رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

المصريون المعلم الأكبر لثورات الحرية فى العالم

بوابة الوفد الإلكترونية

إن اللحظة الراهنة ما هى سوى حلقة في عقد العبقرية المصرية الأصيلة، الذى يمتد تاريخها إلى سبعة آلاف سنة ،و لأن سمة الأشياء التغير

و الصعود والهبوط  فإن هذه العبقرية لم يكن لها أن تظل متوهجة دائماً،  وكان لابد لها من حالات من  الاندثار، تطول أو تقصر،  ولكن الذي لا شك فيه أن هذه الأوقات لم يكتب لها التعمق فى أى لحظة من اللحظات، فظلت الشخصية المصرية تحمل تاريخها وحضارتها  بين  جوانحها بما لها من  الثراء الروحي والحضاري وبما يكفل لها التعايش مع الأيام ومواجهة التحديات، وعبقرية الشعب المصرى تحتاج كل يوم الى مؤلف وإلى كتاب جديد يؤصل ويسجل عبقرية المصريين فى كل الأزمنة والعصور.
ولأن الثورة لا يمكن أن نعتبرها فعلا سريعاً وينتهي ولا أن تقاس بالساعات او الايام، لأنها منظومة متكاملة وفعل قد يستمر لسنوات، فهو يحتاج للحظات طويلة من التأمل و التنظير،  لهذا اهتم عدد من المفكرين خلال العامين الماضيين بإصدار عدة كتب تنظر للفعل الثورى وعبقرية المصريين فيما قدموه خلال الأيام السابقة من مواقف أذهلت العالم.

في الكتاب الممتع الذي أعدة نخبة من أساتذة التاريخ المصريين «كفاحنا ضد الغزاة» نجد قائمة طويلة من الشعوب والأقوام التي طمعت في مصر وأرادت أن تغزوها، البعض نجح لبعض الوقت والبعض الآخر نزلت عليه هزيمة ساحقة منذ أن وطأت قدماه أرض مصر،فمنذ المصريين القدماء وهناك دائماً عدو يتربص، في البدء كان الساميين وغزوتهم لمصر في عصر الأسرة السادسة ثم جاء من بعدهم غزو الهكسوس لمصر في القرن السابع عشر قبل الميلاد لتتوالي الهجمات من آشوريين، بطالمة، رومان ،لتأتي القرون الوسطي بالغزوة الكبري الأولي لاستيلاء الصليبيين علي مصر ، الغزوة الكبري الثانية لاستيلاء الصليبيين علي مصر،وأخيراً يأتي العصر الحديث علي مصر فلا يهدأ الطامعون  فيغزوها العثمانيون والمماليك والفرنسيون والإنجليز.
ولكن هل ركن المصريون الي هذا المحتل أو ذاك ؟ سؤال يجيب عنة هذا الكتاب فيقول الدكتور عبد المنعم أبو بكر :صفحات التاريخ قد سجلت لمصر مواقفها الخالدة ضد هؤلاء الغزاة ،فكانت تهب عن بكرة أبيها للدفاع عن الوطن العزيز. وإذا غلبنا علي أمرنا كنا لانهنأ ولاتغمض جفوننا إلا إذا طردنا الغزاة ، وطهرنا بلادنا منهم ، وإذا لم نستطع هذا أيضاً فقد كنا نتغلب عليهم بعد فترة وجيزة من الزمان بأن ندمجهم فينا، ونجعلهم يتسمون بسماتنا ، ويصبحون مصريين قلباً وقالباً، فمصر وإن كانت قد غيرت مظهرها الثقافي في اللغة والدين من عصر إلي عصر، قد استطاعت دون شك أن تحتفظ بطابعها المصري  الخاص في الحضارة والمدينة.
وإذا كان بعض الناس يقول بانقطاع الاتصال الروحي بيننا وبين أجدادنا علي أساس أننا تعلمنا غير ما تعلموا ،وفهمنا الحياة غير فهمهم لها، وخضعنا لنظام من الحكم غير الذي خضعوا له، وأننا نتكلم بلغة غير اللغة التي كانوا يتكلمون بها، وندين بدين غير الدين الذي كانوا يتعلقون بأهدابه.. وإذا كان وهذا كله فإنه لا يعدو أن يكون الظاهر من الحقيقة، وهذه الحقيقة التي نشعر بها جميعاً ويثبتها العلم ،هي أن الاتصال الروحي بين مصر القديمة ومصر الحديثة اتصال قوي.
