رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حنان أبوالضياء تكتب : «أحمد زكى»... الهارب من براويز التأبين

بعد الرحيل نعشق وضع صورة الراحلين فى برواز مُحلى بشريطة حرير سوداء، ولكن مع أحمد زكى لا يوجد إطار من الممكن أن تحيط به صورته، فهو كالمعتاد سيقفز منها هاربا رافضا القيود، لذلك لم يكن غريبا أن يعيش عمره فى أحد الفنادق رغم أنه يملك شقتين مجهزتين، فهو المتمرد على كل القيود.. إنه المغرد خارج السرب ولكنه تغريد يضيف إليه وللآخرين، وللموت جمال أيضاً وأجمل ما فيه أنه يأتى فى الوقت المناسب لا يتأخر دقيقة واحدة، وفى يوم 27 مارس 2005 جاء فى زيارته الأولى والأخيرة إلى الفتى الأسمر، المشاكس دائما «أحمد زكى» وحمله على جناحيه إلى عالم الخلود مخلصا إياه من أقسى شىء على نفسه وهو الإحساس بالضعف وقلة الحيلة، مانحا إياه دور البطولة المطلقة على خشبة مسرح الحياة فى دور «مونودراما» مسرحية الممثل الواحد، وكم كان تلقائيا وعفويا ورائعا كالمعتاد، لتحمله الجماهير المحبة على أعناقها إلى حيث سيبقى دائما أبدا فى القلوب والعقول..

وكم كان أحمد تلقائيا وعفويا ورائعا كالمعتاد فى ميلاده ورحيله ليبقى دائما أبدا فى القلوب والعقول، إنه أحد «أبناء الصمت»، الذى رأى «العمر لحظة»، «طائر على طريق» الإبداع، «مدمن» لفنه، «صانع النجوم»، وعندما يعملون معه يكون «البرنس» و«الإمبراطور»، المتربع على عرش الإبداع بعد مرور سنوات على وفاته.

أحمد زكى الذى أعرفه كان بين جنونه وعبقريته خطوة لم يخطها أحمد زكى وظل محافظا عليها، لا أعرف هل هذا كان بإرادته أم أن الأقدار حافظت له على تلك المسافة، كان قاب قوسين أو أدنى من السعادة، ولكن ثمة شيئا ما منعه من الوصول إليها، بركان من الإبداع، وفيض من الإنسانية، وإعصار من الغضب فى لحظات الإبداع، وكان جنون أحمد زكى يظهره كثيرا عندما لا يجد تفسيرا مقنعا لكونه لم يكن المتوج على عرش السينما فى أى مهرجان يدخل فيه بأحد أفلامه، الصادق فى فنه، الصدق المتعطر بالإحساس بقيمته الفنية والذى يصل إلى حد البوهيمية، معطاء بالقدر الذى جعله من إنسان كسب الملايين إلى شخص يخرج من الحياة بالستر «وزيادة حبتين».

وأحمد زكى يجيد فن التعامل، لديه أصدقاء كثيرون، وكل واحد فيهم يعتقد أنه الصديق الأوحد، وتلك مقدرة إنسانية لم يكن يعزف عليها باقتدار وعفوية فقط، ولكن بعبقرية أيضاً. أفعاله يغلفها إطار واحد هو الإيثار فى كل شىء إلا فى الإبداع، فهذا الإنسان الذى يعطيك كل ما يملكه بدون تفكير، يتحول فى لحظة إلى إعصار يعتصر ذاته وكيانه قبل الآخرين، إذا فشل فى الحصول على ما يحلم به فى فنه.

وعلى الجانب الآخر وعلى ما أعتقد أن الكثير من أعمال وحيد حامد كان من المفروض أن يقوم ببطولتها أحمد زكى، ولكنها كانت فى النهاية تطير لتحط بجناحيها على أحد غيره، وربما يرجع هذا إلى أن أحمد زكى كان عنيدا فى وجهة نظره إلى الحد الذى لا يقبله وحيد حامد، فالأزمة دائما تكون بين مبدعين كلاهما يعرف مقدار ذاته ويرفض التنازل عن ما يفكر فيه.. وعامة إن كنت شاهدا على ضياع حلمه فى تمثيل فيلم «سوق المتعة» الذى ذهب إلى محمود عبدالعزيز، فقد كان أحمد زكى يذهب يوميا إلى المكان الذى اعتاد أن يكتب فيه وحيد حامد وظل مرابطا أمامه فى الأيام الأخيرة من كتابته.. وأعتقد أن تلك المشاهد أخذت وقتا طويلا من المبدع وحيد حامد لإصرار أحمد على التواجد أثناء الكتابة. وبعد الانتهاء من السيناريو وكالمعتاد طار الفيلم منه.. وحتى الآن لم أعرف لماذا!.

