رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

هل ورث السبّاكون قواعد الصنعة من المصريين القدماء؟

قواعد الصنعة من المصريين
قواعد الصنعة من المصريين القدماء

«بيت الراحة» يشغل حيزًا من اهتمام الناس بحكم التعامل اليومي فيه، البعض يصوغ فيه أفكاره والآخر يطالع صحف الصباح وهناك من يغني تحت الماء وهناك من يخشي أن يزعج السكان الافتراضيين في هذا المكان ويحتاط في تعامله وسلوكه.

 

كان عبدالهادي هاشم النجمي ـ كاتب ومخرج مسرحي، دائم التهكم والسخرية من ناقد أدبي، كتب في إحدي رواياته صوت قضاء الحاجة لبطل في رواية له، سخرية النجمي كانت لها صدي واسع في كازينو عبدالستّار الذي يجلس فيه ورفقته من الممثلين والأدباء.. هذا الرجل لا يحضر إبداعه إلا في المرحاض.. هكذا كان يتهكم!

 

ليست الفكرة من الكتابة عن تطور «حمامات المنازل» رصدًا مباشرًا لتغييرات حدثت أو تحدث، الكتابة هنا تؤرخ لحقب زمنية ولت؛ وأيضًا تأخذنا لمداخل لحيوات السكان وحالتهم الاقتصادية والمعيشية فى الزمن الذي عاشوا فيه.

 

السبّاكون المخضرمون من أرباب الصنعة الأوائل لهم منطق مقنع لملاك المنازل أو الزبائن فى اختيار أماكن وضعية أدوات الحمام أو المرحاض، هذه الخريطة التي يرسمها السّباك فى هذه المساحة المحدودة تشترط بالضرورة أن يكون الكرسي والحوض وصنبور المياه المتصل بالدّشّ أو المسبح الصغير في حالة تراص على خط واحد باتجاه المنورـ تلك النافذة الصغيرة التى يتسرب منه الضوء والهواء للداخل، يبذل السّباكون كل طاقتهم فى الاعتداد بهذه الخريطة مع ملَّاك المنازل رغم اعتراض الزبائن ورغبتهم في توزيع هذه الأدوات بمناطق مختلفة فى مساحة الحمام أو غرفة المرحاض.

 

وعلى ما يبدو أن هذه الخريطة قديمة ويتوارثها أهل الصنعة.. بعد خطوات قليلة من باب قصر السلاملك أحد مشتملات المجموعة المعمارية للأمير يوسف كمال بمدينة نجع حمادي، باتجاه قاعدة كبار الضيوف في الناحية الشمالية من القصر المكون من طابق واحد وسطح، يقع حمام محدود المساحة كانت هذه الخريطة معتمدة أيضًا في تصميمه، حرص العمال في ذلك الوقت على أن يكون المرحاض وملحقه صندوق الطرد باتجاه المنور أو الجزء الخلفي من القصر وهو الحديقة.

 

 ربما ذكرنا قصر السلاملك مثالًا لأسباب عديدة منها أنه يعود لأوائل القرن التاسع عشر وأن المهندس القائم على الإنشاءات مجهول حتي وقتنا هذا وهو ما يجعلنا أن نذهب مؤقتًا إلى فكرة أن بعض الإنشاءات داخل المجموعة قد تكون تمت بعمالة محلية من السباكين الموظفين في دائرة الأمير في ذلك الوقت، وأيضًا فإن القصر يخص واحدًا من أغني المصريين في ذلك الوقت، والسبب الأخير كان ضروريًا كمدخل للمقارنة بين الطبقات في جزء من الصعيد والتي نحاول رصدها هنا ربما قناعة بما قاله فيكتور هوجو في روايته البؤساء إن «تاريخ الإنسانية ينعكس في تاريخ مجاريها»!.

 

حرص المهندسون أو البناؤون على اختيار مكان المرحاض أو الحمّام فى آخر المنزل أو الشقة وبزاوية معينة، ليس مصادفة ففي سنة 1912 من القرن الماضي اكتشف عالم المصريات «كويبل» جبانة شمال هرم سقارة المدرج تعود لعصر الدولة القديمة، ملحق بها مراحيض وكانت مقامة في الزاوية الجنوبية الشرقية وهي الزاوية الأخيرة في المنزل أو البناء التي يمر عليها الهواء! وهو ما يعني أن اختيار آخر مكان في المنزل وفى هذه الزاوية هو كان قانونًا عرفيًا متبعًا منذ آلاف السنين حافظًا على الصحة العامة ونظافة هواء السكن.