يعدد الكتاب قائمة الاتهامات التي صاغها أعداء مصر لكي يبرروا غزوها والاستفادة من خيراتها، فعلي سبيل المثال يقول خصوم مصر: إن قصة الشعب المصري لا تزيد علي أن تكون قصة شعب تداولته أيدي الغزاة والفاتحين، فما رد عنه غازياً أو حاكماً دخيلاً، إلا استقبل غازياً جديداً وفاتحا ً يقتحم علية الدار، ويملك دونه أبوابها ونوافذها، ويستأثر بخيرها وبرها؟
هذه قائمة الاتهام التي صاغها ضدنا أجانب كرهوا أن نعرف حقيقة أنفسنا وحقيقة تاريخنا، فحالوا أولا بيننا وبينه، فلم نعد نقرؤه، فإن قرأناه مكتوباً بأيديهم، وأصبحت علي مر الأيام للتاريخ المصري نسختين: نسخة منصفة عادلة ، تعطي المصريين حقهم طوال التاريخ ومداه الفسيح ونسخة تمسخ ذلك التاريخ وتزيفه، وتردمه تحت أطلال وأثقال من الأكاذيب والمبالغات: أما النسخة الأولي فيكتبها العلماء الأجانب؛ ليقرأها عنهم مواطنوهم في المعاهد والمجامع؛ وتبقي النسخة الأخري وقفاً علي مدارسنا ومعاهدنا نحن ،وعلي الاحتجاج بها علينا إذا ناقشنا وجادلنا!
ولابد لنفهم التاريخ المصري علي حقيقته الناصعة المبرأة من الزيف أن نعرف الحقيقة الكبري في هذا التاريخ تلك هي أن في هذا التاريخ شخصية ثابتة تراها، والصور الخارجية لنوع الحكم ولونه، واسم الحاكم وجنسه، وللتقاليد والأزياء السائدة ،والتراتيل والأناشيد المسموعة في الهياكل أو الكنائس أو المعابد.
تلك الشخصية الثابتة الخالدة هي شخصية الشعب المصري ؛فأنت تقرأ ماكان يقوله المصريون لقمبيز مثلا منذ آلاف السنين ،وهو يتهيأ لاقتحام بلادهم ـ تراه أشبه ما يكون المصريون في سنة 1956 بعد الميلاد. وكأن إذاعتنا في النصف الآخر من القرن العشرين الميلادي كانت تردد ما قاله أجدادنا منذ قرون قبل أن يولد السيد المسيح؛ فالمصري بقي مسلكة العام، واتصاله بالطبيعة، وسعيه الحضاري وفهمه لحقائق الحياة ـ هو هو علي مر الحقب وكر الأزمنة. 
فلقد عاش المصري الأول بين صحروايين حموا حضارته من الغزاة، وصانتاه من الاختلاط الذي يخفي خصائصه، فلما ثبتت هذه الحضارة، وتأصلت خصائصها أصبح مستحيلاً علي أية حضارة أخري أن تغير في أصولها.
وقد بدأ المصري حياته منذ ألفها معتمداً علي نفسه هو، فلم يجد ما ينقل عنه ولا من ينقله عنه أو يحاكيه، وبذلك كانت أقدم صناعاته هي «صنع الحضارة نفسها وتوزيعها علي الناس» فهو يضع قواعد الفلك، وهو ينشئ السفن، وهو يبني الجسور وأصول الزراعة واقتصادها، ثم يبني الأساطيل، ويرسلها لتحمل عناصر جديدة لتنمية حضارته ودعمها وتأكيدها. فلما تحرك العلم الذي من حولة وابتدأ يناوشه، ثم يجاريه، وخرجت جيوش مصر من حدود مصر ـ كان كل جندي من أجناد هذة الجيوش رسول حضارة. وحامل رسالة، وطليعة ثقافة. كانت الحروب تنتهي سريعاً، وتبقي آثار مصر هناك، ثم تحمل آثار الأقاليم المفتوحة وفنونها، وأطرزة ثيابها، وألوان عطورها؛ لتضيف خطوطاً إلي الحضارة المصرية دون أن تغير أصل الصورة، فتمر سنون في أثر سنين، وقرون بعد قرون، والمصري دائب علي هذة الصناعة ،صناعة الحضارة حتي يعطي الجميع ، فتتلمذوا عليه ، وهو يزداد علي مر الأيام إيماناً بها، واتقاناً لها.
