رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

رحيل قيثارة فلسطين الأخيرة.. سميح القاسم وداعاً

بوابة الوفد الإلكترونية

هل تخيل الشاعر الفلسطينى سميح القاسم يوماً وهو فى شبابه أنه سيعيش كهولته، وأن الآلاف سيشاركون فى تشييع جثمانه فى مسيرة ترفع خلالها الأعلام الفلسطينية وتتخللها قراءة أشعاره، وأن يغطى صدره بالورد الجورى الأحمر وأغصان الزيتون، وأن ترتدى النسوة الأسود وغطاء الرأس الأبيض ويحملن دواوينه، وهن يندبن الشاعر بقولهن «كتبوا أوراق النعى وفرقوها على البلاد»، وأن يرتدى الشبان سترات كتب عليها «منتصب القامة أمشى.. مرفوع الهامة أمشى» وأن الموكب المهيب سيسير وراء علم فلسطينى يمتد لعشرة أمتار على وقع كلمات قصيدة «سماء الأبجدية»،

كم مرة ذكر سميح القاسم الموت فى شعره، ووصفه قريبا منه ومن أرضه وأهله، وكم مرة فقد عزيزاً لم يتركه سوى من دقائق، فربما تخيل الشاعر كثيراً أن نهايته حتماً ستكون تحت الأنقاض مثل وطنه كله، وأنه لن يتعرف على جثمانه أحد، فدبابات عدوه الصهيونى تهوى الشعر والشعراء، وتفتش عن القصائد والدواوين عند البوابات قبل الأسلحة وأوراق الهوية، فسميح القاسم  - الذى غيب الموت جسده قبل أيام - وحبات عقده، محمود درويش وتوفيق زيادة وفدوى طوقان، هم من حملوا أرضهم وقضيتهم على أسنة أقلامهم، فتغنى بهم الشعراء فقال لهم نزار قبانى: شعراء المقاومة.. سلاماً.

أنا لا أحبك يا موت لكنى لا أخافك

وأدرك أن سريرك جسمى وروحى لحافك

وأدرك أنى تضيق على ضفافك

أنا لا أحبك يا موت لكنى لا أخافك  

هذا هو قوله الأخير قبل أن يوارى جسده الثرى على قطعة أرض مرتفعة على جبل حيدر فى بلدة الرامة وتشرف على جبال الجليل وعلى مدينة حيفا ورأس الناقورة، وخلال الجنازة  صدحت قصيدة له بصوته يصف فيها عزاءه ويقول فيها: «أشكر من قدم لتشييع جثمانى.. ولكل الذين أتاحوا لى رفعى على أكتافهم وأولئك الذين حملوا أكاليل الورود.. ماذا أقول؟؟.. وجاءوا لتكريم شخصى الضعيف لهذه الجنازة.. ألا عظم الله أجركم أجمعين»، وانطلقت كلمات القاسم بصوته: «قالوا ويوم تغادر روحى فضائى.. لشىء يسمونه الموت أرجو أن لا تفارق وجهى الابتسامة، من المؤكد أنه عندما تقدم به العمر وتمكن السرطان من كبده، أدرك أنه ربما أتاه ملاك الموت وهو فى فراشه فتقدم إليهم بشكره من بعيد».

ويعتبر موت سميح القاسم للأسف نهاية حقبة شعرية من أهم حقب التاريخ الشعرى فى الوطن العربى، فسميح القاسم أحد أهم وأشهر الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل الأراضي فى عام 48. 

«حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي».

كانَ والدُ الطفل سميح ضابطاً برتبةِ رئيس في قوّة حدود شرق الأردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم.. وحينَ كانت عائلة القاسم في طريق العودة إلى فلسطين في القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية! وبلغَ بهم الذعر درجة التهديد بقتل الطفل إلى أن اضطر الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم، وحينَ رُوِيَت الحكاية لسميح فيما بعد تركَتْ أثراً عميقاً في نفسه، فظل يقطر حباً وشعراً لوطنه حتى آخر لحظة فى حياته.

ولد لعائلة درزية في مدينة الزرقاء يوم 11 مايو 1939، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة، وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ليتفرغ لعمله الأدبي، كذلك أسهَمَ في تحرير «الغد» و«الاتحاد» ثم رئيس تحرير جريدة «هذا العالم» عام 1966، ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً أدبياً في «الاتحاد» وأمين عام تحرير «الجديد» ثمَّ رئيس تحريرها، وأسَّسَ منشورات «عربسك» في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدارَ فيما بعد «المؤسسة الشعبية للفنون» في حيفا.

«تقدموا بناقلات جندكم وراجمات حقدكم.. وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا.. لن تكسروا أعماقنا.. لن تهزموا أشواقنا».

سُجِن سميح القاسم أكثر من مرة كما وُضِعَ رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي، فما كان منه إلا أن قال بكل التحدي المقاوم لجحافل الاحتلال التي تصب من جديد جحيم نارها على غزة: «تقدموا.. تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم.. وكل ارض تحتكم جهنم.. تقدموا.. يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلم.. وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم».