أحمد زكى كريم، كرما ليس له حدود، دائما عازم، لم أره معزوما إلا فى حالات استثنائية، وفى كل المهرجانات السينمائية التى كان يحل عليها ضيفا يصر أن يكون مقيما على حسابه الخاص. ومن الأيام التى لا أنساها أثناء تواجده فى مهرجان الإسكندرية وكالمعتاد كانت إقامته على حسابه، فى الوقت الذى كنت ترى فنانين يأتون بأسرهم كاملة على حساب المهرجان!، وكان الجلوس مع أحمد زكى على طاولته يعنى أنك معزوم، ومهما بذلت من مجهود لإقناعه أنك معزوم من إدارة المهرجان يصر على دفع حسابك!.. الطريف أن أحمد زكى كان له ذوقه الخاص فى ارتداء الملابس وكان مقتنعا أن هذا الذوق سينال إعجاب الجميع، لهذا الحد لا يخرج الأمر عن كونه ثقة بالنفس، ولكنه كالمعتاد وبلمسته الخاصة يحوله إلى شىء غريب وغير معتاد، لكونه كان يشترى من معظم القمصان التى يرتديها كل المقاسات، حتى إذا أبدى أحد إعجابه بالقميص صعد إلى حجرته بالفندق «الذى كان يقيم به معظم الوقت» وأحضر له مقاسه.

أحمد زكى شخصيته تتبدل 180 درجة ليصبح فى حال غير الحال عندما يمثل، ملابسه رثة تدعوك للشفقة عليه مع كل الشخصيات إلى قدم فيها شخصية الإنسان المطحون، فعندما سافرت له أثناء تصوير الراعى والنساء، كان مرتديا طول الوقت قميصا وبنطلونا بسيطا للغاية مثل الشخصية التى يؤديها، وكان يستيقظ مبكرا جدا والتصوير لا يبدأ إلا بعد الرابعة عصرًا، وينتهى مع الساعات الأولى من الصباح، ولا أعرف حتى متى كان ينام أحمد زكى!

وكان البرنس الذى لا يترك السيجار من يده عندما يكون من أصحاب المعالى، وعندما قام بدور عبدالناصر ظل لفترات طويل يسير بانحناءة قليلة لكون ناصر كان كثيرا ما يظهر منحنيا قليلا عندما يكلم الآخرين لطول قامته، ولشدة تقمصه للدور اعتقدت أنه من المستحيل أن يتقمص دور السادات بنفس البراعة، ولكم كان مذهلا وصادما عندما تراه فى بهو الفندق الذى يقيم فيه فى غير أوقات التصوير مرتديا الجلباب والعباية وممسكا بالبايب كما يفعل السادات.. وظل لفترة طويلة يحلق الجزء الأمامى من رأسه حتى ظن الكثيرون أنه أصيب بالصلع، وربما أن الأقدار لم تبخل عليه بالألم الذى كان يعانيه عبدالحليم حافظ ليتقمص بصدق لحظات المعاناة التى عاشها العندليب ليكون كما كان دائما حقيقيا وهو يمثل فى آخر أعماله «حليم»..

حكايات كثيرة دارت عن علاقته بالأهل والأصدقاء، أهمها أن أصدقاء أحمد زكى فى بدايته ظلوا هم أنفسهم وهو فى عز نجوميته ومجده، وأذكر منهم الراحل ممدوح وافى الذى أصر بعد إجراء جراحة فى القلب أن يسافر مع أحمد زكى إلى باريس عند مرضه، وهناك سقط مغشيا عليه ليكتشفوا أنه مصاب بالسرطان فى المرحلة الأخيرة وعاد معه إلى مصر ليموت قبل أحمد بشهور، ليسبق أحمد إلى مقبرته ليرافقه فى حياته ومماته.

حكايات كثيرة قيلت عن غرامياته فى حياته، وأخرى ابتدعت بعد وفاته، ولكن الحقيقة تكمن فى هذا المكان بالقرب من الفيوم حيث يسكن الآن، فالحياة الخاصة صندوق أسود يرحل مع صاحبه ولكن له قصة خالدة لعب فيها الموت كلمته الأولى والأخيرة هى الراحلة «هالة فؤاد» والتى أثمرت قصة حبهما هيثم أحمد زكى.. وكل من كان يعرفه عن قرب، يعلم كم كان يكابد ويعانى أثناء مرضها، ولكنه كان دائما يحافظ على المساحة التى لا يجب الاقتراب منها لكونها زوجة لرجل آخر، ولم يتكلم أحمد كثيرا عن أسباب الفراق واحتفظ بها لتصبح زاده الخاص الذى يتزود به من الذكريات، ولأن علاقة الإنسان بربه لا يعلمها إلا الله فعلاقة أحمد بالله مثل كل البشر لا يعلمها إلا الله، ولكنه كان سعيدا بعد عودته من الحج ويحكى حكاياته عن تجربته الإنسانية هناك بعفوية بعيدة عن الكلمات الجوفاء والرنانة.

