عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

التشهير على «الميديا» سكين على رقاب العباد

بوابة الوفد الإلكترونية

عمر بن الخطاب يفتدى راحة المسلمين بثلاثة آلاف درهم من لسان «الحطيئة»

 

«التلقيح» فى اللغة له أكثر من دلالة، ولكن عندما يستخدمه الناس بمعناه العامى، ويستبدلون حرف القاف بالهمزة ويصبح «تلئيحًا» فهو مستوى فالت من الاختلاف، وهو فى العرُف يعنى تصدير رأى سلبى عن شخص ما دون مباشرة؛ أى «رمى الكلام».

 

وحتى الآن ليس هناك سبب معروف لهذا السلوك سوى أن البعض ليس لديهم القدرة على تحمل مسئولية رأيهم فى البعض الآخر، أو أنهم ليسوا على يقين مما يرمونهم به، فما زال لديهم شعور بأنهم ليسوا كما ظنوا؛ فيذهبون لـ«التلئيح» حتى يستطيعوا الفكاك فى لحظة المواجهة، فيتنصلوا مما رموا من كلمات، ويقولون لمن يهمه الأمر بكل بساطة: «لست أنت الشخص المقصود».

أنا أرى وأظنكم تتفقون معى أن «التلئيح» نوع من الهجاء، ولأن كل سلوك بشرى هو فى تطور طالما يتطور البشر، فقد استطاع هذا «التلئيح» أن يطور من نفسه كثيرًا فى الأونة الأخيرة، ويصبح ذا قوة وسلطان، وأصبحت الناس تخشاه وتتخوفه، وتتحسس أماكنه كى تهرب منه، فبعدما كان يقتصر على الطرقات وجلسات الأصدقاء، وجد له اليوم وعاءً أكبر حيث الغرف الزرقاء، فيجلس أحدهم خلف لوحة المفاتيح، ويكتب ما يراه فى غيره، ربما بوجهة نظر أحادية، واللافت أن هذا السلوك لم يقف عند هذا الحد، بل تسلق إلى جوانب أخرى كثيرة، فبعدما كان ظاهرة مقصورة على بعض النساء، سطا عليه بعض الرجال، وبعدما كان الأمر لا يزيد على «بوست» فى إحدى صفحات التواصل الاجتماعى، وصل الأمر لتدشين صفحات كاملة يطلقها البعض من أجل وضع سكين التشهير على رقاب آخرين؛ مثل صفحات الألتراس الكثيرة التى أطلقت فى الفترات الأخيرة، والتى قد تخص بعض الوزارات أو المؤسسات، سواء الحكومية أو الخاصة، وعندما تدخل هذه التكلات فاقرأ ولا حرج.

 

والهجاء لا دين له منذ أن عرف الإنسان أثر الكلمة التى قد تقتل نفساً، مثلما حدث مع الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، فى قصة شهيرة نعرفها جميعاً. فكان أغلب أهل الهجاء فيما مضى كفارًا بكل شىء؛ المبادئ والقيم والأخلاق والمجتمع والبشر، وربما كان هذا ما دفع الخليفة عمر بن الخطاب لفداء راحة المسلمين وأعراضهم بثلاثة آلاف درهم من لسان «الحطيئة». بعدما أتقن «الحطيئة» الهجاء حتى خافه الناس، واضطر كل فرد إلى بذل ما فى طاقته لتجنب هجائه، وهو ما أكدت عليه أخباره فى كل أمهات الكتب.

 

شيخ الهجائين ذمَّ أمه وزوجته بالشعر

ولكن ماذا لو حاولنا أن نتفهم الدوافع وراء هجاء «الحطيئة» الذى طال كل منْ هب ودب، من المؤكد أن هذا الشتّام لم تكن سليقته السب واللعان، لكنه بعدما سب مثنى وثلاث ورباع، لم يكن مفر من أن يكتبه التاريخ هجاءً. ولكن ماذا كان ينتظر هذا التاريخ ممنْ سأل أمه: منْ أبى؟ فأجابته: لا أعرف!! فوجد نفسه ينشدها:

تقول لى الضراء لست لـواحـدٍ

ولا اثنين فانظر كيف شرك أولئكا

وأنت امرؤ تبغى أباً قد ضللـتـه

وإذا اعتبرنا أن الأبيات السابقة طعناً فى أبيه أكثر من أمه، فإن أمه «الضراء» هكذا كان اسمها، لم تكن فى الحقيقة أفضل حالاً فى نفسه من أبيه، فقد هجاها صريحاً قائلاً:

تَنَحِّى فَاجْلِسِى عَنِّى بَعِيدًا***أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا

أغربالا إذا اُسْتُوْدِعَتْ سِرًّا***وَكَانُونَا عَلَى المتحدثينا

حَيَاتُك- مَا عَلِمْت- حَيَاةَ سُوءٍ***وَمَوْتُك قَدْ يُسِرُّ الصَّاحِبِينَا

وأنا عن نفسى أذهب إلى ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن هذه المرأة لم تكن أمه الحقيقية، إنما هى التى اعتنت به وقامت على تربيته، لأنه من الأساس لم يُعرف له أصل ولا قبيلة. وربما كان هذا سر توحشه وإقباله على تصوير واقعه بهذا الشكل اللاذع.

 

الحقيقة أن حظ المرأة من أشعار «الحطيئة» كان بالفعل سيئاً، حتى أقربهن إليه فنجده يصف زوجته وصفاً مضحكاً وساخراً ويقول عنها:

لَهَا جِسْمُ بُرْغُوثٍ وَسَاقُ بَعُوضَةٍ***وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْقِرْدِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ

تَبْرُقُ عَيْنَاهَا إذا مَا رَأَيْتَهَا***وَتَعْبِسُ فِى وَجْهِ الْجَلِيسِ وَتَكْلَحُ

لَهَا مضحك كَالْحَشِّ تَحْسِبُ أَنَّهَا***إذا ضَحِكَتْ فِى أَوْجُهِ النَّاسِ تَسْلَحُ

إذَا عَايَنَ الشَّيْطَانُ صُورَةَ وَجْهِهَا***تَعَوَّذَ مِنْهَا حِينَ يُمْسِى وَيُصْبِحُ

والمضحك فى حياة هذا الشاعر أنه فى يوم من الأيام عندما صحا من نومه، لم يجد فيه منْ يهجوه، فنظر فى المرآة وهجا وجهه وقال لنفسه متعجباً:

أَبَتْ شَفَتَاى الْيَوْمَ إلا تَكَلُّمًا***بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِى لِمَنْ أنا قَائِلُهُ؟

أَرَى لِى وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ***فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ

هكذا بعضهم يظل يلعن ويطعن، حتى يكتب عندنا لعاناً، فلم يسلم أحد من لسان هذا القصير الذى اقترب من الأرض. هذا الوصف ليس عنصرية ضد الرجل، إنما هو فرصة أخبركم فيها، أن الناس أطلقوا عليه «الحطيئة» لشدة قصر قامته.

 

وللحطيئة وصيةٌ ظريفة يأتى كل فريق من الرواة ببعضها. مفادها أنه حينما حضره ملك الموت، قال له الناس: أوص يا «حطيئة» للفقراء بشىء؛ قال: أوصيهم بالإلحاح فى السؤال فإنها تجارةٌ لا تبور. قالوا: فما تقول فى أموالك؟ قال: للأنثى من أبنائى مثل حظ الذكر؛ قالوا: ليس هكذا قضى الله لهن؛ قال: لكنى هكذا قضيت. قالوا: فما توصى لليتامى؟ قال: كلوا أموالهم وتزوجوا أمهاتهم. قالوا: فهل تريد شيئاً آخر؟ قال: نعم، تحملوننى على حمارة وتتركوننى راكبها حتى أموت، وتكتبون على كفنى:

لا أحد ألأم من حطيئة***هجا البنين وهجا المريئة

وهكذا ظل إمام الهجائين تاركاً لسانه على الناس يسب هذا، ويشتم ذاك، ثم مات وهو يشتم نفسه.

 

وحتى هنا نكتفى بهذا القدر من أخبار «الحطيئة» ونحمد الله أنه لم يكن فى زماننا هذا،

وأنه لم يمتلك حساباً على «الفيس بوك» أو «تويتر»، وإلا كانت أيام الخلائق سباباً.