 

قبل 5 قرون من ميلاد السيد المسيح ـ عليه السلام، وفي زيارته لمصر تعجب المؤرخ الإغريقي هيرودوت من قيام المصريين بقضاء حاجتهم داخل منازلهم وقيامهم بتناول الطعام في الشوارع والطرقات، كان تلك العادات اليومية مدهشة للإغريقي الزائر لأن كل الشعوب كانت تقضي حاجتها في الخواء! بينما وجد المصريين أن الضرورات القبيحة يجب أن تؤتي في الخفاء، كانت مكان قضاء الحاجة فى نهايات المنازل المصرية القديمة ويطل أيضًا على متسعات مساحية، لدرء هذه المخلفات خارج المنازل فى حفر خارجية من الرمال وفي الشمس.

 

وتأخذنا شهادة الإغريقي إلى كون المصريين أول الشعوب ـ ربما، التي عرفت المرحاض المنزلي وآداب النظافة العامة، والأخيرة تدلل عليها واقعة الكتيبة الطيبية نسبة إلى مدينة طيبة ـ الأقصر حاليًا، ففي القرن الثالث بعد ميلاد المسيح ـ عليه السلام، استعدت كتيبة من الجنود من الأقصر للحرب في أوروبا وغادرت مع تلك الكتيبة فتيات للتمريض وكانت منهن فيرينا تلك العذراء التي علمت سكان جبال الألب النظافة الشخصية والطب الفرعوني، واستقرت ودفنت فى سويسرا.

 

 

لنا ذاكرة وآثار فى النظافة العامة ممتدة منذ أيام المصريين القدماء ومثلما يقول هوجو «تاريخ الإنسانية ينعكس في تاريخ مجاريها»، وعليه فإن المشاهدات الحالية في تدن النظافة العامة وسوء استخدام المراحيض العامة ـ وهو ظاهرة تثير الجدل في مصر من وقتًا لآخر، تثير قلقًا بالغًا حول اضمحلال كبير في السلوكيات والنظافة العامة على الأقل فيما المنشآت العامة.

 

فى سلاملك الأمير يوسف كمال بمدينة نجع حمادي، بقيت غالبية مكونات الحمّام القديم في الطابق الأول باستثناء بعض التلفيات في الجدران ومقابض صنابير المياه التي غيرت بأخري حديثة لا تناسب التصميم القديم، وهذا التغيير أو التلفيات جراء استخدام المبني كمقار لبعض الهيئات الحكومية قبل إخلائه واعتباره أثرًا إسلاميًا حاليًا، اختار المعماري أو السبّاك آنذاك أن يكون خلفية قاعدة المرحاض حديقة السلاملك وفتح نافذة صغيرة ذات مشربية كتهوية مباشرة على الحديقة مع نظام الصرف، ويجاور  قاعدة المرحاض لكن باتجاه علوي علّق صندوق الطرد بالنظام القديم ليكون في متناول مستخدم المرحاض، وكانت قاعدة المرحاض عبارة عن كرسي من الرخام الأبيض مربع الشكل بحجم كبير وله حواف ذو فتحة مستديرة وليس كرسيًا من المستخدم حاليًا.

 

علماء الآثار أمثال لودفيج بورخارت وفلندر بتري عثروا في حفريات أجريت في مطلع القرن العشرين في تل العمارنة بمحافظة المنيا ودير المدينة في الأقصر وسقارة في الجيزة، على

نماذج للمراحيض بمقابر وأيضًا معابد توضح أن كرسي المرحاض بسلاملك الأمير يوسف كمال لم يكن إلا تصميم قديم، ابتكره واستخدمه المصريون القدماء ضمن نظمهم فيما يخص دورات المياه ومكوناتها ونظم الصرف فيها، وعثر على نماذج كراسي مرتفعة عن الأرض بأبعاد متباينة وكان منها ما صنع من الفخار أو الخشب فى هذه الحفائر.

