رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

إصلاح "الصحة".. بين الممكن والمستحيل

د. إسماعيل سلام
د. إسماعيل سلام

الحقيقة الأولى: إن مفهوم الصحة ليس فقط المريض والمستشفى.. فالصحة أكبر من ذلك فى أنها مفهوم يمتد للوقاية بمفاهيم شاملة، وإنماء الرصيد الصحى للمواطنين، وتشمل أيضاً السياسات السكانية وخصائصها كجزء لا يتجزأ من السياسات الصحية.. وفى النهاية تأتى الصحة العلاجية والسياسات الدوائية.. فلا عجب إذن أن ترى أن الإنفاق الهائل الذى تنفقه الولايات المتحدة مثلاً على الصحة لم يأتِ بالنتائج المبهرة التى تدفع بها إلى أعلى قائمة الدول فى الصحة بل على العكس، فهى تأتى فى ترتيبها بعد كثير من الدول متضمنة النامى منها! ذلك لأن التوجه فى الولايات المتحدة يركز على العلاج والخدمات العلاجية، وهو ما يمثل فقط حوالى ٣٠٪ من الرعاية الصحية، ولا يتطرق بنفس القوة إلى مفاهيم الوقاية وتنمية الصحة التى تشكل بدورها الجزء الأعظم من مفهوم الصحة.. وليس بالغريب، أيضاً، أن يكون النموذج الأوروبى الممثل فى طبيب الأسرة والخدمات الوقائية المتكاملة دافعاً لهذه الدول لتتبوأ قمة الهرم فى المكاسب الصحية..

● الحقيقة الثانية: إن أسبقية الإصلاح الصحى كضرورة ملحة ليست عطفاً بهدف المساعدة أو إحساناً لغير القادرين، ولكنه حق من حقوق المواطن.. وإذا كان الفقراء يعانون فى الغذاء والتعليم والمواصلات.. فذلك كله قابل للجدولة والتأجيل.. أما الصحة والحاجة إليها فلا تحتمل التأخير أو التأجيل.. ويكفى أن أشير إلى أنه بالرغم من أن الصحة حق من حقوق المواطنين التى كفلها الدستور.. فإنّها كانت حقاً متراجعاً حتى جاء الإصلاح الصحى الذى مكن غير القادر من حقه فى الصحة والعلاج..

ولو وضعنا ذلك فى قالب سياسى، فأى حكومة تريد أن تُحسِّن صورتها السياسية من خلال قوة إنجازاتها فيما تقدمه أو قدمته لغير القادرين.. ليس فقط لأنهم الأغلبية ولكنهم المحرك السياسى فى داخل الحراك الشعبى.. وعلينا أن نتفهم أن العولمة سلبت الكثير من هؤلاء مزايا حد العيش حتى الأدنى منه، وتسببت فى زيادة معاناتهم.. فلا بد إذن أن تكون هناك أدوات أو سبل للمصالحة مع الفئات الفقيرة والبسيطة وغير القادرة بالمجتمع.. وعلى رأس تلك الأدوات تأتى الصحة دون منازع.. فالدولة حين تقدم الرعاية الصحية والعلاج، فإنَّ له ترجمة مضافة فى نفس المريض البسيط، وهو أن الدولة «تهتم.. ووقفت بجانبه فى شدته ومحنته»..

● الحقيقة الثالثة: إن خلق استراتيجية فعالة للصحة تأتى من إشراك المجتمع ككل، والاستماع الجيد إليه، ومعايشة مشاكله حتى تجىء الاستجابة والحلول والبرامج معبرة عن الاحتياجات الفعلية لغير القادرين فى المقام الأول.. وبحيث يشعر الجميع أنهم مشاركون إن لم يكن بالفكر والجهد.. فبالحلم الذى يراودهم.. ثم مشاركون أيضاً فى وضع الصورة النهائية للسياسات والبرامج التطبيقية لاستراتيجيات الصحة والسكان..

لقد شارك معنا البرلمان وتكاملنا مع الوزارات الأخرى ذات العلاقة فى تعاون منقطع النظير وكان هناك أيضاً المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية والجهود الشعبية والخبراء بالداخل والخارج.. وعند بدايتى كان الخبراء من المانحين يحضرون إلى فندق خمس نجوم، ومن خلال مؤتمر منعقد يقررون السياسات والبرامج المقرِرة للمنحات.. وقررت أن يعيش الخبراء واقعنا ونقلنا الخبراء ومؤتمراتهم إلى البحيرة وأسوان وكفر الشيخ وقنا، وغيرها حتى يلمسوا الواقع.. وكم تغيرت الرؤى عندما شاهد الخبراء الواقع المصرى بحلاوته ومرارته وعندما استعرض المصريون خبراتهم..