ورغم تعدد أدواره إلا أننى أراه هذا الإنسان البسيط الذى يشبه عوام المصريين فهو «حسن هدهد» فى «كابوريا» الشاب الفقير عاشق الملاكمة والحالم بالوصول إلى الأوليمبياد، والعاجز عن تحقيق الحلم ولكنه فى نفس الوقت الرافض لأن يكون دمية. وهو أيضاً «عيد» فى «أحلام هند وكاميليا» المتصرف بحرية وعفوية ويحاول جاهداً الحفاظ على هذه الحرية ويهرب من أى قيود، حتى بعد زواجه من هند نراه يعيش تناقضات كثيرة بين اشتياقه للحرية وبين مسئوليته تجاه زوجته وابنته أحلام. وهو عبدالسميع «البيه البواب» النازح إلى القاهرة برفقة زوجته وأولاده للبحث عن لقمة العيش فيعمل بوابا بإحدى العمارات وبذكائه يتمكن من العمل سمسارا بجانب مهنة البواب ولكنه يقع بين جشعه وأيدى اللعوب إلهام هانم ليفقد كل شىء.. وهو «متولى» أخو شفيقة القاتل، القتيل فى نفس الوقت، بالقهر والذل والسخرة والبحث عن لقمة العيش.. وهو «شكرى» الكوافير البسيط فى «موعد على العشاء» الذى يغرق فى بحر من العواطف ويدفع حياته ثمنا لها. وهو «فتحى» «الليلة الموعودة» الذى يحاول استرداد نقود أمه من «سيد» الذى نصب عليها. ويستوقفك كثيرا مع شخصية الطبال «عبده» مدرب راقصة الموالد مباهج ومحولها إلى راقصة مشهورة، الرافض الزواج منها خشية أن يشغله الزواج عن مستقبله الفنى!، الفاشل فى تقديم فاصل عزف بالطبلة بدون راقصة فينهار ويدمن المخدرات، ويصاب بالجنون.. وهو «سرور» «الدرجة الثالثة» همزة الوصل بين طرفى الصراع «جمهور المقصورة والدرجة الثالثة»، الإنسان البسيط الساذج المستغل من قبل إدارة النادى.. وتصدقه عندما أصبح شخصية «حسين» «المخطوفة» الشاب العصامى العائل لأمه وأخته من دخل سيارة الأجرة التى يمتلكها، والذى تنهال عليه طلقات رصاص الشرطة ليلقى مصرعه. وهو «صلاح» «مستر كاراتيه» الريفى الذى تضطره الظروف إلى الذهاب للقاهرة للعمل فى أحد الجراجات فيلتقى بأنماط بشرية مختلفة.. وأيضاً «حسن» السائق «سواق الهانم» الذى تستعين به عائلة ثرية من سلالة العائلة المالكة كسائق لهم ولكنه يساعدهم فى حل العديد من المشكلات... وهو «حسن اللول» المهرب من بورسعيد، المصطدم بنفوذ سياسى.. ومعه فى «البطل» نعود إلى الإسكندرية عشية ثورة 1919 فنراه «حودة النجار» الهاوى للملاكمة، محققا حلمه فى مصافحة زعيمها سعد زغلول، والاشتراك فى أوليمبياد 1924 كملاكم، ورغم هزيمته بسبب انحياز الحكم، لكنه يتمكن من الاشتراك فى أوليمبياد 1928 وتحقيق الفوز. لنغنى جميعا مع «زين» «هيستيريا» خريج معهد الموسيقى العربية الذى انتهى به الأمر للعمل فى الغناء فى مترو الأنفاق.. ويشدك إلى «أحمد» «شادر السمك» العامل البسيط الريفى، الذى يخطفه بريق السلطة والنفوذ، وتنتابه روح الأنانية المفرطة ويزداد طغيانه فارضا سياسة الاحتكار متنكرا لمبادئه وأصله فيضيع... وهو «أحمد سبع الليل» الريفى الفقير الذى لا يعرف من الدنيا إلا قريته والبلد بالنسبة له هى الحقل الذى يزرعه بنفسه والترعة، المنخرط ضمن قوات حراسة أحد المعتقلات الخاصة بالمسجونين السياسيين المدرب على السمع والطاعة.. ومع كل هذه الشخصيات من البسطاء سترى أن الصورة الأقرب إليه هى سيد غريب «اضحك الصورة تطلع حلوة» المهاجر من بلدته إلى القاهرة بحثا عن مكان قريب من كليه طب قصر العينى التى التحقت بها ابنته والمصطدم بالمجتمع الارستقراطى، ولكنه يرفض الخنوع ويأخذ حقه بنفسه.. وتوالت تغريدات أحمد وصوره لتظل محفورة فى قلوبنا وعقولنا ويصبح رحيله مجرد تاريخ يكتب فى الأوراق الرسمية.