عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

"طائر الحرية" بين التعصب الفكرى وحمائم القضاء

بوابة الوفد الإلكترونية

جاء قرار النائب العام المستشار «طلعت عبد الله» بتقديم استقالته ورغبته في العودة الي منصة القضاء كبصيص نور تشاهده من بعيد ولكنك لم تصطدم بوهجه بعد .

فعلي الرغم من ان القرار جاء بعد اعتصام حاشد لوكلاء النيابة وتعرضه لضغط نفسي شديد نتيجة للاستياء الشعبي العام الذي يواجهه منذ توليه منصبه باعتباره جاء بقرار سيادي من الرئيس الدكتور محمد مرسي، فإن الرجل اتخذ موقفاً وطنياً يتماشي مع المطلب الشعبي بتنحيه عن منصبه ولم يعاند او يكابر بل اعترف بمنتهي الشجاعة الأدبية، بانه يشغل هذا المنصب بطريق غير شرعي وهو موقف يحسب له وستضيف مضبطة الضمير في محكمة التاريخ ربما للمرة الألف ما يؤكد نزاهة القضاء المصري ووطنيته وأنه في النهاية ينحاز للشعب عندما تستحكم الشدائد وتضيق آفاق الفكر ورجاحة العقل فتهاجم كل صاحب بصيرة وضمير حي في الوطن.
ربما يبدو موقف النائب العام المستشار «طلعت عبد الله» مختلفاً في شجاعته ووطنيته عن غيره من رجالات النيابة العامة الذين وقفوا بنزاهة وضمير أمام كتائب الحسبة الدينية والقوي الظلامية التي تفتش في القلوب والعقول إلا أن رجال النيابة جميعاً يجتمعون في سلة واحدة  تحمل عنوان حب مصر وإعلاء قيمها الدينية السمحة وتراثها الحضاري العريق .
فمنذ أربعين عاماً أكتشف الروائي الكبير «خيري شلبي»  قرار النيابة فى كتاب الشعر الجاهلى وقام بتحقيقه ونشره فى كتاب  صدر فى ثلاث طبعات أورد فيه زيف الشائعة التى استقرت فى أذهان الرأى العام العربى بأن طه حسين قد استتيب وبناء عليه تم الإفراج عنه وعاد إلى موقعه فى الجامعة كما أفرج عن كتابه«فى الشعر الجاهلى». بعد شطب عبارات منه وتغيير عنوانه إلى «فى الأدب الجاهلى» أما الحقيقة التى كشف عنها قرار النيابة فهى أن النائب العام محمد نور الذى حقق مع طه حسين حفظ القضية لعدم كفاية الأدلة، وبناء على ذلك رفع الحظر عن الكتاب وانتفت الإدانة عن طه حسين، ولقد قرئ كتاب «محاكمة طه حسين» على نطاق واسع وبات حاضرا فى كل ما كتب عن طه حسين بعد صدوره.
ويروي الروائي الكبير «خيري شلبي» تذكره كتابه القديم عن قرار النائب العام في قضية «طة حسين» بقوله : غير أننى فوجئت في الآونة الأخيرة ببعض الأصوات الإخوانية على مواقعهم الإلكترونية وبعض الفضائيات المصرية تردد نفس الشائعة القديمة التى تدين طه حسين بالكفر والإلحاد وأنه قد استتيب فى تحقيقات النيابة!، وحسماً لهذه القضية التى شغلت مصر كلها فى أواخر عشرينيات القرن العشرين واتضح أنها لا تزال تشغل بعض السلفيين دون إلمام بحقيقة الموقف أو ربما الإصرار على رفضها أضع أمام جميع القراء هذه السطور الأخيرة من قرار النيابة الذى كتبه الأستاذ محمد نور رئيس نيابة مصر فى الثلاثين من مارس عام ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين حيث يقول بالنص: «... وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر فلذلك تحفظ الأوراق إداريا».
