رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

جولينيشيف الروسى.. عاشق الهيروغليفية ومقهى جروبى وليل طيبة

جولينيشيف الروسى
جولينيشيف الروسى

فى التاسع من شهر أغسطس عام 1947 استغرق فى نومه بهدوء إلى الأبد على مقعده، مائلاً على ورقة من وثيقة مكتوبة برموز هيروغليفية كتبها بخطه الواضح الدقيق.

هكذا انتهت سلسلته الطويلة من التفكير المتواصل بدأت عام 1870، عندما كان عمر فلاديمير سيميونوفتيش جولينيشيف فقط 15 عاماً، ودامت 77 عاماً آخر سنة فى حياته, كان هكذا كما كان فى أول سنة فى العمل، كان متعلقاً بجميع الذين لهم علاقة بمصر القديمة بحب بكل معنى الكلمة.
 

هذه نص الكلمة التى كتبها أحد تلاميذ جولينيشيف الأوفياء ويدعى فيكنيتف بعد ثلاث سنوات من وفاته عام 1947.
 

ولكن من هو جولينيشيف ولماذا أقيم تمثال نصفى له فى المتحف المصرى، ونظمت المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم عام 2016 بالتعاون مع كلية الآثار جامعة القاهرة احتفالية كبرى على مدار يومين بمناسبة مرور مائة وستين عاماً على ميلاده شارك فيها هيئات عديدة فى كل من مصر وروسيا مثل: دار نشر أنباء روسيا، ووزارة الآثار المصرية ووزارة الثقافة، والمتحف المصرى، والسفارة الروسية ومتحف بوشكين الوطنى للفنون الجميلة، ومتحف الأرميتاج، ومعهد الاستشراق بأكاديمية العلوم الروسية، وجرت وقائع الاحتفالية بكلية الآثار جامعة القاهرة والمتحف المصرى.
جولينيشيف الروسى.. عاشق الهيروغليفية ومقهى جروبى وليل طيبة

العاشق الروسى
تجاوز عمره التسعين جمع خلالها ستة آلاف قطعة أثرية أشهرها بورتريهات الفيوم

ربما البداية الصحيحة لإعادة اكتشاف أحد أشهر عشاق ودراويش مصر المحروسة فى بدايات القرن الماضى وحتى منتصفه هو قراءة كتاب الدكتور حسين الشافعى رئيس المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم وأول من أصدر مؤلفاً عن هذا العاشق الروسى باللغة العربية عام 2016 عن دار نشر أنباء روسيا بعنوان «جولينيشيف.. رائد علم المصريات».
 

يقدم الدكتور حسين الشافعى بانبهار وتقدير حقيقى لرحلة جولينيشيف المديدة فى اكتشاف ومعرفة الحضارة المصرية القديمة قائلاً: إن جولينيشيف قد أفنى حياته المديدة والتى قاربت التسعين عاماً وممتلكاته على الآثار المصرية، حباً، ورحلات، وفك رموز، وإنفاق مال، واقتناء ودراسة، حتى بلغت به الفاقة مبلغها فكان فى حياته وبعد مماته نموذجاً لعالم قضى عمره فيما آمن به من عظمة وتفرد الحضارة المصرية وآثارها.
 

وأضاف الشافعى: بدأ ولع جولينيشيف بالحضارة المصرية مبكراً، ربما فى منتصف العقد الثانى من حياته، إذ بدأت أفكاره تنجذب نحو كل ما له صلة بمصر القديمة، وبدأ فى اقتناء الآثار المصرية، وقد كان من أسرة ثرية تمتلك نصيباً كبيراً فى شركة لاستخراج الذهب فى أواسط الأورال، وكانت تدر عليه دخلاً كبيراً حتى إفلاسها عام 1909 م.
 

وبدأ جولينيشيف فى دراسة تاريخ الحضارة المصرية القديمة وإذا به - ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد - ينشر ثلاثة مقالات بالألمانية التى أجادها مع عدة لغات أخرى، فى مطبوعة كانت تصدر عن كارل ريتشاردليبسيوس (1810- 1884)، والذى نشر ترجمة نادرة لكتاب الموتى، لفتت هذه المقالات انتباه الكثيرين لباحث مهم ونابغة.
 

يأخذك الدكتور حسين الشافعى فى كتابه ذى المائتي صفحة إلى عالم جولينيشيف بامتياز، فهناك مقالات جولينيشيف عن رحلاته فى صعيد مصر ووادى الحمامات ووادى فيران والفيوم والبحر الأحمر والأقصر والواحات، فقد جاب الرجل أرض مصر شرقاً وغرباً ليكتشف لنا برديات رحلة آمون إلى جبيل ونبوءة نفرتيتى وقصة ضحية تحطم السفينة وبورتريهات الفيوم الاكتشاف الأعظم لجولينيشيف والذى يقبع حالياً فى متحف بوشكين الوطنى للفنون الجميلة.
 

وبورتريهات الفيوم هى نماذج لرسم الصور القديمة على الألواح الخشبية باستخدام الحوامل، وترجع تلك البورتريهات إلى القرن الأول إلى الرابع الميلادى، وتكشف الامتزاج العضوى للثقافة المصرية القديمة مع ضرورة الاحتفاظ بعد الموت بهيأة القرينة «كا» وكذلك الامتزاج العضوى للثقافة الرومانية القديمة واهتمامها بالنموذج الخاص بالشخصية.

