانية. لأن الخادمات قابعات في قاع السلم الاجتماعي، ولأن أخلاقهن لا تخلو من الضعف، فإنهن عرضة للاستغلال الجنسي, يمثل الأمر ظاهرة لافتة في أجواء الحرب، وهو ما يتجسد في قول المعلم نونو ساخرًا: "هنا نحن نصدر المواد الأولية والأحياء الأخرى توردها مصنوعة، فمن بعض أطراف هذا الحي نصدر الخادمات فتحولها الأحياء الأخرى إلى غانيات"!. في الرواية نفسها، يتوقف أصدقاء رشدي عاكف أمام الظاهرة، فيقول أحدهم: " – الخادمات يا سيد رشدي، سقيا لعهودهن، هجرن المطابخ إلى الكباريهات! ويعلن آخر: كانت الحرب فرصة طيبة لاكتشاف مواهبهن الفنية"!. هل تبيع الخادمة قوة عملها البدني في خدمة عائلة واحدة، أم تستثمر جسدها لمضاعفة العائد المادي؟!. قد يكون السؤال محسوم الإجابة من منظور أخلاقي تقليدي، لكن الأمر ليس كذلك بالمعايير الموضوعية البعيدة عن التصورات المثالية.

قد تبدأ رحلة السقوط الجنسي للخادمة في البيت الذي تعمل فيه، لكن مخدوميها لا يتحملون مسئولية سقوطها، ومن ذلك ما نجده في قصة " سمارة الأمير"، مجموعة "الحب فوق هضبة الهرم".

بدأت شلبية حياتها خادمة في سراي عصمت باشا خورشيد، حيث التحقت بالعمل وهي طفلة لا تعي شيئا من أمور الدنيا: "جاء أبوها بها إلى سراي عصمت باشا خورشيد وهي ابنة ثمانية منذ سبعة أعوام، وعقب عامين جاءت أمها حاملة نبأ وفاته، ثم أبلغت بعد عامين آخرين بنبأ وفاة أمها، فلم يبق من الشجرة إلا أقارب مجهولين لا يحفلون بها ولا تذكرهم". لم يعد لها مقام ومستقر إلا السراي، وهي ليست الخادمة الوحيدة بطبيعة الحال، لكنها الأصغر والأكثر براءة. ربة القصر تعطف عليها وتحنو، وتبقى المشكلة الحقيقية في افتقاد شلبية لمن يلقنها مبادئ الأخلاق التي تصونها وتحميها: "وكانت أخلاقها فطرية لا تكاد تتجاوز الحياء. حدثتها أمها عن الجنة والنار، وحذرتها الخادمات من الهفوات التي تقضي على مستقبل البنت. مستقبل البنت؟!. إذن فحياة السراي غير دائمة، ما هي إلا دار انتقال. المستقبل الحقيقي يقع في الخارج. ربما في كوخ كالذي جاءت منه. لكن ما كان يكفي هذا لتوفير تربية أخلاقية حقيقية".

بظهور علي جلال، سائق الباشا، في حياة الخادمة شلبية، ووقوعها في شباك غزله وكلماته البراقة الملونة، يبدأ السقوط والانهيار بلا مقاومة حقيقية. تفر معه، وتعاشره بلا زواج، تمهيدا للعمل الاحترافي راقصة في ملهى ليلي، وهو ما يقودها في النهاية إلى الدعارة.

قد يكون صحيحا أن تاريخها الجنسي لم يبدأ في القصر وبمعرفة مخدوميها، لكن الصحيح أنها لم تجد موجها وراعيا، وهو ما مهد السبيل للمصير الذي آلت إليه.

