رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

أبوهمام.. سيرة ومسيرة

أبو همام
أبو همام

طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
مع مشرق شمس الثلاثاء الثالث من ديسمبر 2014م، غربت شمس صناجة دار العلوم، وأديبها المفلق، وناقدها الحاذق

ومعلم الأجيال، الشاعر المترجم والمجمعي عبد اللطيف عبد الحليم ذو اللقب العقادي الأصيل"أبو همام"، تلميذ علمين من أعلام القرن العشرين، أولهما وأكثرهما أثرا فيه عميد التفكير العربي الأستاذ العقاد، وثانيهما هو شيخ المحققين العرب أبو فهر محمود شاكر، اللذان حملا شعلة الدفاع عن الموروث العربي ونشره، لسانا وبيانا، وشريعة وثقافة في القرن المنصرم، فخلفهما من بعدهما، وارثا إرثهما، يرد المناوئين، ويصد المهاجمين، ويذب عن حياض العربية كل الشانئين، حتى أتاه اليقين.
إن مولد "أبو همام" يمثل حجر زاوية وأساسا ركينا في قصر العروبة الشامخ؛ إذ شرفت دنياها وتفتحت أزهار بستانها بإنبات بذرة يانعة، وطبعت صفحة ناصعة فيعام 1945على أرض ريفية أصيلة تسمى قرية"طوخ دلكة" إحدى قرى محافظة المنوفية، تلك القرى التي لا يزال أهلها على فطرة الإسلام، ويعيشون على إرث العادة التي لا تختلف كثيرا عن العبادة، والتي تنماز بالقيم السامقة، والأخلاقيات السامية، والعادات العالية، مما يغلب عليها عدم مخالفتها نصا، ولا تقطع جسرا، ولا تترك فجرا ولا عصرا، ولا يغادر أهلها ريفها إلا وهم حافظون للقرآن أو قارئون له بحق الإقراء، كما أراد له رب الأرض والسماء.
شب "أبو همام" ونضج بين أطفالها، وعاش ميعة صباه، وتربى في بيت محب حافظ لكتاب الله، ومبجل لأهله الحاملين إياه، فاختتم حفظه– وهذه منقبة أولى - في كتَّاب القرية، والذي كان المدرسة التعليمية الثانية بعد المسجد الملحقة به، والكتَّاب لدى الريفيين أعظم من الجامعة في خريجيها ونتائجها، ويكفي شرفا لدى القرويين أن يعلموا أن ابنهم قد ختم القرآن، فإذا بالأفراح تعمهم، وبالمسرات تغزوهم، وكأنهم فازوا بخيري الدنيا والآخرة، بل هم فعلا قد فازوا؛ إيمانا عميقا، وإحسانا دقيقا، تربوا عليه، وكبروا في ظلاله، ذلك يوم كانت الكتاتيب مغروسة في العقول، مثمرة في القلوب، ولعلها لا تزال كذلك.
وبمجرد حفظ الشيخ الصغير عبد اللطيف للقرآن الكريم كان قد التحق بالمعهد الأزهري بشبين الكوم, وتلك منقبة أخرى، من حيث اختيار سبيل شرعي في ظلال لغوي، فالمعاهد الأزهرية وقتها كانت أكثر انتشارا وأعظم طلبا لدى الريفيين البسطاء، وكان آنئذ للأزهر مكمن الجد، وموطن النِّد، ومعدن الأصالة الذي يشع نورا إلى الدنيا وأطرافها كافة، ذلك النور الذي يجمع المتشرذمين، ويضم المخالفين، وتسعى إليه جماهير المسلمين في شتات الربا، وخفقات قلوب ذوي الرأي والشورى، بشيخه العظيم، الذي كان يعامل في زياراته معاملة الأمراء والرؤساء بل أكثر من ذلك بكثير.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
لم يكن التحاق أستاذنا "أبو همام" بالتعليم الأزهري التحاقا عاديا، أو ارتياده ارتيادا عابرا، كما نرى في هؤلاء الكُسالى الذين لا يحصلون من العلم إلا فسيفساءاته، ولا يخرجون بالمعرفة إلا قشورياتها، بل كان أبو همام نابغة أقرانه، فالتة زمانه، وناضرة مكانه؛ فلم يلبث إلا وتفوق على زملائه، حتى اختير ممن اختيروا من سائر المعاهد الأزهرية للالتحاق بالمعهد النموذجي للأزهر بالقاهرة– في منقبة ثالثة - تلك البدعة الحسنة التي ابتدعت آنئذ لإعداد المتفوقين، وتدريبهم تدريبا مميزا، فدرس فيه على أيدي علماء مصر وأدبائها وشيوخها، مثل الأستاذ خليفة التونسي، وتعرف زميله "أحمد كشك"، وصارت بينهما صحبة وأخوة، ويا ليت هذا المعهد بقي !! فسرعان ما أغلق، ثم ماتت فكرته... وعاد كل إلى معهده الأول.
