رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

دعوة إلى حب مصر والتذكير بفضل نيلهاالخالد

يقول الكندي في كتابه ”فضائل مصر”: ”فضّل الله مصرَ على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض، والأيام والليالي بعضها على بعض”. ويذكر المقريزي في كتابه ”المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” أن: “لمصر فضائل كثيرة، منها أن الله عز وجل ذكرها في كتابه العزيز بضعا وعشرين مرة، تارة بصريح الذكر، وتارة إيماء. قال الله تعالى: (اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم). لقد أكرم الله تعالى هذا البلد العظيم، وخصّ أبناءه بما لم يخصّ به غيرهم من شعوب الأرض، من المميزات الفريدة، والخصائص العجيبة. وقد مرّ علينا حين من الزمان، كان شعبنا فيه أكثر وعيا بجذوره وآثاره، وأشدّ تمسكا بانتمائه وأصوله، وأعظم تضحية في سبيل رقي بلاده، وتنمية اقتصاده، مما هو عليه الآن. ويبدو أن عصر الانفتاح الاقتصادي كان مبتدأ ذلك الوضع المحزن، والحال المؤسف. فصارت الـ “أنا”أهم من الجماعة، وأصبحت لــــ “نفسي” الأولوية على الوطن، وأضحى شعارنا “أنا أولا، ثم يأتي الوطن”. وكلّ هذه عوارض ظاهرة، ومظاهر واضحة لما وصلنا إليه من تخلف وانحطاط، وما انتهينا إليه من جهل وشقاق. ومع افتقاد القدوة الحسنة، والمثل الصالح، كاد حبّ الوطن يختفي من حياتنا، وكاد لعن البلد يصير طقسا دينيا، نردده كل يوم في غدونا ورواحنا. وساءت الأحوال، وانعدم الانتماء، وشاع الفساد، وعمّ الجهل، وانتشر الغرور، وبانت الغطرسة، وتلاشت الديانة، وتبخرت الأخلاق، وزادت المظالم، وماتت الذّمم، وتكاثرت الألقاب، ونضبت القرائح، وكثر التقليد، وتصاغرت الهمم، وضعفت العزائم، وازدادتِ الهجرة، وندر الحبُّ، وعادتِ الفرعنة، وانقطعتِ الجذور، وقربتِ القارعة.

ومن غرائب الأمور أن المسؤولين عن هذا الشعب يجهلون حقيقة بسيطة في مضمونها، صغيرة في كلماتها، ولكنها كبيرة في معناها، عظيمة في دلالتها. وأعني بها، أنه على الرغم من كل ذلك، فإنني أدّعي أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يخلق شعبا على هذه الأرض، أكثر استعدادا للتضحية في سبيل بلاده، وأعظم ارتباطا بجذوره وتراثه، من الشعب المصري. هذا إذا عرفنا كيف نحرك طاقاته الكامنة، وقواه الخافية، وكيف نثير عزائمه القوية، ونريه كيف يكون حبّ الأوطان، وكيف تكون التضحية في سبيلها. وليس خافيا على أحد، أنّ التّاريخ الإنسانيّ لم يعرف حضارة معطاءة، وشعبا يعرف معنى التضحية، مثل الحضارة المصرية، والشعب المصري.

ويهمّني في السُّطور التالية أن أوضّح للقارئ مدى ارتباط عظمة مصر بعظمة نيلها الخالد، وسوف استشهدُ في ذلك ببعض أقوال القدماء عن فضائل هذا النهر العظيم ومنافعه. فأقول: اعلم أن فضلَ مصرَ على الإنسانية أكبر مما تتخيله عقول البشر، وأعظم مما قد يتصوّره أبناء مصر أنفسهم. وأنه لولا فضائل هذا البلد، لما خصّه اللّه بالذّكر في كتابه المبين، ولما استوصى رسول الله (صلعم) بأهله خيرا. ولولا عظمة مصر، وسمو مكانتها، وكثرة خيراتها، لما تصارعت القوى الكبرى، عبر التاريخ، على احتلالها، ونهب ثرواتها، واستعباد أهلها. ولم ترتبط حضارة إنسانية بالديانات، وعقيدة الخلود، مثلما ارتبطت حضارة مصر. ولم ينشغل شعب في تاريخ الإنسانية بالمسائل الميتافيزيقية، وأحداث يوم القيامة، مثلما انشغل الشعب المصري. ولم تتوقف مصر عن العطاء في هذا المجال، بعد ظهور الديانات السماوية الثلاث. فبجانب زواج رسول الله (صلعم) من مارية المصرية، والدّور العظيم الذي لعبته مصر في تاريخ الإسلام، فقد كانت مصر دائمًا مركز إشعاع ديني، وواحة لأنبياء الله ورسله. يقول ابن حوقل في كتابه ”صورة الأرض”: “ويقال إنه دفن بمصر من الأنبياء: يوسف ويعقوب والأسباط وموسى وهارون. وبها ولد عيسى عليه وعليهم السلام بكورة اهناس، ولم تزل نخلة مريم تعرف باهناس إلى آخر أيام بني أمية”.