أما تفاصيل التحقيق فتشهد أننا أمام رئيس نيابة على ثقافة رفيعة قبل أن يكون رجل قانون، ملم بقضايا عصره الثقافية والفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية وله فى كل ذلك وجهات نظر عميقة، لقد أدار دفة التحقيق مع طه حسين بوعى كامل وبموضوعية وتركيز لم يلجأ إلى تكفير الرجل أو اتهامه بالعلمانية الملحدة بل لعله لم يتهمه بشىء إنما كان يتساءل ويناقش ويقارع الحجة بالحجة، ليس بحثا عن إدانة بل ليستبين منه حقيقة ما يقصد، بل يفتح له المنافذ ويساعده على تدعيم موقفه القانونى.
ويحلل الروائي الكبير «خيري شلبي» نفسية النائب العام آنذاك «محمد نور» الذي انحاز للعدالة الناجزة بغض النظر عن أي أسباب اخري تشوب قراره المرتبط في المقام الاول بضميره قائلاً :
كان كبيرا عزيز النفس حقا، احتمل استعلاء طه حسين على مبدأ التحقيق من الأساس، ومراوغته فى الإجابة، وإمساكه عن التصريح ولو كان ذلك الرجل ضعيف النفس لاتخذ من طه حسين موقفا مضادا يغطى شعوره بالنقص وفى نفس الوقت يكسب رضا التيار السلفى الذى هيج الرأى العام والبرلمان والأزهر الشريف لدرجة أن أربعة من علمائه كتب كل منهم كتابا يرد به على كتاب طه حسين وكان هذا أعظم ما فى الأمر الرد على كتاب يكتب، وكانت الفرصة متاحة أمام رئيس النيابة لأن يظهر نفسه فى صورة حامى حمى الأخلاق المدافع عن الدين الحنيف، لكنه كان رجلاً شريفاً يقدر قيمة العلم وقدر العلماء، وكان إلى ذلك قبسا من النهضة الثقافية التنويرية التى أنتجت طه حسين والعقاد وسعد زغلول وسواهم.
ولقد أخذ على طه حسين بعض المآخذ، منها على سبيل المثال ما جاء فى تحليله الركن الرابع من أركان أربعة يجب أن تتوفر فى جريمة التعدى على الأديان، هو ما يسمى بالقصد الجنائى، فيقول: «نحن فى موضع البحث عن حقيقة نية المؤلف، فسواء لدينا إن صحت نظرية تجريد شخصيتين عالمة ومتدينة أو لم تصح فإننا على الفرضين نرى أنه كتب ما كتب عن اعتقاد تام، ولما قرأنا ما كتبه بإمعان وجدناه منساقا فى كتاباته بعامل قوى متسلط على نفسه وقد بيًّنا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما كتب وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شىء وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدى شىء آخر».
ولكن لماذا حرص المستشار محمد نور على طبع قراره ذلك فى كتيب على نفقته الخاصة ليقرأه عموم الناس ولذلك مدلول عظيم الأهمية يكرس للضمير المصرى المستنير، لقد أراد هذا النائب العام أن يمارس دوره كمثقف يجب عليه النزول