ونذهب إلى شاعر آخر امتهن الهجاء أيضاً بل هو شيخهم؛ وهو بشار بن برد، وإذا تتبعنا خبر «بن برد» وجدناه مثلما اتفق الجميع أنه «كان دميم الخلقة، أعمى، طويلًا، ضخم الجسم، عظيم الوجه، جاحظ العينين، تغشاهما لحم أحمر، فكان قبيح العمى، مجدور الوجه». أشهد الله أن هذا ليس تنمراً منى ضد الرجل، ولكن هكذا وصفه «الجاحظ» وأنا فقط أخبركم بما قال. وبالتأكيد نحن لا نكذّب الجاحظ، خاصة عندما يمتلك أدلة على ما يسوق لنا من أخبار، ومن هذه الأدلة أن «بشار» ضُرب به المثل فى قباحة العينين، فكانوا يقولون: «كعين بشار بن برد».

 

لقد راح «بن برد» هذا ضحيةً للسانه وكذلك خفة ظله، فعلى الرغم من أنه كان من المقربين للخليفة «المهدى»، إلا أنه لم يهدر فرصة للتندر والسخرية فى حضرته حتى من خاله يزيد بن منصور الحميرى، حين دخل «الحميرى» يوماً على «المهدى» فرأى ابن برد ينشده قصيدة فى مدحه، فلما انتهى، سأله: «يا شيخ؛ ما صناعتك؟»، فأجابه الشاعر: أثقب اللؤلؤ! فضحك الخليفة، ولكنه نهره قائلاً: ويلك! أتتندر على خالي؟ فقال: وما أصنع به؟ يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً، ويسأله عن صناعته!!

 

صحيح أن علاقة بشار بن برد بالخليفة المهدى ساءت حتى أن حياته انتهت على يديه بعدما أمر بضربه سبعين سوطاً، إلا أنه إحقاقاً للحق لم يكن خال الخليفة هو سبب سوء الفهم بينهما أبداً، إنما بدأت علاقتهما تأخذ منحنى متوتراً بعدما نقل إليه العالمون ببواطن الأمور، وما أكثرهم، بيتين كان قد أنشدهما شاعرنا فى نصح شاب أعياه الغرام فى فتاة محجبة، فنصحه بشار قائلاً:

لا يؤيسنّك من مخبأة

قول تغلظه وإن جرحا

عسر النساء إلى ميأسرة

والصعب يمكن بعدما جمحا

ومن حظ ابن برد السيئ أن الشاب اتبع نصيحته، فثابر فى سعيه وراء الفتاة، وما زاد حظه سوءاً أن الفتاة أجابت الشاب، فكافأ المغرم الشاعر بمائتى دينار. وعندما سمع المهدى بذلك، استدعاه واستنشده ما قال، فلم يخجل ابن برد من فعلته، بل اعترف بها للخليفة، فغضب عليه «المهدى» وشتمه، وقال: أتحض النساء على الفجور يا ابن برد، وتقذف المحصنات المخبآت؟ ثم قطع عنه عطاءه، فاغتاظ الشاعر، وهجا الخليفة فى قصيدة شهيرة. أنشدها أمام يونس النحوى، الذى لم يكذب خبراً وذهب بها إلى وزير الخليفة يعقوب بن داود يخبره، والذى بدوره أخبر الخليفة، لكنه لم يخبره الأمر هكذا ببساطة، إنما تلاوع وتلاءم، حتى أنه قال للخليفة أن ضرب عنقى بالسيف لهو أهون علىّ من أن ينطق لسانى بما تقوّل به ابن برد عليك يا مولاى، وفى الواقع أن القصيدة بالفعل كانت تحمل من الفجر ما تعفه الأُذن ويحرمه اللسان. على كل حال فى النهاية وصل الخليفة مع وزيره إلى حل وسط، وهو أن يكتب الوزير ما سمع ولا ينطق به، وعندما قرأ «المهدى» هجاء الشاعر فيه وفى أهله، ذهب إلى البصرة للنظر فى أمره. فاكتملت الطين بلّاً، حيث سمع المهدى أذاناً فى ضحى النهار، فسأل عن ذلك، فأخبروه أن بشاراً يؤذن وهو سكران، ففاض الكيل بالخليفة وأمر بضربه سبعين سوطاً: فكان إذا أصابه السوط صرخ: «حس! حس!»؛ وهو ما تقوله العرب للشىء إذا أوجع. فقالوا له: لماذا لا تقول بسم الله؟ فقال: ويلكم! أهو طعام أسمى عليه؟ فقال له آخر: أفلا قلت الحمد لله؟ قال: أهى نعمة أحمد الله عليها؟ وظلوا يجلدونه حتى مات. فأخرجت جنازته، فما تبعه أحد غير جارية سندية عجماء.