رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

إفطار المصريين فوق طاقة الغلابة

بوابة الوفد الإلكترونية

فى إحدى زوايا شارع السودان بالمهندسين، انزوى حسان السيد، يفترش أمامه عددًا من أقراص الطعمية على ورقة وثلاثة أرغفة.. يحاول الرجل الأربعينى تناول وجبة الإفطار فى عُجالة استعدادًا لبدء يومه الشاق، ما إن تقترب منه حتى تجد ملامحه: وجه شاحب.. جلباب رثّ.. جسد نحيل، يحاول أن يسد جوعه بقليل من أقراص الطعمية و الأرغفة الثلاثة، التهمها بسرعة ليجلس فى انتظار من يطلبه للعمل.

عقارب الساعة تدق السابعة صباحًا.. جاءت سيارة ربع نقل خرج منها «ريس العمال» الذى بدأ ينتقى عددًا من العمالة المنتشرين على الرصيف.. يحاول «حسان» أن يظهر أمامه حتى يختاره، وهو ما حدث بالفعل.

«فطارنا عليك يا كريم».. قالها باقتضاب شديد صابر خلف الله، حزنًا على عدم اختياره ضمن العمال الذين خرجوا فى السيارة، وبالاقتراب منه حاول العامل الامتناع عن الحديث لضيقه الشديد، وقال: «والنبى يا استاذ أنا مش ناقص كفاية عيالى النهاردة مش هيلاقوا حتى الفول والطعمية».

هكذا أصبحت وجبة الفول والطعمية «عزيزة» على المصريين، فبعد ارتفاع أسعارهما أصبح الحصول على ساندوتش فول أو طعمية مشكلة تواجه عددًا كبيرًا من المصريين، فقد كانت هذه الوجبة أساسية على الإفطار، وأحيانا على الغداء أيضا لعدد كبير من الأسر، ولكنها الآن باتت غالية إلا لمن استطاع إليها سبيلا.

فالعامل حسان السيد ليس وحده من يعتمد على بضعة أرغفة من الخبز وعدد قليل من أقراص الطعمية، ليسد به رمقه ويستعين بها على يوم العمل الشاق، إنما هناك الآلاف من أمثاله الذين يعتبرون هذه الوجبة هى «مسمار البطن» الذى يقيهم شر «قرصة» الجوع طوال النهار.

وكما أن هذه الوجبة هى وجبة الغلابة فهى أيضا إفطار كل المصريين سواء كانوا من الفقراء أو أبناء الطبقة الوسطى وحتى الأغنياء، لذلك تنتشر المطاعم الخاصة بهم فى كل مكان، ولكن القاسم المشترك الأعظم بينها الآن هو ارتفاع الأسعار، وهو ما يؤكد أن إفطار المصريين جميعا أصبح فى خطر.

«العمل رزق وكل فرد لا يحصل إلا على المكتوب له»، بدأ العامل صابر خلف الله حديثه معنا قائلا: أن الغلاء جعل وجبة الفول والطعمية «حمل» ثقيل، فأسرته المكونة من 4 أبناء وزوجته يحتاجون إلى 40 جنيهًا للإفطار على الأقل «وكل واحد يأكل قرصين طعمية ومش بيشبع».

واستكمل الرجل الأربعينى حديثه قائلا: إنّ يوميته 150 جنيهًا يصرف منها 50 جنيهًا للفطار والغداء أثناء العمل، و40 جنيهًا لإفطار الأسرة فماذا يتبقى لتوفير باقى الوجبات لهم وتعليمهم وعلاجهم؟

 

وجبة تاريخية

وتعد الطعمية واحدة من أشهر الأكلات الشعبية فى مصر التى يمتد تاريخها إلى عصر الفراعنة، حيث ظهرت على نقوش المقابر فى وادى الملوك، وهى مصنوعة من مدشوش الفول والخضراوات، ولا تخلو المائدة منها حتى فى شهر رمضان المبارك، ونظرا لإقبال كل طبقات الشعب المصرى عليها حملت أسماء عديدة منها «كباب الغلابة» كما أطلق عليها أبناء الطبقات الراقية مؤخرا اسم «جرين برجر». كما تعرف أيضا باسم الفلافل وهى كلمة قبطية الأصل « فا.. لا.. فل» وتعنى ذات الفول الكثير.