الالتزام والابتزاز:

أم أمينة، في قصة "ضد مجهول"، مجموعة "دنيا عبدالله"، خادمة عجوز في بيت المدرس بالمعاش حسن وهبي: "تجيئه حوالي العاشرة صباحا، وتغادره حوالي الخامسة مساء.. فتطهو طعامه وتنظف الشقة وتغسل الثياب". لا تقيم في الشقة بصفة دائمة، وتمتد فترة عملها ربع قرن: "خمسة عشر عاما على حياة زوجه، وعشرة أعوام بعد وفاتها. لكن المرحوم قرر أن تبيت في منزلها منذ ترمله، وهي أرملة، وأم لست من النساء". لا تفسير لقرار المدرس المتقاعد إلا أنه يتجنب ما قد يثار من الأقاويل حول إقامتها معه، دون نظر إلى عنصر التقدم في السن، لكن السؤال هنا: ما الذي يحول دون إقامة العلاقة الجنسية خلال الفترة من العاشرة صباحا إلى الخامسة مساء؟!. الأخلاق هي العاصم الوحيد بطبيعة الحال، لكن المدرس المتدين الورع يتقي الشبهات والشائعات.

وفي مقابل هذا السلوك المستقيم، نجد تجربة مغايرة للعاهرة شلبية في قصة "صورة"، مجموعة "خمارة القط الأسود". عملت خادمة قبل أن تحترف بيع جسدها، وتعرضت للتحرش الجنسي في البيت الأول الذي طردت منه، لأسباب يشار إليها تلميحا دون تصريح مباشر. عندما تنشر صورة شلبية بعد قتلها، تقول فتاة من قارئات الصحيفة لأمها: "كانت طيبة جدا يا ماما، تتلقى أي أمر بصبر وابتسام. كانت تغني في الحمام أغاني ريفية بصوت ساذج لطيف"، ثم تضيف: "كانت لطيفة وساذجة مؤدبة، ولكن لم أدر لأي سبب طردت". تشير الفتاة إلى اعتراض أبيها على طرد الخادمة، وتقطب الأم وتغيم عيناها بذكريات مقلقة، وهو ما ينم عن رائحة جنسية. لا شك أن شلبية قد تورطت جنسيا مع الأب، وهو ما يبرر طردها من ناحية واعتراض الرجل على القرار من ناحية أخرى. لا تنبئ القصة، بشكل واضح صريح، عن وجود علاقة جنسية بين الخادمة والزوج، لكن ريري في "السمان والخريف" تجمع بين عملي الخادمة والعاهرة.

لقد تعلقت بعيسى الدباغ مؤملة أن

يتجاوز وجودها في حياته ليلة واحدة، وتغريه أن يقبل استضافتها: "قلت لنفسي ربما كان في حاجة إلى أنس وخدمة".

على الرغم من رفضه السريع الحاسم للفكرة، فإنها تتشبث بالعرض الذي يعني لها أن تحظى تحت مظلته بالملاذ والأمان: " لم أدخر شيئا للشتاء، وأنت في حاجة إلى خدمة".

ما تعرضه ريري مزيج من الخدمات المنزلية والجنسية، جامعة بين عملي الخادمة والعاهرة في نسيج واحد. وقد نجحت خطتها، وحصلت على موافقته بالبقاء في الشقة، ولعبت دورها بلباقة: "وهو دور فوق مرتبة الخادمة ودون مرتبة السيدة". تجربة ريري مع عيسى ليست الأولى في حياتها، فهي تحكي له عن مغامرة سابقة مشابهة: "وعشقني في الأزاريطة خواجا فاتخذني خادمة في الظاهر، وكانت له امرأة عجوز قعيدة الفراش!".

خادمة في الظاهر، ورفيقة فراش بديلة للزوجة القعيدة!. الرضوخ والاستجابة: ليست ريري بالخادمة الوحيدة التي تستسلم لرغبات سادتها الجنسية، فـ "عنايات فضل الله" في قصة "الربيع القادم"، مجموعة "الشيطان يعظ"، خادمة لأسرة المدرس محمد فتحي. خدمة متصلة لعشر سنوات، مذ كانت في السابعة من عمرها، ثم يأتي العريس ابن العم.

ما الذي يبرر هروبها من الزواج الذي يبدو مناسبا؟. لا تفسير في قريتها إلا السقوط في مستنقع العار، والمسئولية عن ضياع الشرف يتحملها أبناء أسرة مخدومها جميعا. لا يغيب جمال عنايات عن ربة الأسرة جمالات: "نضجت في بيتها قبل الأوان. فطنت في وقتها إلى تحذيرات جمالها الناضج.