لكن لم يكتف أبو همام بتلك المحاضرات التي تلقى على مسامعهم، في المعهد النموذجي، بل تجنَّح بجناحين عظيمين – في منقبة رابعة -فارتاد مجالس شيخ المحققين "أبو فهر"، وواظب عليها، وما أكثر ما اختلفت آراؤه وائتلفت معه، وفي إسبانيا كانت لهما صحبة، وأما الجناح الأقوى والأشد صلادة بركائزه الصلبة، فهو الأستاذ عباس العقاد الذي سيطرت آراؤه وأفكاره على لبه، فاعتنقها وآمن بها إيمان المسلم بربه، وعاش في كنفه، وظل مخلصا له مدافعا عنه حتى رحيله، وكان من بين نصائح العقاد له "أن يا شيخ عبد اللطيف عليك بدار العلوم،ويعبر أبوهمام عن هذه المرحلة في مسيرته الحياتية والثقافية والإبداعية بقوله: "وعرفت أنني لم أكن منذورا لدروس الفقه، بل كنت منذورا لعرائس الشعر".
فولى وجهه وصديقه "أحمد كشك" شطرها،والتحقا بها – في منقبة خامسة -في مبناها القديم بالمنيرة، الذي كثيرا ما كان يذكرها بقوله: "نضر الله أيامها"، فشارك في أنشطتها، وشرب من معينها شرابا سلافيا، ونضجت فيها مواهبه الشعرية وملكاته اللغوية، وأثرت فيه عراقتها التاريخية،حتى صار أول دفعته، وظل محافظا على ذلك إلى أن تخرج فيها عام1970م,وعين فيها معيدًا، وكيف لا يعين مثله؟!! فكان ذلك من محاسن هذا النظام الموبوء الذي يعين الأوائل فقط دون اختبارات مهارية أو استحقاقات حياتية، أو مسابقات فكرية وثقافية، فأمسى ذوو هذا الاختيار ما بين مفيد للدار نافع لمريديها أو ضار لها مضل لهم،وما أكثر الثانية على حساب الأولى.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
اختار أبو همام قسم الدراسات الأدبية، وأكمل دراسته العليا بها،فحصل على الماجستير عن شاعرية المازنيعام 1974م, ثم سافر في بعثة دراسية إلى جامعة مدريد عام 1976– في منقبة سادسة - وهناك حصل على درجتي الليسانس والماجستير مرة أخرى، على عادتهم؛ إذ لا يعترفون بليسانساتنا، ويرون فيها عوارا بطرائقهم، وفجوة فيما بينهما، فاجتاز اختباراتهم، وانماز بقوانينهم وقواعدهم على طلابهم، ثم وصل إلى المبتغى، فحصل علىدكتوراة الدولة بتقدير ممتاز من جامعة مدريد 1983م، ولم يصنع صنيع بعض المبعوثين؛ من حيث التغرُّب والتقليد والتأثر بمفاتنهم وما أكثرها، بله لم ينس خير الدار عليه، فعاد إلى مصر أستاذًا ورئيسا لقسم الدراسات الأدبية بها.
لقد كانت البعثات آنئذ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، إذ يبتعث إلى كبرى الجامعات الأوروبية النوابغ والمميزون، الذين يرتجى منهم إثراء الحركة الثقافية بالنظريات والمناهج التجديدية التي تنماس مع طبيعة العربية، وتزداد بها رونقا وبهاء، وتاريخ الدار مليء بهذه النماذج المشرقة؛ من أيام نشأتها على أيدي علي مبارك، ومرورا بتوفيق العدل، وغنيمي هلال، ...وانتهاءً بفقيهنا أسامة شفيع المبعوث إلى فرنسا، وبصديقنا الناقد محمد متولي المبعوث إلى ألمانيا للحصول على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث.
إن "أبو همام" بعودته تلك إلى الدار، حمل مشعل الديوانيين ورفع راية العقاديين بخاصة، فمكث يدرس شعرهم وأدبهم، من خلال كتبه المتنوعة، كـ: شعراء ما بعد الديوان بأجزائه المختلفة، والمازني شاعرا، وعرض آراءه في بعض الشعراء المشهورين المحدثين وبثها في كتابه: حديث الشعر، وفي الشعر العماني المعاصر، وهذا الأخير كتبه أثناء إعارته إلى