مصر والنيل

يصعب على المرء أن يتخيّل مصر بتاريخها المجيد، وحضارتها العريقة، بدون نهر النيل. يقول المقريزي: “وقال بعض الحكماء لولا ما جعل الله في نيل مصر من حكمة الزيادة في زمن الصيف على التدريج، حتى يتكامل ري البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة، لفسد أقليم مصر، وتعذر سكناه، لأنه ليس فيه أمطار كافية، ولا عيون جارية تعمّ أرضه، إلا بعض أقليم الفيوم”. لقد كان النيل منذ فجر التاريخ يأتي إلى مصر بالمياه والطمي، فتنبت الأرض، وتعمر البلاد، وتعم الخيرات، وتدبُّ الحياة في جميع نواحي البلاد.

وقد ذكر المسعودي في ”مروج الذهب” قولا بليغا لأحد الحكماء، يصف فيه الدور العظيم الذي لعبه هذا النهر الخالد في تاريخ مصر وحياة أبنائها، حيث يقول: “إن النيل عندما يفيض، فإنه يحول مصر إلى لؤلؤة بيضاء، ثم إلى مسكة سوداء، وبعد ذلك تصير زمردة خضراء، ثم تنتهي إلى سبيكة ذهب حمراء”. وتفسير هذا القول هو أن مصرَ تتحوّل إلى لؤلؤة بيضاء في الأشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر، حيث يأتي النيل بخيراته، فيركبها الماء، وتصير الدنيا بيضاء، قد أحاطت المياه بها من كل وجه، فلا سبيلَ إلى بعض البلاد إلا في الزوارق. ثم تصير مصر بعد ذلك كالمسكة السوداء (والمسكة من المسك: وهو ضرب من الطيب أو العطر) في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر، وذلك بانكشاف الماء عنها، فتصير أرضها سوداء تقع فيها الزراعات، وللأرض روائح طيبة تشبه روائح المسك. ثم تتحول مصرُ إلى زمردة خضراء (والزمردة هي قطعة من حجر كريم أخضر اللون، شديد الخضرة، وأشدّه خضرة أجوده، وأصفاه جوهرا) ويكون ذلك في يناير وفبراير ومارس، حيث تلمع الأرض بخضرتها، وتكثر نباتاتها.

وينتهي المطاف بأرض الكنانة وقد أمست كسبيكة الذهب الحمراء في الأشهر أبريل ومايو ويونيو، فتنمو أزهار الربيع، وتتورّد أغصان الأشجار. ولولا نهر النيل، لما حدث كل ذلك، ولولا عذوبة مائه، وجودة طميه، لما كثرت خيرات البلاد، ولما استقامت حياة المصريين. يقول الشاعر واصفا جنان مصر وجمالها:

لعمرك ما مصر بمصــر وإنمـا             هي جنـــة الدنـــــــيا لمن يتبصر

فأولادها الولدان والحور عينها             وروضتها الفردوس والنيــل كوثر.

وقال آخر:

شــاطئ مصــر جـنــــة             مـا مثـلهــا من بـلد

لاسيّما مذ زخـــــــرفـت             بنيـــــــــلها المطرد

لقد فتن هذا النهر الخالد الرحالة والجغرافيين القدماء، وخلبهم عقولهم، حتى أنهم اعتبروه من عجائب الدنيا. وتحكي كتب التاريخ أن ذا القرنين كتب كتابا عما شاهده من عجائب الدنيا، فضمنه كل أعجوبة، ثم قال في آخره: ”وليس ذلك بعجب، بل العجب نيل مصر”. وَلَخَّصَ حكيم آخر أحوال مصر عبر التاريخ في عبارة وجيزة، ولكنها بليغة جامعة، حيث يقول: ”نيلها عجب، وأرضها ذهب، وملكها رغب (= مرغوب فيه)، وفي أهلها صخب، وطاعتهم رهب

(= خوف)، وسلامهم شغب، وحروبهم حرب (= هلاك)، وهي (= مصر) لمن رغب”!

من فضائل النيل

جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، وصل ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى، فإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان. فسأل عنها جبريل عليه السلام. فقال: أما الباطنان، ففي الجنة. وأما الظاهران،، فالنيل والفرات. وفي الحديث أيضا: “النيل والفرات وسيحون وجيجون كل من أنهار الجنة”. وقد ورد ذكر النيل في القرآن الكريم، حيث يقول الله عز وجل: “فإذا خفت عليه، فألقيه في اليم”، فسمّى النيل يما، وهو البحر، ولا يوجد نهر في الدنيا يسمى بحرا غيره.