آمنت أنه من الأفضل إرجاعها إلى أمها. لم تنفذ فكرتها لشدة حاجتها إليها". خادمة شابة جميلة وثلاثة من الأبناء الذي يوحي الظاهر بأنهم ناجحون مهذبون مسلحون بالأخلاق الحميدة والمثل العليا. تتوالى اعترافات الفتاة، وتقر بأن ثلاثتهم قد أقاموا معها علاقة جنسية!؟ قد يكون صحيحا ما تقوله فيما يشبه الانكسار: "على رغمي.. لم أستطع صدهم.. جاءوا كلهم" ، لكن الصحيح أيضا أنها لم تفكر في المقاومة الجدية، وأنها – من حيث لا تدري- فجرت قضية متعددة الأبعاد، تتجاوز دائرة الأسرة الصغيرة إلى عموم المجتمع، الذي تزلزلت جملة المبادئ والقيم الحاكمة له.

جمالات وزوجها تربويان فاضلان، لكنهما لا يملكان حلا مقنعا للمشكلة المستعصية، وغاية ما يقترحه رب الأسرة: " ممكن أن نزوجها من ابن الحلال بعد اتخاذ الاحتياطات الطبية الواجبة"!. تلوذ عنايات بالأسرة من جديد، ثم تعاود الهروب للعمل في شقة مفروشة. وكم يبدو الزوج متغافلا بشكل عمدي عن حقائق الحياة، وهو يقول كأنه يخدع نفسه: "بوسعها أن تصون نفسها، فلن يرغمها أحد على الفساد". مغالطة مكشوفة لا يحكمها منطق، فقد سقطت الفتاة في شرك الفساد وهي تعمل في خدمة الأسرة المحافظة المسلحة بالمبادئ، فكيف تنجو من المصير نفسه وهي تعمل في شقة مفروشة؟!. في قصة "أسعد الله مساءك"، مجموعة "صباح الورد"، تجربة جنسية أخرى أكثر غرابة وإثارة، أما البطولة فيها فموزعة بين أم عبده وحليم عبدالقوي البيه. لا أهمية للخادمة في حياة الأب، لكنها تتحول بعد موته إلى أداة إنقاذ لانتشال الابن الوحيد من أزمة جنسية طاحنة لا علاج لها. تحطمت آمال حليم في الزواج والاستقرار بعد موت الأب، فقد أصبح الشاب مسئولا عن أمه وشقيقتيه اللتين فاتهما قطار الزواج. لا تروق له محترفات الدعارة، ويقترح عليه الصديق المقرب على يوسف أن "يجرب" أم عبده: "- لم يبق لك إلا أم عبده! هتفت بذهول: - أم عبده؟!. قال ببساطة: - تربت عندكم، منكسرة، وفيها رمق. لم لا؟ - إنها تكبرني بعشر سنوات! - لم أقترح عليك الزواج منها يا أستاذ!" فارق السن لا يمكن تجاهله، والخادمة أسهمت في تربية حليم، فكيف إذن يستقيم تصور علاقة جنسية بينهما؟!. لا بديل عنها لتحقيق الحد الأدنى من التوافق الضائع، ولا مفر من القيام بالمغامرة الغرائبية التي فرضها الحرمان: "إنها عشرة عمر، عرفتها منذ الطفولة كأنما هي قطعة من أثاث البيت، وازدادت العلاقة احتراما بعد أن خلفت أبي، ولعلها دهشت كثيرا عندما آنست مني تغييرا في النظر والكلام، ومثل هذه الأمور لا يغيب مغزاها إلا عن المعتوهين، وهي امرأة طيبة ولكنها لحسن الحظ ليست معتوهة.

لما مددت يدي ذهلت، تراجعت، تلاحقت أنفاسها في اضطراب واضح. الآن كل شيء يمضي على أحسن وجه، ولكن في حذر شديد". ترضخ الخادمة الطيبة أم عبده بلا مقاومة أو ممانعة، والحذر الشديد مبرر بضرورة مراعاة مشاعر الأم والشقيقتين، اللاتي لا شك أنهن قد انتبهن إلى العلاقة وآثرن الصمت والتغاضي.