رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

"ذاكرة الرصاص" .. عودة للجزائر كما أعرفها

بوابة الوفد الإلكترونية

أول مرة أسمع كلمة (الجزائر) كانت من «حنان زكريا» زميلتي في الصف الرابع الابتدائي عام 1976 بمدرسة «الاتحاد القومي» التي كانت في الأصل قصر لإحدي أميرات أسرة «محمد علي» قبل 1952 وتقع في مواجهة «نادي القضاة» بشارع شامبليون العريق في وسط البلد.

«حنان زكريا» هي ابنة الأستاذ «زكريا» مدرس اللغة العربية جارنا في العمارة حيث تقع شقته في الدور الرابع، بينما تسكن عائلتي في الدور الثامن، قالت لي حينما أبديت إعجابي بتنورتها القطيفة ذات اللون الأخضر الداكن إنها من (الجزائر) التي يعلم والدها الأستاذ «زكريا» اللغة العربية لأبنائها، حيث تجري الفرنسية علي لسانهم العربي أكثر من العربية نفسها بفعل الاستعمار الفرنسي.. ابتسمت ولم أفهم ولكن ظلت عالقة في ذهني لسنوات التنورة ذات اللون الأخضر الداكن رمز للجزائر التي لا أعرفها.
فكتب التاريخ المدرسية شحيحة لا تترك في خريطة الوعي عن «الجزائر» سوي عبارة (أرض المليون شهيد) التي صمدت لاستعمار شرس قرابة المائة وثلاثين عاماً حتي نالت استقلالها عنه في الستينيات من القرن الماضي في موجة هادرة لحركات التحرر الوطني في أفريقيا وكانت (الجزائر) في المقدمة بحكم الدم والتضحيات.
لتبقي (الجزائر) في الذاكرة مجرد أقاصيص من أوراق الطفولة والدراسة وساعتين ونصف الساعة هما فيلم المخرج الكبير «يوسف شاهين» عن المناضلة الجزائرية «جميلة بوحريد» ووجهها الملائكي في ثوب السجن وهي تنظر إلي جلاديها من القضاة الفرنسيين في كبرياء وكرامة وطنية.
لتقفز (الجزائر) مرة أخري في دائرة الوعي عبر أول رسالة ماجستير عن «جريدة المجاهد» الجزائرية، التي تعد الرسالة العمدة في حقل الدراسات الإعلامية عن صحف النضال الوطني في عالمنا العربي، التي قامت بها أستاذتي بقعة الضوء المبهرة «عواطف عبدالرحمن» التي شرفت أن أوثق مذكراتها وأسجل بصوتها نحو عشرين ساعة عن حياتها الشخصية منذ أن جاءت من قريتها «الزرابي» بمحافظة أسيوط، حتي أصبحت من أهم أساتذة قسم الصحافة بكلية الإعلام، ولقد صدرت هذه المذكرات بعنوان «صفصافة» العام الماضي عن الهيئة العامة للكتاب وفيها روت لي عن نضال الثوار الجزائرين وعن جريدة «المجاهد» لسان حال جبهة التحرير الوطني خلال حرب تحرير (الجزائر) وأن ظروف تأسيس الجريدة إبان الثورة المسلحة في الفترة من 1956 إلي 1957 كانت مرحلة سرية مضيفة إلي أن مضمون الصحيفة كان يدافع عن فكرتين أساسيتين هما: المطالبة باستقلال البلاد وإبراز أن حرب التحرير الوطني كانت موازية لثورة ديمقراطية شاملة اجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية وأن قادة الثورة شعروا بالحاجة إلي إبراز أن مايجري في (الجزائر) كان بالفعل حركة وطنية موحدة ضد الاستعمار الفرنسي ومنه جاءت فكرة تأسيس صحيفة أياً كانت لغة التعبير فرنسية أو عربية فإن المضمون والخط الافتتاحي لم يتغيرا، فصحيفة «المجاهد» تعد جريدة مهمة في تاريخ (الجزائر).
أيضاً حكت لي إنها التقت أثناء إعداد دراستها للماجستير الرئيس هواري بومدين - رئيس الجزائر: 1965/ 1978 - ووجهت له تساؤلاً قالت إنه لا يخلو من العتاب والدهشة عن وجود المجاهدين الجزائريين في دار بعيدة عن العاصمة يطلقون عليها (دار المجاهدين القدامى) فيما يشغل المناصب والمواقع الرئيسية والوزارية هؤلاء الجزائريين الذين كانوا خارج الجزائر أثناء الثورة ولم يشاركوا في أحداثها ولكنهم عادوا إليها بعد انتصارها وبدأوا في التهام ثمارها.
ابتسم الرئيس «بومدين» وقال بصوت يجمع بين السخرية والمرارة (لا تنسي مقولة بونابرت التي كررها ديجول على لسان أندريه مالروا: إن الثورة يخطط لها الأذكياء ويصنع أحداثها النبلاء ويجني ثمارها الانتهازيون.
ولكن الأوطان دروب وعرة لا تبوح بأسرارها إلا لمن يعشق السفر إليها وأن الوطن كلما نزف ألماً نزف أيضاً إبداعاً فأرحل الي (الجزائر) عبر آلاف الصفحات التي كتبها مبدعيها من أرواحهم وحزنهم علي الوطن المنكوب، فمنهم من هاجر بجسده بعيداً عنها لتبقي هي الملهمة لأعماله ومنها من بقي في الوطن ليحيا ويموت علي ترابه، فالإرهاب كما توصفه دراسة مهمة للباحثة الجزائرية «شادية بن يحيي»: «ليس حدثاً بسيطاً في حياة المجتمع، وقد لا يقاس بالمدة التي يستغرقها ولا بعدد الجرائم التي يقترفها بل بفظاعتها ودرجة وحشيتها، وعندما يتعلق الأمر بالجزائر فإن الإرهاب تقاس خطورته بتلك المقاييس جميعاً، إذ استغرق مدة غير قصيرة لكن انشغال الناس به في سعيهم اليومي وأرقهم الليلي لم يمنع بعض الكتاب من تسجيله بل إن ثقله هو الذي يفرض على الكاتب حالة من الحضور يصعب عليه أن يتنصل منه».
إذا فموضوع العنف المعروف إعلامياً بالإرهاب، كان مدار معظم الأعمال الروائية التسعينية، إلا أن هذا العنف لم يكن الطابع الوحيد الذي طبع في السنوات الماضية، إذ لم تكن عشرية الأزمة فقط بل كذلك