أسس سميح القاسم صحيفة «كل العرب» وكان عضواً في الحزب الشيوعي، ورئيس اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تأسيسهما، ورئيس تحرير الفصلية الثقافية «إضاءات» التي أصدرها بالتعاون مع الكاتب الدكتور نبيه القاسم.

طُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه، واشتغل مُعلماً وعاملاً في خليج حيفا وصحفياً، اتسم بالسخاء فى أدائه الشعرى، وما إن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي تناول فيها الكفاح والمعاناة الفلسطينيين.

كتب سميح القاسم أيضاً عدداً من الروايات، وصَدَرَ له أكثر من 60 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، وصدَرتْ أعماله الناجزة في سبعة مجلّدات عن دور نشر عدّة في القدس وبيروت والقاهرة، وللشاعر سميح القاسم عدد كبير من المجموعات الشعرية التي بدأ رحلة إصدارها عام 1958 بكتاب «مواكب الشمس» ليتوالى بعد ذلك صدور تلك المجموعات

بوتيرة سريعة وبعناوين لافتة مثل «أغاني الدروب»، و«دمي على كفي»، و«دخان البراكين»، و«سقوط الأقنعة»، و«يكون أن يأتي طائر الرعد»، و«رحلة السراديب الموحشة»، و«طلب انتساب للحزب»، و«الموت الكبير».

وكان من بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، وله عدد من الأعمال المسرحية والحكايات والكتب النثرية والبحثية، فيما تبقى رسائله المتبادلة مع صديقه في الشعر والنضال والحياة الشاعر الراحل محمود درويش أحد أجمل مشاريعهما الابداعية.

وفي خضم مغامراته التجريبية ابتكر سميح القاسم شكلاً شعرياً يعتمد على المطولات سماه «السربيات»، وبدأ ذلك المشروع بسربية «أرم» التي صار شكلها العام مدمكاً من مداميكه الشعرية وهو في سربياته تلك يتداعى بشكل حر وتصاعدي دون أن يهتم كثيراً بوحدة في الشكل وإنما يحاول الاستفادة من كل ما يجده في طريقه الإبداعي من حالات وأشكال وصور ومعطيات فنية وموسيقية.

تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائد القاسم إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية واللغات الأخرى.

حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات.. فنالَ جائزة «غار الشعر» من إسبانيا وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي.. وحصلَ على جائزة البابطين، وحصل مرّتين على «وسام القدس للثقافة» من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وعلى جائزة نجيب محفوظ من مصر، وجائزة «السلام» من واحة السلام، وجائزة «الشعر» الفلسطينية.

صدَرتْ في العالم العربي وفي العالم عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعمال الشاعر وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة، شكلاً ومضموناً،  ليحصد كماً من النعوت والألقاب لم تصادف غيره من الكتاب.

فنرى الشاعرة والباحثة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، تقول: إنه الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشِّعر العربي.. وهو كما يرى الكاتب سهيل كيوان «هوميروس من الصحراء» أما الشاعرة والباحثة الدكتورة رقية زيدان فترى أنه «قيثارة فلسطين ومتنبيها».

وجاءَ في تقديم طبعة القدس لأعماله الناجزة عن دار «الهدى» الطبعة الأولى سنة 1991 شاعرنا الكبير سميح القاسم استحقَّ عن جدارة تامة ما أُطلِقَ عليه مِن نعوت وألقاب وفاز به من جوائز عربية وعالمية، فهو «شاعر المقاومة الفلسطينية» وهو «شاعر القومية العربية».

توزّعت أعمال سميح القاسم ما بينَ الشعر والنثر والمسرحية والرواية والبحث والترجمة.. ومن أهم دواوينه: «مواكب الشمس» و«أغاني الدروب» و«دمي على كفِّي» و«دخان البراكين» و«يكون أن يأتي طائر الرعد» و«الموت الكبير».

تناول كثير من الدراسات الأدبية أعمال سميح القاسم كان أهمها: «الرسالة الجامعية المتخصصة» التي تناولت حياة سميح القاسم وشعره والتي تقدم بها الطالب خضر محمد أبوجحجوح، بعنوان: «شعر سميح القاسم بين الموقف الأيديولوجي والشكل الجمالي»، وحاز عليها الباحث درجة الماجستير في النقد الأدبي عام 2002 من البرنامج المشترك بين جامعة الأقصى بغزة، وجامعة عين شمس بالقاهرة، وهي رسالة قيمة تقع في زهاء 600 صفحة.

توفي الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، بعد صراع مع مرض سرطان الكبد الذي داهمه مدة 3 سنوات، والذي أدى إلى تدهور حالته الصحية في الأيام الأخيرة حتى وافته المنية منذ أيام، ليكون الصفحة الأخيرة فى شعراء المقاومة الذين خبرناهم وتربينا على شعرهم، ومن يدرى ربما بعده تفتح صفحات جديدة تنير الطريق لفلسطين وأهلها.

«غداً يأتى النهار.. وينحني السجان في انبهار.. ويرتمي.. ويرتمي معتقلي.. مهدماً.. لهيبة النهار».