رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

فى ذكرى ميلاده| محمد عبدالوهاب الذى غنى لنا.. والذى غنى علينا

الفنان محمد عبدالوهاب
الفنان محمد عبدالوهاب

[القاهرة ـ 1913]

 فى منتصف هذا العام ارتفع سعر تذكرة الترام إلى أربعة مليمات للدرجة الثانية، وستة للدرجة الأولى. وبعد أسابيع من ذلك الارتفاع المفاجئ من الحكومة أعلن عمال الترام  الإضراب العام، الذى لم يكن ـ بالطبع ـ من أجل المواطن الذى تٌجهده، وتطحنهُ، الحكومة بتلك الزيادات الكثيرة، والمفاجئة.

 

ولكن الإضراب جاء مُطالبًا بتحديد مواعيد العمل الرسمية بـ 8 ساعات فى اليوم، بدلًا من 13 ساعة! وفى ظل هذه الأجواء المتوترة، والساخنة تم الإعلان عن خطة الضابط الكندى (آدمز) لإنشاء حى المعادى.

 

وافتتاح حى مصر الجديدة الشهير شرق العاصمة. وأعلن تشكيل الوزارة التى جاء فيها سعد باشا زغلول وزيرًا للمعارف (التربية والتعليم الآن). وواصل سعر فدان الأرض ارتفاعه غير المسبوق فى ضواحي القاهرة حتى وصل إلى جنيه مصرى.

 

وأعلن من خلال نشره رسمية لبوليس العاصمة عن العثور على 13 طفلًا لقيطًا فى الشوارع الخلفية، المظلمة فى ذلك العام فقط.

 

ووصل توزيع كتاب عنوانه" الرسالة العلمية فى التراموية الكهربائية" إلى أرقام قياسية. وأصبح فى حكم المؤكد للعامة من الناس  قدرتهم على ركوب الترام لينقلهم من "باب الحديد"- محطة رمسيس - إلى روض الفرج بكل سهولة ويسر دون خوف من ركوبه.

 

وفى القاهرة أيضًا تم تعميم مشروع الشرب من مياه الآبار، مما جعل الحكومة تفكر جديًا ـ للمرة الأولى ـ فى إقامة شبكة المجارى ومدها إلى كافة الأحياء. أما ليل القاهرة المظلم، المخملى، الهادئ، فى تلك الأيام فهو لم يكن مشغولًا بكل تلك الأخبار، والأحداث، والتوترات، والتطورات، إذ كان الصييت ـ

 

لقب المطرب فى ذلك الزمان ـ  واسمه يوسف المنيلاوىـ وفى رواية أخرى كان الصييت عبدالحى حلمي ـ يتغنى بأغنية تافهة، وخليعة، ومبتذلة، وقليلة الحياء، بمواصفات ذلك العصر تقول كلماتها:" يا منعنشة يا بتاع اللوز/ أنا بدى ألاعبك فرد وجوز" غير أنه فيما يبدو بياع اللوز فى ذلك العام ـ وبعد ذلك ـ وقبل ذلك ـ  بأعوام ـ لم يكن يدرك أن الحرب ( الحرب العالمية الأولى ) ستطيح لعدة شهور بليالى الأنس، والنعنشة، والضحك، والدردشة، والسهر  والفرفشة، والرقص، والموسيقى، والطرب، عندما انطلقت مدافعها، ومطامعها، وبوارجها، وطائراتها،  يوم  الأحد 28 يوليو 1914. لتهز أركان المعمورة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها وهذا معناه أنه لا وقت للنعنشة ولا للدردشة ولا للجوز ولا للفرد!

                    * 
[أسيوط ـ 1902]
 وقبل الحرب بعدة أعوام عاد إلى قلب الصعيد من الأراضى الحجازية عمدة قرية صغيرة  تسمى (موشا) حاملًا معه فيروس الكوليرا اللعين بعد آدائه لفريضة حج هذا العام، لينتشر من خلاله الوباء وينتقل من القرية إلى النجع ومن النجع إلى المدينة ومن مديرية أسيوط ـ قبل أن يتغير الاسم إلى محافظة فيما بعد ـ إلى باق مدريات القطر كله حتى وصل للقاهرة العاصمة. وفى العاصمة مازالت صييتة ـ أى مطربة ـ اسمه الست توحيدة المصرية غير عابئة لا بالحرب، ولا بالحجز فى أراضى المعادي، ولا بوصول سعد باشا لوزارة المعارف، ولا بالضرائب التى تفرضها الحكومة، ولكنها مشغولة أكثر وأكثر بطقطوقة غنائية خفيفة كانت تغنيها ـ وكانت تُعد أغنية الموسم ـ تقول كلماتها:" أنا أقابله وأقعد وياه.. وأسكر وأغنى شوية معاه"!
                      *
[حى باب الشعرية ـ 1903 ]


 أما في حي باب الشعرية بوسط العاصمة فكانت هناك أسرة لشيخ معمم اسمه الشيخ عبد الوهاب عيسى كانت تجلس فى قلق، وتوتر، وازعاج، مستمر جراء ممارسات طفلها الصغير محمد الذى ولد قبل سنوات الوباء، وقبل شهور من اتفاقية أديس أبابا التى وقُعت فى 15 مايو عام 1902 التى تلزم إمبراطور إثيوبيا( منليك الثانى) بعدم بناء أى أعمال - سدود - على منابع النيل. الطفل محمد ولد عام 1901 - ويقال 1902 - يوم 13 مارس من ذلك العام- اليوم ذكرى مولده - وبعدما كبر  لاحظت أسرته هوسه بالاناشيد، والتواشيح، وحلقات الذكر، والطرب، والموسيقى حتى أنه عاد هذه الليلة مصابا بجرح قطعى فى رأسه، لأنه تعليق بعربة حنطور كان يركبها (صالح عبد الحى) وهو يجرى خلفه راغبًا فى الوصول إليه، والسلام عليه من شدة إعجابه بصوته. الآن الحنطور يسير ببطء.. يسير بسرعة.. الأطفال يجرون ويهتفون: "الشيخ صالح.. الشيخ صالح .. صالح..صالح..الشيخ صالح"..