«سندباد مصري» أو الكاتب الكبير حسين فوزي كما كان يطلق عليه لة كتاب هام طبع مع هذه المجموعة الفريدة في التعريف بالشعب المصري وحضارته العريقة بعنوان: «سندباد مصري.. جولات في رحاب التارخ» والكتاب يشي بفحواه فهو تجوال لايمل ولايهدأ عبر العصور والأزمنة المصرية ليختار من بريقها شخصيات وحوادث كان لها أكبر الأثر في التاريخ المصري.
يبدأ الكاتب الكبير حسين فوزي بحديث رجلين عاشا منذ أربعة آلاف عام، يندبان عصر الإضرابات في الفترة المتوسطة الأولي، التي كانت تعرف بعصر الإقطاع. وهما مثلك أيها المصري، لاتنكس أعلامهما النكبات، بل يحدوهما الأمل الواسع العريض. لأنك يجب أن تعرف نفسك علي حقيقتها، أنت المصري البحبوح الطرير، السارح في بوادي الخيال، المغرم بأغاني الحب والصبابة. أنت أيضاً، مثل الكاتب الذي عاش منذ آلاف سنة، ومثل هذا الضعيف الذي ترك كتابه وديعة بين يديك: في طبعك سوداوية وحزن كظيم، تقول في عز أفراحك «اللهم اجعله خير» وكما لا تنسي البأساء في السراء، فإنك لا تفقد الأمل مهما عز الأمل، وتؤكد بأنها، في ليلة اليأس الليلاء: تفرج! اصغ إلي ما يقوله جد من جدودك الأولين ،المدعو إبووير:
«اسمع يا قلبي، واندب حظ البلاد التي  فيها نشأت... فقد خربت، ولاحياة لمن تنادي. أبك يا قلب وحدك ،فليس ثمة من يواسيك. انظر يا قلبي الشمس وقد غيبتها الغياهب، فلا هي مشرقة ولا هي غاربة، انظر إلي نيل مصر وقد غاض ماؤه، تخوضه بأقدامك إن شئت، اما إذا أردت أن تشق مياهه بسفينتك، فستجد مجراة شطآنا، وضفافه ماء جاريا.
« كل طيب ولي، والبلاد حليفة الشقاء، تئن تحت أقدام الغرباء، اقتحموا علينا ديارنا، وحل بنا ما لم يدر بخلد إنسان، وقد وقوع الفأس في الرأس.
«فالابن عدو لأبيه، والأخ يضرب أخاه ابن أمه، ويدير وجهة وهو يذبح. كل الطيب ولي والبلاد تموت، والأرض تنتزع من يد صاحبها، ويغتصبها الغرباء. تأمل العامل يبحث دون جدوي عن عمل، لأن أعداء البلاد أفقروا صناعتها، والحاصد لا يملك ما حصد، تأمل من لم يحرث الأرض، ويملأ بالغلال، تأمل صاحب الأرض تعسره الحاجة، وللغريب يملأ كرشه.
«انظر الماشية السائمة، لا راعي يرعاها، والسفن وقفت ولم تعد تخطف إلي شواطئ فينيقيا، وأضابير العدالة ألقي بها إلي قارعة الطريق يدوسها الرائح والغادي، ودارت عجلة الدنيا  كما يدور دولاب صانع الفخار. فاللصوص صعروا الخدود واستطالوا، والأشراف عضهم الفقر واستكانوا. ومن لم يكن يملك زوج ثيران، يحتكم اليوم علي قطيع منها. لم يبق من العدالة غير اسمها، وباسمها تقترف المظالم. سكن هرج الأفراح، وعلا صوت العويل والنواح، والصغير يقول قبل الكبير: ليتني كنت تراباً، ويكاد الطفل يندب مجيئه إلي هذا العالم.