● الحقيقة الرابعة: إننا لم نبدأ من الصفر.. بل كانت خريطة العمل تتضمن الإيجابيات مثلما تتضمن السلبيات.. حيث نبنى فوق الإيجابيات، ونعظم دورها فى النظام الصحى فى الوقت الذى نجد فيه الحلول المناسبة لعلاج السلبيات.. وبالطبع لا يمكن أن يكون هناك نجاح لأى إصلاح فى أى قطاع ما لم يكن له اقتصاديات محكمة وممكنة، وبديهى أن ذلك أحد المقومات الأساسية للنجاح..

وقامت فلسفة الإصلاح الصحى على إزالة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية.. فلا يعقل ألا يحصل المواطن على الخدمة الصحية المطلوبة لأنه فقير.. أو أن تكون المحافظات النائية والقرى والنجوع أقل حظاً فى الخدمة عن المدن.. ومن غير المقبول أن تتركز الخدمة الصحية فى العواصم فقط.. وأيضاً لا يمكن أن نغفل متطلبات صحة المرأة والطفل والمسن وذوى الاحتياجات الخاصة..

وشملت محاور تجربة الإصلاح الصحى فى مصر محاور ستة غيرت وجه الصحة فى مصر:

● أولاً: التنمية البشرية: وتجىء فى مقدمة المحاور.. والإنسان المصرى وطاقاته الكامنة مثله مثل الماس عندما يُستخرج لا ترى لمعانه.. فإذا صقل ازداد بريقه وقيمته.. وتفجرت الطاقات الكامنة لديه وأبدع.. وهنا يأتى دور الإعداد والتدريب والتنمية البشرية..

● ثانياً: إيجاد وخلق مصادر التمويل.. وتقليل الفاقد فى الخدمة وتحسين الأداء من خلال نظم التمويل الذاتى.. وأيضاً من خلال خلق إدارات لا مركزية للمستشفيات التخصصية.. وتطوير نظام العلاج الاقتصادى بالمستشفيات والوحدات الصحية.. وكذا تعظيم الاستفادة من الدول المانحة.. وقد أثبتت التجربة أن تقديم استراتيجيات واضحة المعالم وقابلة للتنفيذ كانت ضامنة لتعاون الجهات المانحة والوزارات المعنية بل وتحمسها لذلك. ثم كان لتشجيع الجهود الذاتية والتبرعات الأهلية الدور المرموق فى تنمية الصحة والخصائص السكانية..

● ثالثاً: إعادة صياغة وهيكلة الخدمة الصحية ومستوياتها.. وإدخال طبيب الأسرة كحجر الزاوية فى السياسة الصحية.. والربط بين الخدمة الصحية وصحة المرأة وتنظيم الأسرة.. يضاف إلى ذلك النظرة الشاملة للتأمين الصحى.. وهو لا شك المحطة النهائية التى يعمل الجميع من أجلها الا أن تطبيقه يحتاج سنوات طويلة ويتطلب أيضاً إعادة تأهيل البنية الأساسية كى تهيئ المناخ والأداء المناسبين لتطبيق التأمين الصحى الشامل..

● رابعاً: إصلاح البنية الأساسية للمنشآت الصحية بوزارة الصحة والسكان.. ووضع برامج تحدد أولويات الإنفاق لتعظيم استفادة غير القادرين.. وإعادة تأهيل البنية الأساسية القائمة بالفعل..

● خامساً: التنمية المؤسسية لوزارة الصحة والسكان، وتحسين جودة الخدمات والمهارات.. وقد أنشئت إدارة الجودة.. وتم وضع معايير الأداء لمستويات الخدمة للهيئات والمؤسسات التابعة للوزارة سواء للأخصائيين أو العاملين بها، وتم ربط برامج

الجودة بنظام معلومات متكامل لمتابعة الأداء والالتزام بالمعايير.. وتم، أيضاً، تفعيل الدور الرقابى لوزارة الصحة على المنشآت والأفراد من مقدمى الخدمات الصحية خارج نطاق الوزارة..

● سادساً: السياسات الدوائية التى كانت ويجب أن تكون جزءاً من سياسات الإصلاح الصحى بحيث تهدف الدولة إلى توفير الدواء، وخاصة الأدوية الأساسية للمواطن بأسعار مناسبة.. إلا أن المتغيرات العالمية والمشاكل المحلية أصبحت تؤثر بصورة كبيرة على الدواء.. هذا وسنفرد مقالاً آخر للحديث عن ذلك..

