رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

زوجة القاص محمد عبدالمنعم زهران.. سمية عبدالمنعم: الكتابة لعبته الجميلة

محمد عبدالمنعم زهران
محمد عبدالمنعم زهران

ينشر موقع الوفد الإلكتروني هذا الحوار الذي أجرته الكاتبة الصحفية نعمة عزالدين مع الكاتبة والقاصة سمية عبدالمنعم، زوجة القاص الراحل محمد عبدالمنعم زهران، والذي نشر على صفحات مجلة عالم الكتاب في عدد يوليو الماضي، والوفد تعيد نشره في الذكرى السنوية الأولى لوفاته والتي حلت أمس 29 مارس.

 

اقرأ أيضا.. في ذكراه.. بين إنسانيته وتفرد إبداعه.. زهران الذي يحيا هناك

 

*محمد وسمية.. سرديات حميمة

سأحكي لكم عن رجل عشق الورود والأطفال، أحب المهمشين، ونصب قلمه مدافعا أول عن قلة حيلتهم، سأحكي لكم عن رجل عاشق لكل ما هو بسيط، حتى الحلوى، عشق منها "العسلية"، حلوى الفقراء، ووجد بهجته في قطعة بطاطا ساخنة يبيعها شيخ متجول في ليلة شتاء ماطرة.

 

اقرأ أيضا.. الزميلة سمية عبدالمنعم تناقش الأجناس الأدبية في أمسية سردية غدًا


سأحكي لكم عن رجل طاول السماء في نبله ورحمته وحنانه، لم تكن الدنيا جل همه، ولا مبلغ حلمه، فاختار العالم الآخر مستقرا له بعد أن عجزت الدنيا عن احتواء سعة قلبه.


سأحكي لكم عن حبيبي وزوجي .. محمد عبد المنعم زهران.


هكذا ابتدرتني القاصة والشاعرة سمية عبدالمنعم، زوجة الكاتب الراحل محمد عبد المنعم زهران، فمن أين أبدأ حبيبتي سؤالي عن محمد الذي رحل سريعاً كطائر الفينيق الأسطوري بريشاته الحمراء كألسنة اللهب. عندما يشعر بالنهاية، يلوذ بعشه ويغرد لآخر مرة بصوت خفيض حزين، اعذريني ياسمية أن دعوتك للحديث عن حبيبك محمد اليوم، ولكنه يستحق ألف فضفضة وحديث.

 

 

تصمت سمية برهة، وفي عينيها تمرق سحابة من الدموع تريد مقاومتها فتبتسم سريعاً مرددة ما كان يقوله محمد عن قصتهما : " كان لقاء من الحلم". ثم تستطرد واصفة لقاءهما الأول وتطور علاقتهما: بالنسبة إليّ فإن الأمر كان عجيبا، ففي إحدى دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفي يوم عاصف مزدحم، حيث لا مكان لموطيء قدم، كنت أقف بين أمواج متلاطمة من الأجساد، أحاول الحفاظ على توازني بينهم، أنتظر الأصدقاء وأتطلع للقادم لأدله على مكان حفل توقيع ديواني في تلك الأجواء.


وبينما أنا على هذه الحال، إذا به يخرج من الزحام ككائن أسطوري يخترق الأنواء وسحب الدخان لتبدو ملامحه شيئا فشيئا، على بعد أمتار وقف مشدوها وكأنه لا يصدق رؤيتي، يحدق إليّ بذهول، لينتقل إليّ ذهوله، فأشعر بأنني أعرف ذلك الوجه جيدا، ليس مجرد تذكر لملامح حفظتها عيني، بل يقين بأنني عشت في حقبة سابقة مع هذا الرجل، وكأنني أمام قطعة مني تاهت عني لأعوام والآن عادت إلى موطنها.


وفي ارتباك أصابني قبل أن يصيبه، تقدم مني بضع خطوات وقدم إليّ نفسه، ذكرني بأننا أصدقاء على الفيسبوك، هززت رأسي دون رد، وابتسمت، ليسرع هو الخطى مشيرا بيده في تعثر إلى اللاشيء، أستدير للتأكد أنني لم أكن أحلم، وأن ذلك الذي كان يقف بين يدي هو إنسان حقا وليس طيفا، فإذا به يستدير في اللحظة ذاتها وينظر إلي، ربما راودته الفكرة نفسها.