والأكثر من ذلك أن الحديث الشريف قد اعتبر النيل نهرا مؤمنا! وفي ذلك إشارة واضحة إلى كثرة منافعه، وعظم فوائده. يقول ابن قتيبة في ”غريب الحديث”: “وفي حديثه عليه السلام: نهران مؤمنان، ونهران كافران. أما المؤمنان، فالنيل والفرات. وأما الكافران، فدجلة ونهر بلخ”. ويشرح ابن قتيبة هذا الحديث الشريف، بقوله: “إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه، لأنهما يفيضان على الأرض، ويسقيان الحرث والشجر بلا تعب في ذلك ولا مؤنة. هذا على عكس النهرين الكافرين. فالنيل والفرات في النفع والخير كالمؤمنين، والآخران في قلة الخير والنفع كالكافرين”. وروى ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: ”نيل مصر سيد الأنهار، سخّر اللّه له كل نهر بين المشرق والمغرب ...”.

أما أسرار عظمته، وجملة فضائله، فيلخصها ابن سينا قائلا: ”وقوم يفرطون في مدح النيل إفراطا شديدا، ويجمعون محامده في أربعة: بُعْد منبعه، وطيب مسلكه، وغمورته، وأخذه إلى الشمال عن الجنوب”. أما بُعد منبعه، فنحن نعرف اليوم مبتدأ هذا النهر العظيم ومنتهاه، بيد أن القدماء كانوا يجهلون منابعه، ولا يعرفون بدايتها. فقد ذكر بطليموس نهر النيل في كتاب “الجغرافيا”، فلم يعز أصله إلى مكان. بل إن الرحالة المشهور ابن بطوطة عندما شاهد نهر النيجر، اعتقد خطأ أنه أحد فروع نهر النيل! وما كان ذلك ليحدث، لولا استكبار القدماء لهذا النهر الخالد، واستعظامهم إياه، فابن بطوطة حينما يتحدث عن نهر النيل، لا يذكره إلا بـ “النهر الأعظم”.

وقول ابن سينا “بُعد منبعه”، معناه عظم المسافة بين منابعه ومصبه في البحر الأبيض. أما قوله “طيب مسلكه”، فشرحه، كما يشير إلى ذلك المقريزي، هو أن مياه النيل تجري على أراض حارة، ولا يغلب على تربة ما تمر به شئ من الأحوال والكيفيات الرديئة، كمعادن النفط والشب والأملاح والكباريت ونحوها، بل تمرّ على الأراضي التي تنبت الذهب. وفضلا عن ذلك، فالنيل في جريانه أبدا مكشوف للشمس والرياح. أما قول ابن سينا “غمورته”، فالمقصود منه شدة جريانه، وكثرة مياهه. ومن عجائب النيل، أن ابتداء زيادته في شدة الحر، عند نقص الأنهار وجفوفها، وابتداء نقصه، حين زيادة الأنهر وفيضها. وقول ابن سينا “أخذه إلى الشمال عن الجنوب”، هو إشارة واضحة إلى خاصية عظيمة، تميز بها النيل عن جميع أنهار العالم، فهو النهر الوحيد الذي يجري من الجنوب إلى الشمال، ويكون انحداره من علو، فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائما. وقد أدت كل هذه العوامل إلى خفة وزن ماء النيل، وعذوبة طعمه، وحسن أثره في هضم الغذاء. يقول ابن حوقل في ”صورة الأرض” واصفا مياه النيل: ”وماؤه أشدّ عذوبة وحلاوة وبياضا من سائر أنهار الإسلام”.

وبعد، فلتعلم، أيها القارئ الكريم، أن شكر النعمة واجب، كما أن ذمّ الجريمة لازم. وإذا كان الله جلّ وعزّ قد خصّنا بكل هذه النعم والفضائل، فينبغي أن نحمده تعالى، ونشكره على رعايته لنا، ورحمته بنا، وفضله علينا.

وأوّل مظاهر هذا الشكر، ومبتدأ إشارات الحمد، هو أن نتوقف فورا عن تلويث هذا النهر العظيم، ونرتفع إلى مستوى المسؤولية، فننظفه بدلا من أن نلوثه، ونستمتع بسحره وجماله، بدلا من أن نطعنه ونغتاله، ونقابل نعمه وخيراته بعرفان الجميل والشكر، وليس بالقاذورات والسموم. ذلك أن مصر والنيل ما انفكا يحذّران بشدّة كل معتد أثيم، بأنه لن ينجو من العقاب، ولن يفلت من الحساب، حيث يردّدان بصوت واحد:

ما رماني رام وراح سليما             من قديم عناية الله جندي.

فليفق الجهلة، وليتعظ المجرمون.