تجربة الإصلاح الصحى فى مصر

لقد استطاعت التجربة الرائدة للإصلاح الصحى فى مصر، أن تسجل نجاحاً للسياسات الوقائية والسكانية.. وكل سنة أُضيف عاماً لمتوسط عمر الفرد فى مصر كأحد مؤشرات الرعاية الصحية. وانخفضت الإصابة بالأمراض المعدية.. وكان «إسهال الصيف» وهو أحد مسميات الوزارة «للكوليرا» وباءً متوطناً فى الشرقية والقليوبية والفيوم وسوهاج فى ذلك الوقت.. وانتهى إسهال الصيف الذى كان يقتل المواطنين بفضل الخبرات فى الطب الوقائى والذين تفانوا فى أدائهم، وأصبحت مصر نظيفة بعد رحلة كفاح من العاملين.. وللتاريخ لم يكن إدارة ومكافحة الوبائيات تتم من خلال الأساليب العادية بل كان الجميع وكل القيادات تنزل إلى القرى الموبوءة.. وعندما تكتشف أى حالة تتحرك الفرق بخطط مدروسة تشمل إنشاء رعاية مركزة فى أى مستشفى قروى خلال ٢٤ ساعة كإجراء طوارئ.. وإحضار المياه النقية بمعاونة القوات المسلحة خلال ساعات.. ويوزع على كل منزل متطلبات الوقاية.. وهكذا سادت روح الجدية والإصرار فى الأداء ولم نفقد مريضاً واحداً، وتغيرت خريطة الأمراض المعدية بمصر وتبنت الوزارة أيضاً أحدث الأساليب فى مكافحة التدخين وأمراض العصر.

وعندما بدأنا الإصلاح الصحى كانت وفيات الأمهات عاراً على جبين الخدمة الصحية.. وكانت نسبة وفيات الأمهات فى الوجه القبلى ضعف مثيلتها فى الوجه البحرى.. وفى أربع سنوات انخفضت وفيات الأمهات ٥٨٪.. وأكثر من هذا صارت وفيات الأمهات فى الوجه القبلى أقل أى أفضل من الوجه البحرى.. وانخفضت الزيادة السكانية وتراجعت الوفيات.. وفى هذا المقام أشيد بالفريق الصحى المصرى الذى امتدت جهوده فى كل أنحاء مصر، وساهم بإبداعات جديدة تحمى مصر من الوبائيات والأمراض المعدية.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النجاح المبهر فى الصعيد يعزو إلى تفانى الفريق الصحى بالوجه القبلى، وهو الأكثر احتياجاً. ولقد شاهدت تفوقاً وإبداعاً جعلنى ازداد ثقةً ويقيناً من تفوق الإنسان المصرى.. وأذكر عند مرورى فى إحدى قرى أسوان مع وزيرة الصحة الأمريكية، وشاهدنا فريق العمل قد صمم خريطة الصحة الإنجابية للقرية شاملة كل سيدة وموقفها من تنظيم الأسرة بل ودار حوار بين السيدات فى الصعيد مع الوزيرة، وتكلمن حول ما تعلمنه فى نادى المرأة.. وتحدثت الوزيرة فى كلمتها بمنظمة الصحة العالمية عما شاهدته فى مصر، وقالت أنا أدعو وزراء الصحة للتعلم من تجربة قرى أسوان. وشعرت بالفخر ببناتى وأبنائى وإبداعاتهم. والحقيقة أننى طلبت تعميم كل إبداع جديد فى انحاء مصر.

وفى البداية أيضاً، كان هناك أكثر من ١٠ ملايين مواطن لا تصل لهم أى خدمات صحية منتظمة، ومن أجل ذلك أنشأنا مشروع العيادات المتنقلة. ومع كل إشراقة شمس تتحرك ٤٣٠ عيادة متنقلة إلى القرى والنجوع فى أنحاء مصر صُنّعت فى مصر فى الهيئة العربية للتصنيع بأقل من نصف ثمن المستورد ومزودة بأحدث التجهيزات ويقودها أفضل السائقين وبها الاخصائيون وممرضة ويُدفع لهم أجر يومى عادل. وفى البداية رفضت المعونة الأمريكية تعضيد المشروع، ولكنهم شاهدوا كفاءة العمل والنتائج المبهرة، فحرصوا على مساعدتنا بل ونقلوا الخبرة المصرية للبلاد الأخرى. وفكرت فى عمل مشروع للبلاد الأفريقية لنفس الخدمة يشمل بداية خمس سيارات متنقلة يصحبها الفريق الطبى المصرى، وتحمل علم مصر إلا أننا لم نجد التمويل.

السبت القادم

الحلقة الثانية

مطلوب من الدولة توفير الأدوية الأساسية بأسعار مناسبة

لابد من تطوير البنية الأساسية للمنشآت الصحية وتطبيق التأمين الصحى الشامل