كان هذا اليوم هو أيضا حفل توقيع إحدى مجموعاته.


ومنذ ذلك الحين بدأت ألتفت لصفحة كاتب مختلف، وإنسان مبهج، لنخوض العلاقة معا كصديقين يفر كل منهما للآخر من قسوة واقع معاش، حتى حانت لحظة الكشف، ليبثني مشاعره الحقة، وأعترف بدوري بمكنون قلبي، فنرتبط رسميا ثم نتزوج بعد شهرين فحسب من إعلان الخطبة.

 

 

تنفي بشدة القاصة والشاعرة سمية عبد المنعم أن يكون هناك تنافس إبداعي دار بينها وبين المبدع الراحل محمد زهران في وقت من الأوقات، بل على العكس تماماً، مفسرة الأمر على هذا النحو، قائلة:

 

عندما تعيشين بين يدي إنسان ملائكي يكون الصراع التنافسي التقليدي المنتظر بين مبدعين جمعهما الزواج هو أبعد ما يمكن توقعه، فعلى العكس من الجميع، كنت ومحمد أكثر قربا والتصاقا في لحظات الإبداع، وكلانا الأحرص على أن يخرج إبداع الآخر في أبهى صوره، ربما ساعد في ذلك صداقة عميقة اتفقنا على ألا تغادر حياتنا الزوجية مهما حدث، هكذا كان المنطلق، عندما تمتزج الصداقة بالحب يكون الناتج ارتباطا أبديا لا يخضع لمقدرات وحسابات البشر.


تتذكر سمية جيدا أن روايته الأخيرة قد كتبت على عينها، كما تتذكر لحظات ميلاد قصصها، تلك التي شاركها مخاضها.


وتلك النصائح التي أسداها لها لتغير من عاداتها التي تصاحب لحظات الإبداع، ليدربها محمد على الكتابة وسط الزحام والضوضاء، ذلك الأمر كان مستحيلا وخزعبليا بالنسبة إليها، مؤكدة: لقد استطاع أن يدخلني معه في عالمه العجائبي، لتكون النتيجة قصة من أبدع ما كتبت، وعادة تبدلت، لأدرك كيف أنفصل بذهني عما يحيط بي من أجواء لأدخل إلى عالمي حاملة قلمي فحسب.

 

 

تصف القاصة والشاعرة سمية عبد المنعم بعفوية طقوس الكتابة التي كان يمارسها رفيقها القاص محمد زهران قائلة: "فنجان قهوته السادة وكوب من الماء وسيجارة، ومكان مرتب يخلو من الفوضى، كانت هي كل أسلحته لمجابهة معركة المخاض الإبداعي، أبتسم له في هدوء وأجلس لأرقبه دون أن يشعر، فإذا به يبحث عني ضاحكا، ويشير إليّ لأظل بقربه، فأكون شاهدا على أجمل لحظات يحياها مبدع في حجمه".  

 

ولفتت إلى لحظة بزوغ الفكرة عنده، والتي تقترن بشرود يطول، ونظرة خاوية إلى المجهول، أيا كان المكان، قد يكون جالسا في المنزل يتحدث إليّ، فيهاجمه شرود مفاجيء، أدرك حينئذ أنها لحظة التجلي، وقد يكون سائرا في الطريق، أو مع آخرين، فتأخذه اللحظة بكليته، لا يكاد معها يسمع أصوات العالم حوله، وعند إدراكي لذلك كنت ألتزم الصمت حتى تنتهي اللحظة، فينظر إليّ باسما، وكأن بهجة من نوع خاص تشبعت بها روحه، لأفهم أن الفكرة قد اكتمل نضوجها داخله.


وقد تبدأ الفكرة لديه بجملة واحدة، يخطها قلمه، ويترك له العنان دون القبض على جوهر الفكرة، هكذا يأخذه الحدث حتى تنبلج الفكرة فجأة فيسرع بإحاطتها واستكمال الكتابة.

 

ولأنه يدرك أن لي طقوسا مغايرة عند الكتابة، أولها أن أجلس وحيدة، لا أشعر بترقب أو انتظار من أحد، فكان يوهمني بأنه منشغل بدوره في الكتابة، لأدرك بعد انتهائي أنه كان بجل تركيزه معي، وأنه كان يهييء لي أجواء ملائمة للكتابة.