ومع انتشار الطعمية المصرية فى العديد من البلدان حاول البعض نسبها إليهم مثل سوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن، فالسوريون مُصرون على أنها أكلة شامية منذ 4 آلاف سنة وأساسها الحمص والخضروات وليس الفول، والفلسطينيون واليمنيون والعراقيون يدعون أن الفلافل تعود أصولها إليهم وتقلى فى زيت زيتون، وأنها نشأت فى أرض ما بين النهرين، أما اللبنانيون فقد صنعوها من الحمص والفول معا.

وبغض النظر عن الأصول التاريخية فقد أصبح الفول والطعمية من أشهر الأكلات الشعبية المصرية الأساسية التى لا غنى عنها، إلا أن حالة الغلاء التى تلاحق أسعار السلع فى مصر أصبحت تهدد هذه الوجبة أيضا، فـ«شقة» الفول أو الطعمية وصلت لـ3 جنيهات وفى بعض المناطق الراقية تقدم بـ10 جنيهات، وقرص الطعمية بجنيه، وقد يصل إلى 5 جنيهات فى بعض المناطق الراقية، الأمر الذى انعكس على عدد كبير من المصريين، فوجبة الإفطار لفرد واحد فى منطقة شعبية تصل إلى 15 جنيهًا، وإذا كانت أسرة مكونة من 3 أفراد قد تصل إلى 50 جنيهًا خاصة بعد وصول سعر رغيف العيش إلى جنيه ووزنه لا يزيد عن 90 جراما.

«حتى ريحة الطعمية راحت».. يروى أحمد جمال، رجل خمسينى، تفاصيل الحياة فى السبعينات قائلا: إنّ ريحة الطعمية كانت «تقلب» الشارع كله لما بتطلع من الطاسة، وتابع: «طلب الفول والطعمية والبطاطس والبيض كان لا يزيد عن 5 جنيهات.. وصل الآن إلى 20 جنيه ولا ليه طعم ولا ريحة».

يستكمل الرجل الخمسينى حديثه مشيرا إلى إنّ الكثير من أصحاب محلات الفول والطعمية يضيفون ألوانًا على الأطعمة لتحقيق مكاسب مالية، فضلاً عن الكركم وبعض التوابل التى تزيد من حجم الفول داخل القدرة ولهذا ريحة الفول والطعمية تغيرت.

 

عربة الفول

على بعد أمتار من محطة مترو المرج الجديدة، وجدنا عربة فول يحتشد بجوارها العشرات من الشباب والرجال يتناولون وجبة الإفطار فى جو أسرى، يقبض البائع بيديه على كبشة الفول ويقوم بحركات استعراضية لجذب أنظار المارة، رائحة الطعام تفوح فى المكان.

«التكاليف عليت علينا كلنا كبائعين على عربيات فما بالك بأصحاب المحلات».. قالها شريف راغب، ردًا على سبب ارتفاع سعر «شقة» الفول لـ3 جنيهات ثم إلى 4 ووصولها لـ10 جنيهات فى المناطق الراقية، مشيرا إلى أن سعر طن الفول وصل إلى 19 ألف جنيه، وأوضح الشاب الثلاثينى أن التكاليف أصبحت كثيرة منها 100 جنيه أسطوانة البوتاجاز، فضلاً عن ارتفاع أسعار الزيوت والتوابل، لذلك أصبح البائع مجبرًا على رفع سعر طلب الفول لـ15 و20 جنيهًا.