 

ارتبط شكل دورات المياه وإمكانياتها ونظام الصرف فيها، فى القرنين الماضيين،  بالحالة الاقتصادية لملّاك البيوت بطبيعة الحال، في بيوت الطين المشيدة من الطوب اللبن بالقري والتجمعات الريفية كان المرحاض الأرضي.. فتحة في أرضية الحمام مفتوحة إلى باطن الأرض، دون أية أدوات وكانت المياه تجلب بإناء لداخل حجرة المرحاض المبنية سلفًا ووفقا للقواعد القديمة في نهاية المنزل وبزاوية تسمح بتهوية جيدة، وكانت هناك أيضًا حفر متوسطة العمق ذات جدران مبلطة تصرف على غرف أخري خارجية يتم التخلص منها كل فترة يدويًا وهي تقارب الأشكال القديمة للمرحاض التي عثر عليها كوبيل في سقارة وتعود إلى عصر الأسرة الثالثة الفرعونية.

 

يورد الدكتور حسن كمال أنه في سنة 1909 عثر شبابارللي بمقبرة سليمة لصاحبها المهندس (خا) من الأسرة الـ 18 فى دير المدينة بالأقصر على مقعد خشبي لمرحاض مهذب كثيرًا يشبه المقعد الحالي سطحه مقعر وبه فتحة مستطيلة ووصفه شبابارللي أنه أول مرحاض عثر عليه في مقبرة مصرية قديمة، وعثر على كرسي مرحاض من الفخار بالقرب من دير المدينة بالأقصر في حي العمال من عهد الأسرة الـ 18 تمتاز فتحته بأنها شبه دائرية وتختلف عن سابقاتها بوجود شق عريض أمامًا، هذا الشق إجراء صحي للغاية لكنه أضعف كثيرًا من قوة احتمال المقعد، لأن المقعد مصنوع من مادة قابلة للكسر، وقد حاول الصانع تعويض ما فقده المقعد من قوة الاحتمال نتيجة لذلك فقوي الجانبين بدعامات.

 

يضيف كمال في كتابه «الطب المصري القديم» أن الخشب لم يكن رخيصًا بمصر وقتئذ، لذلك صنع متوسطو الحال مقاعد مراحيضهم من الطوب اللبن المحروق  الرخيص في متناول يد الجميع.  

 

لم يكن المرحاض بشكليه الحاليين الأرضي والمرتفع سوي فكرة ابتكرها المصريين القدماء تطورت عبر الزمن لتأخذ الأشكال المعروفة حاليًا وبمواد صناعة متينة تتحمل بيئة المكان، كما ارتبط وصول هذا التطور إلى السكان حسب حالتهم الاقتصادية ومدي انفتاحهم على المستجدات الواردة كل فترة زمنية بفعل الحداثة.

 

وهذا ما يشير إليه رأفت رزيقي مقاول سباكة، يقول إن أشكال المراحيض الملحقة بالحمامات المنزلية أو المستقلة اختلفت وتنوعت إلا أن القاعدة القديمة في اختيار آخر مكان في المنزل لإقامة غرفة المرحاض، ظلت باقية وحاكمة لاختيار غرفة المرحاض كعرف قديم لدي أرباب الصنعة مراعاة للتهوية، ويضيف إقامة المرحاض والحمام كانت تتم حسب الحالة الاقتصادية لملاك المنزل.

 

ويشرح رزيقي بعض النماذج.. قبل إمداد المنازل بشبكات المياه النظيفة والاعتماد على صنبور المياه العمومي في الشارع لكل السكان، كان المرحاض فتحة في باطن الأرض (الحمام الأرضي) مثبت عليها قاعدة من الجس فى البيوت العادية وكانت المياه تجلب بإناء، ويضيف في بيوت أخري كان يوجد حمام أرضي ومعه محلق وهو كرسي متنقل من الخشب الذي يصنعه النجاّر بفتحة دائرية في منتصفه ليأخذ شكل مقعد المرحاض الحالي، وكان هذا المقعد الخشبي المتنقل هو رفاهية ويشير إلى حالة اقتصادية أفضل حالًا.

 

ويضيف بعد دخول المياه للمنزل، بدأت تغييرات مرتبطة بالحالة الاقتصادية للسكان، يشرح تم إمداد غرف المراحيض بمصدر مياه كالصنابير، وفي بيوت الطبقات الثرية كان يُركب صندوق الطرد المعلق في الحائط «السيفون» مع إمداد الغرفة نفسها بالقاشاني في تطور لاحق.

 

«السباكة سرطان العمارة» مقولة تحذيرية يحرص على ترديدها السباكين أمام الزبائن لإقناعهم باتباع القواعد والأعراف القديمة في اختيار مكان غرفة المرحاض أو الحمام، وهي تشرح نفسها وهى كفيلة باتباع أعراف المصريين القدماء!