لأرى في عينيه فرحة بإبداعي ربما تجاوزت فرحته هو نفسه بإبداعه، لأوقن أنني أمام مبدع حق، وإنسان لا مثيل لإنسانيته.

 

 

تتذكر القاصة سمية عبد المنعم: إنه على الرغم من إيمان زوجها المبدع الراحل محمد زهران بأن اللغة وسيلة وأداة مهمة من أدوات الإبداع، وليست غاية يحاول النص الوصول إليها فحسب، ورغم ملاحظاته التي لا أنساها عن ضرورة التخفيف من عمق لغتي السردية، واستخدام أبسطها، رغم كل ذلك، إلا أنه كان شديد الحرص على ألا يشوب نصه أي أخطاء لغوية، ولأنني في الأساس لغوية، فكان كثيرا ما يسألني عن بعض القواعد النحوية، وعن أسباب ضبط بعض الجمل، فالكمال في الإبداع كان غايته.

 

واشارت إلى أن مجموعاته القصصية الأربع مثلت نموذجا لتطور اهتمامه باللغة وتحوله إلى الاهتمام بالحدث، أو بكليهما، ففي مجموعة "حيرة الكائن"، يتجاور الحدث المختلف إلى جوار اللغة البديعة. بينما يطل الحدث كبطل أوحد في مجموعة "بجوارك بينما تمطر"،  وفي مجموعتيه الأخيرتين "سبع عربات مسافرة"، "هندسة العالم"، جمع بين اللغة والحدث.


ترى القاصة والشاعرة سمية عبد المنعم أن فضاء محمد زهران الإبداعي يحتفي بالإنسان، ويراه دائما الكائن الأهم والمستحق لكل جميل، فهو القائل " أحب الإنسان فقط، وكل ما يأتي بعده ليس مهما"، فانتصر قلمه للمعذبين والمهمشين، واتسم إبداعه بكل ما هو إنساني، وجاء هذا الإبداع الإنساني محملا بالخيال والغرائبية، فقد كان لديه قدرة غريبة على مزج الخيال بالواقع، لنخرج بتوليفة مختلفة، فلا هي ذلك الواقعي المغرق في واقعيته، ولا هي ذلك الخيال المحلق بعيدا،  تستوي تلك الصفة في مجموعاته الأربع جميعا، وتبرز بوضوح في مثل قصصه " حيرة الكائن، أريد أن أكون نجمة، المترجم، فردوس، المرأة فى السحابة" وغيرها.


ترجع سمية عبد المنعم هذا الخيال ربما لبدايات محمد في الكتابة، وأولى تجاربه فيها، حيث كان يميل لكتابة القصص الغرائبية والخيالية، فظل هناك طيف من تلك الكتابات_ حتى بعد هجرها_  يلتحم بشدة بكتاباته الإنسانية، حيث كان لتيار الواقعية السحرية تأثير كبير في كتاباته، إلا أن تلك العجائبية والميتافيزيقية قد خلت من المظهرية والسطحية، واقترنت بالعمق في بناء يتسم بالتماسك.


وربما أراد أن يخفف من وطأة واقع مرير يغلف شخوصه، فكان الخيال طريقه الأمثل لذلك.

 

منوهة إلى أن إبداع محمد يجعل من الحدث " الحكاية" البطل الأهم ومحور الفكرة، والحدث أيضًا، هو الذي يطوع الزمان والمكان، فهناك أحداث لديه تتجاوز مفاهيم المكان والزمان التقليديين، وتخلق فضاءات تلائمها، وأزمنة متسقة معها، نرى أن أحداثا تخلق في بعض قصصه فضاءات غير محددة الزمان والمكان، أو وفق ما يقتضيه السرد فقط.

 

 

تأخذ نفساَ عميقاً كمن جاءت بعد سفر طويل، محاولة أن تشحذ طاقتها مرة أخرى لتتحدث عن الذي رحل سريعاً ولكنه باقٍ بإبداعه وروحه، قائلة: محمد شخص محلق بروحه وعقله أبعد من تلك الحياة التي نحياها، يدرك أن هناك على المدى حياة أهم وأبقى، فكان الموت هاجسا يراود كتاباته، سواء كان وسيلة بعض أبطاله للخلاص من ظلم أو قسوة ما، أو تطلع لسعادة وراء الدنيا، هناك، حيث لا ظلم ولا قسوة.