 

حيل شيطانية

قال عارف السيد، صاحب محل فول وفلافل، بمنطقة جاردن سيتى، إنّ سعر ساندوتش الفول أصبح خمسة جنيهات، وذلك بسبب ارتفاع متوسط سعر طن الفول البلدى بسوق الجملة إلى 20 ألف جنيه مقابل 14500 جنيه قبل الزيادة، ويباع كيلو الفول المستورد ما بين 24 و26 جنيهًا، وكيلو الفول البلدى ما بين 28 و32 جنيهًا، والمدشوش ما بين 23 و25 جنيهًا للكيلو.

ونوه البائع بأن سعر طن الفول المستورد فى سوق الجملة يصل إلى 10 آلاف جنيه بعد أن كان 9 آلاف جنيه قبل الزيادة، ويتراوح سعر كيلو الفول المستورد فى الأسواق بين 14 و16 جنيهًا، ويتراوح سعر طن الفول البلدى حاليا بين 20 و24 جنيهًا، وكل هذا كان سببًا فى ارتفاع أسعار ساندوتش الفول خلال الشهور الماضية.

وتابع:«طبعا الكلام ده غير مصاريف إيجار المحل والعمالة والكهرباء والمياه.. هنجيب ده كله منين مهو لازم نعوض».

وبشأن بعض المحلات التى قررت عدم منح الزبون المخلل مجانًا مع الساندوتش ودفع 3 جنيهات قيمة كيس المخلل، رد قائلاً، إن تلك الحيلة لجأ لها أصحاب المحلات لزيادة أرباحهم، مشيرا إلى أن هناك محلات تحقق أرباحًا تقدر ب3 آلاف جنيه مكسب يوميًا من بيع المخللات فقط وهذا ما جعل غيرهم يفكرون بنفس الطريقة.

«صاحب المحل مبيغلبش.. والزبون الضحية»..

قالها جمال صادق، صاحب محل فول وفلافل بمنطقة الإسعاف، مشيرا إلى أن هناك العديد من الحيل التى من خلالها يتمكن صاحب المحل من تحقيق مكاسب مادية بعد ارتفاع سعر الفول، منها خلط الفول والفلافل بالأرز والعدس والخبز، بحيث تكون داخل القدرة الواحدة ما بين الثلث والثلثين أرز وعدس وخبز، كما أن بعض أصحاب المحال يقومون ببل الخبز وفرمه مع الفلافل حتى لا تشرب كمية كبيرة من الزيت.

الطعمية الأورجانيك تُثير سخرية «السوشيال ميديا».

الطعمية الأورجانيك.. هاشتاج استطاع تصدر التريند خلال الشهور الماضية بعدما تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعى فاتورة وجبة فول وطعمية بـ 1200 جنيه فى أحد مطاعم الساحل الشمالى.

وورد فى الفاتورة التى أثارت سخرية ملايين من رواد «السوشيال ميديا» أن سعر طبق الفول العادى 50 جنيها، وفول بالزيت الحار 60 جنيها، كما بلغ سعر 3 أطباق باذنجان 160 جنيها، و10 أرغفة بـ 30 جنيها.

وفى بعض أحياء القاهرة والجيزة تباع وجبة الفول والطعمية بأسعار خيالية خاصة فى التجمع الخامس والزمالك والشيخ زايد وتتراوح قيمة الوجبة ما بين 300 إلى 600 جنيه.

 

تجريف الأراضى

تعليقا على ارتفاع أسعار الوجبة الشعبية رقم 1 فى مصر قالت الدكتورة وفاء على، الخبيرة الاقتصادية، إنّ هذه الوجبة شكلت لنفسها ثقافة خاصة استمدت قوتها من طبيعة حب المصريين لها، ومن ارتباط أشكالها بذكريات وتجمعات أسرية، وارتباطها الوثيق بالشهر المعظم منذ عصر الفاطميين مما جعله يأخذ حظه من حياة الشعب المصرى، كما أن لها نصيبًا من الأمثال الشعبية وفولكلور حياة هذا الشعب العظيم، حتى عندما تطورت المجتمعات تم تعليب الفول وأصبح القدر الصغير موجودًا فى معظم البيوت التى تقوم بتدميس الفول خاصة فى شهر رمضان المعظم.