وأيضاً من أجمل وأندر ما اقتناه جولينيشيف وسعى نحوه كان ملعقة مستحضرات تجميل على شكل فتاة عائمة وهى تعود للأسرة الثامنة عشرة زمن أمنحتب الثالث وهى مصنوعة من عاج الأبنوس وطولها لا يتجاوز 19٫4 سم وقد اشتراها من مدينة الأقصر وهى فريدة فى نوعها وتعد إحدى أيقونات الفن المصرى القديم، كذلك من مقتنيات جولينيشيف الثمينة أكفان تحمل مشاهد من مسرحية أوزوريس الدينية فى مدينة دندرة.
جولينيشيف الروسى.. عاشق الهيروغليفية ومقهى جروبى وليل طيبة

سر الصندوق الخشبى وملعقة الفتاة العائمة وأكفان أوزوريس

من أشهر تلاميذه سليم حسن صاحب موسوعة مصر القديمة

مقهى جروبى

وأما ما كتبه تلاميذ جولينيشيف عنه فى كتاب الدكتور حسين الشافعى، يجعلك تستطيع أن تتخيل الطقوس اليومية لهذا العاشق الروسى لمصر المحروسة مع زوجته الفرنسية ماتتين فى ليل طيبة أو أجواء القاهرة، وهو يجلس على مقعد وثير فى مقهى جروبى يتحلق حوله مريدوه وتلاميذه من أثرىين أجانب ومصريين من بينهم عالم المصريات الشهير سليم حسن، صاحب موسوعة مصر القديمة، فيقول

أحد تلاميذه النجباء وهو عالم الآثار الفرنسى جارنو الذى أوصى جولينيشيف بكل محفوظاته له، ليقدمها جارنو بدوره إلى مركز توثيق علوم الآثار المصرية فى المعهد العلمى للدراسات العليا والذى صار اسمه فيما بعد معهد جولينيشيف: فى عام 1935 كان جولينيشيف أحد أشهر الشخصيات وأكثرها احتراماً فى المجتمع المصرى على الرغم من أنه استقر فى مدينة نيس بفرنسا، وكان حينما يأتى للعاصمة المصرية يكون مقر إقامته هو وزوجته فندق سيسل هاوس والذى يعرفه علماء المصريات جيداً، حيث يقيم هناك أصدقاء جولينيشيف المقربون، وعادة ما كانوا يتقابلون فى المتحف المصرى، إلا أن المكان المحبب إليه هو مقهى جروبى الذى يقع فى ميدان سليمان باشا، حيث كان من الممكن أن تراه هنا كل مساء فى الساعة الخامسة فى محيط مجموعة كبيرة من الأشخاص، فقد كان وزوجته يحبان استقبال الضيوف، ولم يكن هناك شخص من الطبقات المثقفة فى المجتمع المصرى إلا وكان يرغب فى التعرف عليهما.

 

سر الصندوق الخشبى

أما فى مدينة الأقصر فكان يقيم جولينيشيف فى فندق الأقصر، حيث يجلس فى ردهة الفندق الفسيحة بصحبة هوارد كارتر مكتشف أعظم وأجمل مقبرة عرفتها الإنسانية حتى الآن، وهى مقبرة الفرعون الذهبى توت عنخ آمون، إلا أن علماء المصريات المتخصصين اهتموا بشكل خاص بصندوق كبير لجولينيشيف كان دائماً موجوداً بجواره فى غرفته ولا يتركه بعيداً عنه!
 

لقد احتفظ جولينيشيف فى هذا الصندوق بمجموعة لا تحصى من البطاقات التذكارية والصور ومخطوطات العالم الموضوعة على حقائب من فرو الجلد، وأكثر ما يثير الإعجاب ضمن المقتنيات الثمينة جداً، تلك الصفحات المكتوبة بالخط الواضح والمتناسق والتى استطاعت أن تجعلنا نتباهى بالكتاب المصريين القدماء وعن هذه الأوراق كان جولينيشيف مستعداً دائماً لضرب أمثلة من النصوص المخصصة للتوضيح بالصور، وأظن أن التاريخ لن ينسى عمله العظيم فى علم النحو المصرى.

 

نهاية الرحلة

توفى العاشق الروسى العجوز جولينيشيف فى مدينة نيس الفرنسية، ودفن فى مقابر الروس المهاجرين، بعيداً عن أرض مصر المحروسة، وقد قاربت سنوات عمره على المائة قضاها فى محراب اللغة المصرية القديمة واكتشاف أسرارها ونحوها، فترك مئات الدراسات والأبحاث والترجمات عن عظمة تلك الحضارة ولغتها، حيث عمل أمين متحف فى المتحف المصرى، وافتتح قسم الآثار المصرية فى جامعة القاهرة عام 1924 وظل يعمل فيه حتى عام 1929، كما ساهم فى تأسيس جمعية الآثار القبطية التى ترأسها وأعطى العديد من الدروس فى المعهد الفرنسى للآثار الشرقية الشهير فى حى المنيرة بالقاهرة، إلى جانب مجموعة ضخمة من الصور أثناء فترة إقامته فيها، وهى موجودة حالياً فى موسكو ضمن 20 مجلداً.
 

وأخيراً هو صاحب الفضل فى إنشاء مجموعة التحف المصرية القديمة فى متحف الأرميتاج ومتحف بوشكين الوطنى للفنون الجميلة والتى تقدر بنحو ستة آلاف قطعة من مقتنياته، وتنوعت ما بين البرديات والتماثيل والمنسوجات القبطية والتى صارت تخص الدولة الروسية بموجب قانون الآثار فى عشرينيات القرن الماضى والذى ينص على إجراء القسمة على الآثار الفرعونية المكتشفة بين البعثات الأجنبية والحكومة المصرية.