هكذا هو، مضيفة بصوت هامس وكأنها تحدث نفسها : محمد إنسان تسمو روحه لما هو أبعد من تلك الحياة الضحلة التي نحياها، تسمو

للحقيقة الأبدية، الحياة الأخرى، وكأنه كان يتمناها ويتنبأ بالسفر إليها قريبا.


نعم، كان متنبئا، وكنت أطلق عليه كثيرا وصف "نبي"، ليس فقط من كتاباته، بل ومواقفه، أذكر أقربها، قبل معرفته بمرضه ربما بشهر، ابتسم لي فجأة، وعلى غير توقع قال "أريدك أن تكوني رفيقتي وزوجتي في الجنة، سأنتظرك هناك"، في تنبؤ مذهل لما حدث بعدها من مرضه ورحيله المؤلم.

 

دائما ما كنت أقول له "إنك تحمل بعض صفات الرسول"، ليصاب بانزعاج ودهشة، فأؤكد له أن رحمته وحنانه واحتواءه، وحبه الجارف لي، بل وعلاقتنا وشدة ارتباطنا، كل ذلك يشبه تلك العلاقة الرحيمة والحب الذي كنّه الرسول للسيدة عائشة. نعم، إنسان في مثل رقة وإنسانية محمد، كان نبيا ضل طريقه إلى زمننا، فكان من البديهي أن يرحل إلى عالمه الحق ويغادرنا.

 

 

للشهرة والأضواء بريق يبحث عنه ويطارده كل مبدع عدا محمد زهران .. تقولها سمية بثقة، مسترسلة: إن حب الظهور وتسجيل المواقف طوال الوقت لمجرد التواجد على الساحة ولفت الأنظار أبعد ما شغله، بل على العكس تماما، كان يهرب من الظهور الإعلامي، اللهم إلا بعض الحوارات الصحفية والتصريحات عقب فوزه بجائزة ما، وأذكر أنني طلبت منه كثيرا بعد زواجنا أن أجري معه حوارا صحفيا، إلا أنه كان يرفض بشدة، قائلا :" أنت زوجتي، وسوف يظن الناس أنك تجاملينني"، في ترفع وسمو عجيبين، بل أذكر أن بعض أصدقائه الذين  يعملون بالميديا، كثيرا ما عرضوا استضافته كأديب ذي ثقل، حتى بعد فوزه بأكثر من جائزة، لكنه كان يرفض بشدة.

مؤكدة أنه كان يؤمن بضرورة تفرغ المبدع لإبداعه، وألا تشغله الأضواء، بل إن له مقولة شهيرة تؤكد أن الكاتب لا يجب أن يشغله حتى النشر أثناء الكتابة، فهو القائل " أكتب كما لو كنت ألعب، كلما كان الوقت للاستمتاع فقط، ليس بغرض النشر ولا استجداء إعجاب القاريء، يكون أصيلا جميلا رائعا، أحبه وأحب أن أعاود قراءته كل وقت".

 

تتذكر سمية أنها شاهدت له لقاء تليفزيونيا وحيدا أجري معه على هامش مؤتمر أدباء الصعيد، وقد تحدث عن إبداعه سريعا، وظل طوال اللقاء يذكر أصدقاءه مسهبا في الحديث عن إبداعهم، في نبل يندر وجوده.

 


تسجل هنا القاصة والشاعرة سمية عبد المنعم شهادتها في إنتاج زوجها وحبيبها محمد زهران القصصي، التي قد يعتبرها البعض مجروحة نظراً لشدة احتفائها بأعماله ، إلا أنها تجد أن حديثها سيكون من زاوية موضوعية محايدة، باعتبارها قاصة وشاعرة وتكتب النقد أحيانا، قائلة: إن علينا أولا تذكر أن كثيرا من النقاد الذين كتبوا عن أدبه، رأوه  كاتبا مختلفا وقاصا من طراز فريد، ربما لم يكن الوحيد الذي خاض في الانسانيات، فقد فعلها ويفعلها غيره، لكنه كان الوحيد الذي تميز في مزج الإنساني بالمتخيل، ليخرج علينا بخلطة سردية سحرية، حيث قدرته على توظيف ذلك المتخيل لصالح الذات الإنسانية أيضا.