«أليست هذة بلاد رب الشمس رع ؟ متي يهب لنجدتها الراعي الصالح، من لايعرف قلبة الموجدة، الذي إذا قلت مواشية، قضي يومه يجمع شملها، ويروي ظمأها، ويداوي عللها. ألا متي يجئ فيجتث الشر من أصله، ويسحق البذرة الفاسدة قبل أن تنبت؟ أين هو اليوم، هل راح في غيبوبة النوم؟
يورد الكاتب الكبير حسين فوزي هذه الرسالة شديدة الدلالة للظلم الذي يقع علي الإنسان المصري والتي عمرها أكثر من أربعة آلاف عام ولكنها تصلح أن تكون تقريرا مفصلا للإنسان المصري وما عاناه من ظلم في السنوات الثلاثين الماضية من تاريخه! بل من يقرأ هذه الشكوي دون أن يعرف أن صاحبها عاش منذ آلاف السنين لاعتقد خطأ أن من كتبها هو أحد المدونين الجدد والذين كانوا لهم أكبر الأثر في ثورة الخامس والعشرين

من يناير المجيدة . ولكن هل تركنا الكاتب الكبير حسين فوزي لكل هذا اليأس الذي انتاب المصري؟ بالطبع الإجابة بالنفي فبنفس القوة يورد رسالة أخري هي في الواقع رد علي الرسالة الأولي آتية من الجنوب لصاحبها آميني «أمينمحعت؟ «أبوه من الصعيد، أمة من النوبة. وسيضع علي رأسه التاج الأبيض، ثم يضع علي رأسة التاج الأحمر، ليوحد الإقليمين، وينشر السلام في ربوع الوجهين. وسيفرح به أهل زمانه، وسيخلد اسمه في العالمين.
«أما الذين دبروا الشر، ونشروا الفساد، فيسقط الأسيويون تحت ضربات حسامه، ويكتوي الليبيون بنار انتقامه، ويصيح الثائرون لحكمته، أو سطوته، ويطأطئون رؤوسهم لرأس الصل الذي يطل من جبهته.
«وعندما تطارد «معات» الظلم من سطح الأرض، سيعود الحق إلى نصابه، والعدالة سيرتها الأولي.
« فليفرح كل قلب كل من قدر له أن يشهد ذلك الزمان».
في تصوري أن كتاب العالم الجليل الجغرافي «جمال حمدان» شخصية مصر. .الوسيط: دراسة في عبقرية المكان «هو الختام المسك لمجموعة الكتب التي تؤرخ للشعب المصري ونضاله، ولكن قبل الحديث عن الكتاب لابد من التعريف بالكاتب الذي لا تقل أهميته عن مخطوطة ويجيء هذا التعريف بقلم أخيه الدكتور عبدالحميد صالح حمدان أستاذ العلوم السياسية جامعة باريس فيقول عنه: لقد كانت نكسة يونية 1967 بكل قسوتها وشدتها هي الشرارة التي أثارت لدي جمال حمدان مشاعر الألم والغضب التي اجتاحت كل المصريين ، ولكنها لم تسلمه أو توصله الي حالة اليأس أو القنوط، بل إنها دفعته الي الإسراع بإخر اج كتابه «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان» لتعريف المواطن العادي والمثقف العام بجوهر وطنه الأصيل وعظمة شخصيته ومعدنه القومي الصلب، ودوره الإنساني والحضاري. وقد صدر هذا الكتاب عن دار الهلال في يولية 1967، ضمن سلسلة «كتب الهلال» ولم يحاول جمال في هذا الكتاب أن يدافع عن مصر أو يمجدها، إنما جاء هذا الكتاب الصغير الحجم تشريحاً علمياً موضوعياَ يقرن المحاسن بالأضداد، ويشخص نقاط الضعف والقوة سواء بسواء فتلقفه المثقفون الذين كانت الهزيمة قد حطمت معنوياتهم، فأعدت إليهم بعض الثقة التي فقدوها بعد أن تعددت الرؤية وضاعت الآمال.
ولم يكتف جمال حمدان بهذا، بل عكف علي التوسع في دراسته وأبحاثه، بحيث لم تمض عدة سنوات الا وكان قد أعد طبعة جديدة صدرت عام 1970 في نحو نيف وخمسمائة صفحة من القطع الكبير، فجاءت جامعة مانعة، وشملت موضوعات ودراسات جديدة عالج فيها جميع جوانب الشخصية المصرية، سواء من الناحية الطبعية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، فكانت هذة الطبعة هي «زبدة» إذا صح التعبير ما سيخرجه بعد ذلك في موسوعته أو ملحمته الكبري التي صدرت في أربعة أجزاء، والتي صارت صرحاً فكرياً شامخاً وأثراً من تلك الآثار العلمية العظيمة التي ظهرت في عالم الفكر العربي في القرن العشرين. والكتاب الذي بين أيدينا القارىء المتخصص والعادي في آن واحد، لأنه يراعي ظروف عصر السرعة التي نعيشها والتي تتزاحم فيها ألوان الثقافة وتتباين بشكل كبير ، بحيث لم تترك للمرء فسحة من الوقت لكي يتابع الموسوعات العلمية الضخمة علي خطورتها وجلالة قدرها.