جامعة السلطان قابوس بعمان.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
ولم تأخذه الحياة العلمية والأكاديمية بعيدا من تفيُّض شعوره، وتدفق عطوره، وانسراح عبيره، وعميق تجاربه، وجريان عاطفته في جداول مأربه، حتى ازدان بها مداد قلمه، فأبدع لنا على الموزون المقفى الخليلي إبداعات عديدات، نشر بعضها في صحف الوطن العربي ومجلاته, وكتب مقدمات لبعض السلاسل الأدبية في الشعر والقصة، ثم أصدر دواوينه الشعرية والتي ضمتها - من بعد - أعماله الكاملة، وهي: الخوف من المطر 1974م، ولزوميات وقصائد أخرى 1985م، وهدير الصمت 1987م، ومقام المنسرح 1989م،وأغاني العاشق الأندلسي 1992م، وزهرة النار 1998م، وهذه سابعة المنقبات له.
والمطلع بنظرة أولى تجاه هذه العناوين يلاحظ عبق الموروث فيها، وصدق الاتباع للقدامى من حيث المظهر، وروعة الإبداع من حيث الجوهر، ودقة التجديد في المعالجة والموالجة، وما اللزوميات لديه إلا للتحدي المتعمد تجاه المعجم العربي والمعتمد عليه في الوقت نفسه، الذي كان أستاذنا يحفظ منه صفحات وصفحات، حتى قلنا عنه يوما: إنه "معجم يمشي على قدمين"، فكنا نسمع منه اللسان المستقيم، والبيان القويم، ولعله وقد صار فيه على شاكلة لزوميات المعري، قد اختلف عنه بما عرضه من فِكَر وتجارب من روح عصره، ومن بواطن بصره ودواخل بصيرته، وأما مقام المنسرح، والذي كان يقدس تفعيلاته، ويرى فيها تحديا آخر في زمن طوى عددا من البحور الخليلية المركبة، فعظم عليه أمره حتى استرد عافيته على يديه بما أولاه من عناية لا نظير لغيره فيها، وإنه ليؤكد به أن القريحة العربية تستطيع أن تكتب على أي وزن من وحي دوائر الخليل متى أراد الشاعر، وكيفما شاءمنها، مع مزيدات من الإتاحة للخروج عن المألوف، شريطة أن يوافق روح العربية بطرف، وأما تلك الأغاني الأندلسية بالنسبة لـ"أبو همام" فيمكن أن نقول عنها: إنها قصة حياته بالأندلس "الفردوس العربي المفقود"، فقد كتب معظم قصائده من إلهامات آثار المسلمين بأسبانيا، حينما كان دارسا هناك للحصول على الدكتوراة ... إلخ.
فمن يتابع مسيرته – رحمه الله - يدرك أن لها مقدمات في مجملها كانت عشقا للحرف في مرحلة مبكرة من العمر، وكان الحرف الأول في عالم الغناء، بدءا بغناء الباعة الجائلين الذين يرددون نداءاتهم على نحو موقع،  ثم صعد العشق للحرف من هذا المستوى إلى مقاربة الشعر في غناء الموالد والأفراح، ثم صعد أكثر ليقارب الإنشاد الديني في التواشيح لكى يصل إلى الغناء القديمجملة، وهذه المقدمة الصوتية– كما يقول صديقه د/ محمد عبد المطلب - في عشق الحرف كانت موازية مع المقدمة الثقافية في حفظ الأوراد والمتون الصوفية وصولا إلى حفظ القرآن الكريم.
أما أعماله الإبداعية الأخرى فقد كان له باع في فنون الترجمة والتحقيق والتأليف والكتابة، وقد ترجم مسرحية"خاتمان من أجل سيدة 1984م"،و"قصائد من إسبانيا وأميركا اللاتينية1987م", وحقق كتاب "حدائق الأزاهر" لابن عاصم الغرناطي، وغير ذلك مما هو معروف عنه ومشهور له.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
ولم تنسه الدولة أو المؤسسات العربية في التكريمات والتشريفات، فقد حصل أبو همام على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة الإبداعية 1987م, ونال جائزة مؤسسة البابطين للإبداع الشعري عن أفضل ديوان عام 2000م, وترجم بعض شعره إلى الإسبانية والفرنسية، وكان مقرر اللجنة الدائمة للغة العربية لترقية الأساتذة المساعدين بالمجلس الأعلى للجامعات، وتولى رئاسة مجلس إدارة جمعية العقاد الأدبية أعوام 1985 - 1988, وعضو اتحاد الكتاب, وجمعية الأدب المقارن، وعضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة وعضو مجلس أمناء كرمة ابن هانئ.
وخلال هذه الفترة التي صال فيها وجال بين أروقة المؤتمرات والندوات والملتقيات الشعرية، أخذ صوته يعلو ضد عدد من التيارات الشعرية السقيمة في رأيه، والتي لا يرجى بها ولا ينتظر منها إلا خراب العربية وجمودها، واندثار الإسلام بسببها، فجاهد وأقام المعارك وكثرت المواجهات بينه وبين أنصار الشعر الحر وشعر التفعيلة وأرباب "قصيدة النثر"، وشاعت مقولاته التي يهاجمهم فيها، واشتهرت مقالته التي ينتقد منهجهم بها، وصار لا يلتقي جمهوره ومريديه إلا ويصرح بآراء مثيرة للفكر وإعمال العقل، وصار إمام العقاديين في زمان الروائيين والنثيريين.
ولأجل إسهاماته الكثيرة في سبيل العربية والدفاع عنها، انتخب عضوا بمجمع الخالدينبالقاهرة عام 2012م – في ثامنة المنقبات - وعمل في لجنة المعجم الكبير... إلى أن وافته منيته، ولما يكتمل المعجم بعد.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