وهو ما يبدو جليا في أدبه عامة، حيث تغلب عليه مشاعر التضحية والبحث الدؤوب عن دواء الروح، والذي قد يجده تارة في حضن، مجرد حضن صادق، وأخرى في رفيق لا يمل انتظاره، أو ربما في محاولة النبش عن الذات الضائعة في إنكار وتنمر المحيطين، أو الركض خلف حلم حائر في أحلام الآخر.


كل ذلك غلفته أهم صفة يمكن أن يتمتع بها الإبداع، وهي الصدق، الذي يشعرك بنوع من الشجن دون أن يصيبك الحزن، وهو نفسه الفيصل بين كاتب ينبع إبداعه من مشاعره ومكنوناتها، وبين آخر يفتقد لتلك الصفة.

 


وترى سمية عبد المنعم أن زهران استطاع أن يمارس الكتابة مثلما كان يصفها دوما "الكتابة لعبة جميلة"، نعم _تقول: كان يكتب كأنه يلهو أو يلعب، يتنقل بين الضمائر والأساليب السردية المبتكرة في خفة فراشة،  لا أظن غيره يملك أدواته، فقد كان دائما في حالة بحث عن الجديد من الأفكار، يضع متعة القاريء نصب عينيه. ودون مبالغة أكاد أجزم أن محمد عبد المنعم زهران لهو من أهم من كتب القصة القصيرة حديثا في الوطن العربي.


فمحمد، ذلك العاشق لفن القصة القصيرة، رغم أنه كتب في ألوان إبداعية مغايرة، فله ثلاث مسرحيات، واثنتا عشرة قصة للأطفال، وديوان في قصيدة النثر، ورواية، إلا أن إخلاصه للقصة القصيرة كان ينبع من إيمانه بأهميتها وتفردها، ورغم ما اعتراها في سوق النشر من تراجع لصالح الرواية، واحتفاء الجوائز الكبرى بالأخيرة، إلا أن محمد عبد المنعم زهران، كان يرى أن ذلك مجرد موجة ستمر، ساعد فيها ظروف اقتصادية ومتغيرات في الذائقة الاجتماعية، لكن القصة القصيرة ستحتل مستقبلا المكانة الأولى، والأهم، ورغم محاولته كتابة الرواية وكتابتها بالفعل، إلا أنه كان يؤمن بأنها مرحلة تجريبية سرعان ما يعود بعدها للقصة، حيث كان يعد مجموعة قصصية جديدة قبيل مرضه مباشرة، إلا أن القدر لم يمهله ليكتبها.

 


ولي أن أذكر هنا أن مبدعا يحمل من الموهبة أعظمها، وقد  تأثر بمبدعي القصة والرواية المصريين مثل يحيي حقي ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس ويحيي الطاهر عبدالله، كما تأثر بالأديب الروسي تشيخوف، وبكتاب اوروبا وأمريكا اللاتينية، ويبرز جليا تأثره بالشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، ما اتضح في تمتع زهران بلغة سردية شاعرية، وهو ما أهّله لكتابة الشعر فيما بعد، وأصدر في معرض الكتاب الفائت ديوانه " دون ضجيج"، لهو بالفعل مبدع مغاير ومختلف.


وفي مفارقة غريبة، فإن تشيخوف وبيسوا، من ولع محمد بأدبهما، قد توفيا في عمر الأربعينيات، تماما مثل محمد، الذي فارقنا جسدا في سن التاسعة والأربعين.

 

 

ألملم أوراقي وأسئلتي الكثيرة والفضولية، ولكنها تستبقيني رافضة أن يكون حديثها آخر ما يقال عن محمد، بل لابد أن تكون النهاية من أحاديث محمد نفسه في لحظات التجلى والتأمل كما كانت البداية، قائلة: أظن أن مبدعا كان يأخذ على عاتقه تقديم الأجمل والأدهش، لهو مبدع مغاير ومختلف، فهو القائل:


"في يقيني أن الأجمل لم يُكتب بعد، ومن ثم أضع نفسي دائمًا في مجال يسمح لي باحتمالية كتابته. أود أن أقدم الدهشة والإمتاع، دهشة الحياة ووقائعها الحلوة والمرة، التعاسة والسعادة، الشعور الغامض بالوجود، وعلاقات الأشياء، الإنسان نفسه منبع دهشة أخرى، في الأخير دهشة أن ترى كل شيء على نحو مغاير لما اعتدت أن تراه به".