ومن ثم هذه الطبعة في نصها الأصلي الوسيط  هي الخلاصة التي جاءت وسطا بين الإيجاز والإطناب لكي تسد فراغاً كبيرا لأنها تقرب هذا العمل الفذ الي فهم الأجيال المعاصرة والجديدة.
والآن لنذهب الي متن مخطوط العالم الجليل جمال حمدان  فيقول شارحا الأسباب التي تجعل لمصر تفردها: ليس سهلاً ان نركز الشخصية الإقليمية في معادلة موجزة، ولاسيما إذا كانت غنية خصبة كشخصية مصر ، ولكن البعض كثيراً ما ردد ان مصر ارض المتناقضات  ربما تحت تأثير التباين الشديد بين الفروق الاجتماعية الصارخة من ناحية أو من ناحية أخري بين خلود الآثار القديمة وتفاهة المسكن القروي ، أو بين الوادي والصحراء حيث يتجاوران جنبا الي جنب ولكن كما تتجاور الحياة والموت. ولكن إذا لم تكن هذه كلها نظرة سطحية، فهي علي الأقل ضيقة، لا تعرض إلا لجانب واحد من مركب عريض. ولا تختلف محاولة التشخيص «بأرض الطغيان» عن ذلك كثيراً.
والذي نراه هو إننا إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد من حيث السمات والقسمات التي تجتمع فيها. وكثير من هذه السمات تشترك فيه مصر مع هذه البلاد أو تلك، ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل منها مخلوقاً فريداً فذاً حقيقة فهي بطريقة ما تكاد تنتمي الي كل مكان دون ان تكون هناك تماماً. فهي بالجغرافيا تقع في أفريقيا، ولكنها تمت أيضاً إلي اسيا بالتاريخ. وهي متوسطية دون مدارية بعروضها. ولكنها موسمية بمياهها وأصولها، وهي وإن كانت أصلا في مصدرها، فقد أصبحت موسمية دائمة أخيراً علي ما في التعبير من تناقض.
هي في الصحراء وليست منها، إنها واحة ضد ـ صحراوية ـ بل ليست بواحة إنما شبه واحة، هي فرعونية بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم أنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر ، وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء، وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم. وهي بموقعها علي خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط كما تمد يدا نحو الشمال وأخري نحو الجنوب ،وهي توشك بعد هذا كله أن تكون مركزا مشتركا لثلاث دوائر مختلفة بحيث صارت مجمعا لعوالم شتي ، فهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الإفريقي.
وإذا كان لهذا كله من مغزي، فهو ليس أنها تجمع بين الأضداد والمتناقضات، وإنما أنها تجمع بين أطراف متعددة غنية وجوانب كثيرة خصبة وثرية، بين أبعاد وآفاق واسعة ،بصورة تؤكد فيها «ملكة الحد الأوسط» وتجعلها «سيدة الحلول الوسطي» تجعلها أمة وسطا بكل معني الكلمة ،بكل معني الوسط الذهبي، ولكن ليس أمة نصفا! وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي، في الموارد والطاقة، في السياسة والحرب، في النظرة والتفكير وغير ذلك.
ولعل في هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها علي مر العصور، إن مصر تطبيق عملي لمعادلة الفيلسوف الألماني « هيجل: «التقرير» و«النقيض» في «تركيب» متزن أصيل. ونحن لهذا لانملك إلا أن نقول إننا كلما أمعنا تحليل شخصية مصر وتعمقناها استحال علينا أن نتحاشي هذا الانتهاء: وهي أنها «فلتة جغرافية» لا تتكر في أي ركن من أركان العالم ، فالمكان .. الجغرافيا - التاريخ - لا يعيد نفسه أو تعيد نفسها ، تلك عبقريتها الإقليمية.