كانت عشرية التحول نحو اقتصاد السوق وتسريح العمال وإلغاء انتخابات 1992.
حيث واكبت الرواية الجزائرية هذه المرحلة الجديدة، مرحلة التكتلات وبهذا ظهرت رواية المعارضة كبديل عن رواية السلطة التي فقدت هيبتها بعد أحداث 8 أكتوبر 1988، وبذلك فسحت المجال لرواية المعارضة بعد توفر مناخ الحرية الذي أفرزه دخول الجزائر مرحلة اختيارات جديدة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، فزالت سياسة الحزب الواحد، وجاءت التعددية الحزبية وقد رافق هذا المعطى السياسي اعتبار حرية التعبير في الدستور حقا من حقوق المواطنة، وبهذا أصبح النص الروائي ملزماً بتجديد موقفه مما يحدث، وكما كان الروائي الصوت المعبر عن هموم الجماعة والصادر عن عمقها، كان أول ردود فعله اتجاه ما يحدث هو الوعي بالمأساة الوطنية.
فقرأت روايات لمختلف الأجيال التي تعاطت موضوع العنف السياسي وآثاره اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، حيث يلتقي الطاهر وطار في «الشمعة والدهاليز» مع واسيني الأعرج في «سيدة المقام» في البحث عن جذور الأزمة وفضح الممارسات التي تبعتها، كما جسدها آخرون كإبراهيم سعدي في «فتاوي زمن الموت» ومحمد ساري في «الورم»، وبشير مفتي في «المراسيم والجنائز» وغيرهم ممن يملأون الدنيا صخباً ومرارة وخوف وعشق علي الوطن الحبيب (الجزائر) ولكن هذه هي المرة الأولي التي يحدث فيها صخب للجزائر روائي مصري هو صديقي العزيز «مصطفي عبيد» بروايته التي صدرت مؤخراً بعنوان «ذاكرة الرصاص» التي أعطاها لي بابتسامته الودودة لكي أقرأها فاكتشفت أنه يقدم لي (الجزائر) بعيونه المبدعة في لغة سردية شديدة العذوبة مليئة بأشعار «أمل دنقل» و«نزار قباني» وأشعاره شخصياً - فهو أيضاً يقرض الشعر - ولكن تقطر ألماً علي (الجزائر) في فترة التسعينيات والمعروفة بالعشرية الحمراء لكم الضحايا الذين سقطوا في مواجهات بين الجيش المسلح للجماعات الاسلامية وبين جيش الدولة.
الروائي الجميل «مصطفي عبيد» لا يدين أحداً في هذه الرواية المصرية الجزائرية الهوي ولكنه يقدم الجميع بشفافية مطلقة، ومن خلال الصحفي «مصطفي نديم» بطل الرواية الذي يسافر إلي الجزائر ضمن لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة ويقرأ عشرات الشهادات الخاصة بالمذابح التي ارتكبت بطول البلاد وعرضها التي كان ابشعها مذبحة «بن طلحة» التي حدثت في ليل هادئ من صيف عام1997 بل يستعرض بوادر الأزمة الجزائرية السياسية حينما تم إلغاء انتخابات 1992 للفوز الساحق للأسلاميين وخوف مؤسسات الدولة من انهيار مفاصلها نتيجة اتجاه للإسلاميين لمزيد من التطرف وانتهاج مبدأ الحاكمية الذي نادي به الأب الروحي لكل الجهاديين الاسلاميين المفكر المصري «سيد قطب» لتندلع أعنف موجة من الإرهاب في الجزائر استغرقت نحو عشر سنوات كاملة حمراء بلون دم الضحايا، ففي الرواية الجميع، وهنا أقصد العسكريين والإسلاميين والناشطين السياسيين الذين وثقوا شهادات الضحايا وأهاليهم وأخيراً المثقفين والإعلاميين والفنانيين المستهدفين دوماً من قبل الجماعات الإسلامية يحكي من وجهه نظره وأن ما فعله كان من أجل «الجزائر» التي تفرق دماؤها بينهم جميعاً.
الرواية جديرة بأن تقرأ فهي دعوة مصرية خالصة لمعرفة (الجزائر) ربما يقرأها أحد ويكتب عنها ذات يوم: إنها كانت أول الطريق لمعرفة وطن عربي يسمي (الجزائر).