 

والطفل محمد يسبقهم  ويجري خلفه.. مناديا بصوته الرفيع:"يا صالح أفندى.. يا صالح.. بيه.. يا صالح باشا.. ادينى إيديك أبوسها" ولكن الصييت (صالح عبد الحى) لا يلتفت لهؤلاء الأطفال ولا لهذا الطفل الذى أصبح بعد سنوات هو المطرب والملحن الشهير محمد عبدالوهاب! الحوذى الجالس بجواره يسرع بالحنطور والطفل معلق بذراعه فى الخلف حتى سقط على الأرض، فجرحت جبهته وسال منها الدم.. وآلان عاد للبيت! الأب يجلس مع زوجته الست فاطمة حجازى وبجواره ابنه الأكبر الشيخ

حسن ومحمد جالس صامتًا يداوي حزنه وفشله فى عدم الوصول إلى مطربة المفضل (صالح عبد الحى).  آذان العصر ارتفع فى مسجد الشعرانى، فغادر الشيخ عبد الوهاب للصلاة.

 

وقامت الأم تبحث عن وسيلة لعلاج محمد  المسكون بشيطان المغني والموسيقى منذ مولده. الأم ـ وهى تضمد جراحه ـ تبتسم  وهى تتذكر ما حدث له عندما كان عمره لا يتعدى عامين.
                                                   *
(البيت قبل ـ 10 سنوات) 


فى بيت الشيخ عبدالوهاب عيسى تجلس الست فاطمة حجازى وفى حضنها طفلها محمد الذى لا يتعدى عمره عن شهور قليلة.. وجهه أصفر.. جسده هزيل.. درجة حرارته ترتفع وتنخفض بسرعة شديدة. ترجيع متقطع.. إسهال دائم.. والأم لا تعرف ماذا أصاب طفلها الصغير ـ يسبقه من الأولاد حسن وأحمد وعائشة وزينب ـ فهذا الذى تراه  لم يحدث مع أى من الأولاد من قبل. والحل؟ هى تسأل زوجها! 


نجيب الطبيب. هكذا اتخذ الأب قراره بسرعة وهو الآن يقف مع الطبيب بعدما فحصه. 


- الطبيب وهو يمسك شنطة يده:" شوف يا شيخ عبدالوهاب.. الحالة شديدة الخطورة ( نزلة معوية حادة).. والواد ده بالكتير أن عاش الليلة هيموت بكرة". هز الشيخ رأسه صامتًا. والأم فى حضنها الطفل تسمع ما يدور بينهما. الطبيب يواصل كلامه: "النهاردة الخميس وبكرة الجمعة أجازة فى دواوين الحكومة؛ ولذلك انصحك أن تستخرج له شهادة وفاته من الآن.. حتى يكون كل شئ جاهز للدفن. قال الطبيب ذلك وهو يتحرك نحو الشارع. لحقت به الأم قائلًا: لم تكتب له أى دواء يا دكتور يخف عنا ـ وعنه ـ ما به من ألم. نظر لها الطبيب بأسى واضح على ملامحه ثم قال:" يا ست بقولك هيموت النهاردة أو بكرة.. تقوليلى علاج.. شدوا حيلكم..ربنا معاكم.. والدوام لله"!                    
               *    
 ( البيت بعد مرور ـ 15 دقيقة ) 


فرغت الأم من تلك الذكريات التى مر عليها تقريبًا عشر سنوات فى نفس الوقت الذى انتهت فيه من  علاج جرح جبهة محمد الذى أصبح عمره الآن 12 سنة تقريبًا. نعم هو الآن مصاب فى جبهته، لكنه لم يمت. وطيلة هذه السنوات المبكرة لم يتراجع عن حبه للموسيقى والغناء والطرب. ولم يستسلم لرفض أسرته ذلك كله، ولا لرفض الحوذى الوقوف ليسلم على مطربه المفضل ـ حينذاك ـ صالح عبد الحى الذى رأه صدفه فى شوارع باب الشعرية. وواصل تمرده، وحبه، ودراسته، ومشواره، وأحلامه، وأفكاره، وحياته، حتى لقب بموسيقار الأجيال. بعدما عاش فوق الـ 90 عامًاـ عكس ما توقع الطبيب ـ ليقدم لنا خلالها مئات الألحان العظيمة وعشرات الأغاني الجميلة والتى كانت ـ ولازالت ـ تعطينا الأمل فى الحياة، لأنه أدرك مبكرًا أن هناك من يغنى ـ بالأحاسيس الصادقة ـ  للحياة ويُغنى لنا! وهناك أيضًا من يغني بالزيف والكذب للحياة.. ويُغنى علينا. فاختار هو الصدق معنا ومع الحياة.. لذلك عاش ـ وسيعيش ـ معنا عبد الوهاب ما عاشت الحياة!