إلى وسط المعركة ليشارك فى الكفاح ضد الرجعية والعقول المتحجرة المعوقة للنهضة والتقدم العلمى بعد أن مارس دوره القانونى كممثل لضمير الأمة، كان يدرك أن نشر القرار فى كتاب إنما هو انتصار لحرية البحث العلمى وحرية التعبير باعتبارها بوابة العبور إلى النهضة والعمران.
وفي عام 2010 أصدر المستشار عبد المجيد محمود النائب العام قرارا بحفظ البلاغ المقدم من عشرة محامين، ضد نشر ألف ليلة وليلة في سلسلة الذخائر الصادرة عن هيئة قصور الثقافة، لعدم توافر اركان الجريمة في المؤلف المنشور، من استغلال الدين في الترويج للأفكار المتطرفة وازدراء الأديان السماوية، وإثارة الفتن، وكذا نشر وعرض مطبوعات خادشة للحياء العام في محتوى مؤلف ليلة وليلة . كما أشار النائب العام في قراره بحفظ البلاغ بقيمة الليالي، باعتبارها مكونا أصيلا من مكونات الثقافة العامة، ومصدرا للعديد من الأعمال الفنية الرائعة.
هذا وقد أمر النائب العام بإحالة البلاغ لنيابة أمن الدولة العليا لاتخاذ شئونها فيه، في الوقت الذي امتنع المبلغون عن الحضور للنيابة لسؤالهم في التحقيقات رغم إعلانهم عدة مرات، والتي أكدت من جانبها أن الأسباب التي استندت إليها في حفظ تحقيقاتها سبق أن تناولتها المحكمة المختصة عام 1985 في نفس القضية وقضي فيها بحكم نهائي بالبراءة، وأن هذا البلاغ الحالي لم يأت بجديد ينال من هذا المؤلف .
ويومها أشاد الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة في ذلك الوقت بهذا القرار الذي ينتصر لحرية التعبير، ويؤكد على حضارة مصر وعراقتها، كما يؤكد أن النشر في هيئة قصور الثقافة يسير طبقا لرؤية وخطة محددة تستهدف نشر الثقافة الرفيعة.
ويضع الباحث حمدي السعيد سالم، قضية الحسبة فى سياقها التاريخى، وأنها كانت تستهدف مكافحة الفساد الاقتصادى والإدارى، حيث يقوم المحتسب بمراقبة الأسواق للتأكد من صحة المكاييل وسلامة المعاملات، إلا أن المصطلح فى العقود الأخيرة أصبح يعنى مصادرة حرية الرأى والإبداع، ودور المحتسب – قديماً - كان يشبه «شرطة تنفيذ الأحكام» فى الوقت الحالى.... طوال التاريخ الإسلامى لن تجد للمحتسب علاقة بشئون الشعراء والعلماء والباحثين ، حيث كان المحتسب مسئولا عن الجوانب التموينية وبعض القطاعات والخدمات ، اما إذا سقط شاعر فى هجاء مسئول أو أحد الأعيان أو اتهم فى عقيدته فقد كان يذهب إلى القضاء والقضاة ولا شأن للمحتسب به!!!...
وتؤكد القراءة المتأنية لمصطلح «الحسبة» أن المسلمين الأوائل لم يعرفوا مصطلح «الحسبة» ولا شخص «المحتسب» الذى كان يقوم فى بعض فترات التاريخ الإسلامى بوظيفة «ليست مفتوحة ولا مباحة لأى مسلم»، انطلاقًا من كونه فقيهًا يعلم أحكام الشريعة الإسلامية....عرف نظام الحسبة والمحتسب منذ العهد الأموى، وعرفت مصر بالتالى هذا النظام ، إلا أن بعض الآراء تذهب إلى أن ذلك كان مع الدولة الطولونية، واختلف الباحثون حول ما إذا كان ذلك النظام إسلاميا صرفا أم أنه مأخوذ عن الدولة البيزنطية...الجدير بالذكر وجود حالات صارخة لاضطهاد وتعذيب وقتل المبدعين لاتهامهم بالكفر او تشكيك فى عقيدته تمت فى ظل مواقف ومواجهات سياسية فى المقام الأول، ولو تأملنا سيرة الحلاج وابن الراوندى ومحنة ابن حنبل لوجدناها كلها معارك سياسية استغل الخلفاء والحكام جنوح العقيدة مبررا... الحسبة كانت للتغطية على مواقف واتجاهات سياسية بعينها، وبعضها كان لتصفية حسابات والانتقام أو التنفيس عن أحقاد خاصة تجاه كاتب أو مبدع، وبالتأكيد كان بينها ما يعبر عن مخاوف دينية وعقائدية!!...
الغريب فى الامر أن قضايا الحسبة واجهت شيوخا وعلماء أزهر ، كما واجهت بعض الكتاب والفنانين والمبدعين ، وفى قائمة الشيوخ يأتى الشيخ محمد أبو زيد من دمنهور عام 1917 الذى واجه الحسبة بسبب رأيه فى آدم أبو الخير ، والشيخ عبد الحميد بخيت عام 1955 بسبب رأى له حول صوم رمضان ، ذهب فيه إلى أن الصيام لو أدى إلى تعطيل المسلم عن عمله لجاز له أن يفطر دون قضاء أو كفارة.