وأضافت الخبيرة الاقتصادية: أن الفول المدمس جزء من تاريخنا منذ الفراعنة وما زال بطل الموائد ومع زيادة عدد السكان أصبح استهلاك مصر من الفول البلدى كبيرا خصوصاً أننا نستورد أكثر من ٧٥ % من احتياجاتنا منه طبقا لبيانات عام ٢٠٢١ لتبلغ قيمته حوالى ١٨٠مليونًا و٧٣ ألف دولار مما يضغط على العملة الصعبة وبالتالى يؤثر سلبا على مستوى معيشة المواطن.

وأشارت الدكتورة وفاء إلى أنه نتيجة التعدى على الأراضى الزراعية وتحويلها إلى مبانٍ والاستغناء عن زراعة الفول البلدى انخفض حجم الاكتفاء الذاتى إلى ٣٠% مع زيادة معدل الاستهلاك بسبب الزيادة السكانية المطردة.

وتابعت: تشير البيانات إلى أن حجم استهلاك المصريين من الفول يصل ٧٠٠ ألف طن سنويا، وترتفع كمية الاستهلاك الشهرى خلال شهر رمضان، وتسعى الدولة المصرية إلى زيادة المساحة المزروعة من الفول إلى ٣٥٠ ألف فدان مما يحقق إنتاجا كليا يصل إلى ٤٨٠ ألف طن لتحقيق الاكتفاء الذاتى.

ولكن الدكتور محمود إبراهيم عبدالمحسن، الأستاذ المتفرغ بقسم البقول بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية بمركز البحوث الزراعية، يرى أن تحقيق الاكفاء الذاتى من الفول أمر غير قابل للتنفيذ، لأنه محصول شتوى يزرع من شهر نوفمبر حتى شهر مايو، وينافسه محصولا القمح والبرسيم، مشيرا إلى أن محصول القمح يقدر ما بين 3 إلى 3 ونصف مليون فدان واصفًا إياه بالمحصول الاستراتيجى الذى لا يمكن الاستغناء عنه، ومعه 3 ملايين فدان «برسيم» ليكون إجمالى الأراضى المزروعة بهما 6 ونصف مليون فدان، متسائلاً: «كم يتبقى لزراعة الفول بجانب باقى هذه المحاصيل؟» مؤكدا أن المساحة الزراعية فى مصر لا تكفى لزراعة الفول بالقدر الكافي لتنخفض أسعاره فى الأسواق.

وأشار الكتور عبدالمحسن إلى أن متوسط استهلاك الفرد من الفول سنويا يصل إلى 6 كيلو جرامات، ولكى يتم تحقيق الاكتفاء الذاتى لابد من زراعة ما بين 400 إلى 450 الف فدان على مستوى الجمهورية.

وأوضح الأستاذ بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية أن جميع أسعار الحاصلات ارتفعت بشكل كبير، خاصة مع اعتمادنا على الاستيراد والاكتفاء بتصدير الفواكه، ولكنه أكد أن هناك حلولا للخروج من هذه الأزمة، منها التوسع الرأسى فى زراعة الفول من خلال زراعته بجانب المحاصيل الأخرى فى الشتاء، واستغلال مساحة الأراضى الفارغة فى منطقة النوبارية بالبحيرة والتى تقدر بـ100 ألف فدان.

وتابع: أنه يمكن أيضا زراعة الفول بجانب بنجر السكر والتى تقترب مساحته على مستوى الجمهورية من 700 إلى مليون فدان، كما يجب على وزارة الزراعة إعادة «الدورة الزراعية» مرة أخرى لنتمكن من زراعة الفول بجانب الحاصلات الزراعية الاخرى، وعودة قوة الجميعات الزراعية، وأخيرًا تولى الدولة مسؤولية استيراد وتصدير الحاصلات الزراعية، فما يحدث الآن هو قيام التجار بشراء المحاصيل من المزارعين بـ«تراب الفلوس» ويقومون بتصديرها بأسعار عالية، أو استيراد المحاصيل المطلوبة فى السوق المصرى وبيعها بالأسعار التى تحلو لهم.