رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الجمهورية الجديدة.. التاريخ والمعاصرة (1 – 4)

بوابة الوفد الإلكترونية

هل تحمل الدولة الجديدة تغييرات جذرية فى طبيعة النظام السياسى ومؤسساته؟

هل تستفيد التجربة المصرية من تجربة شارل ديجول فى إعادة بناء فرنسا؟

ديجول أعاد الاستقرار والاستمرار لفرنسا والسيسى وأنقذ مصر من شبح الحرب الأهلية

التحول الاقتصادى والاجتماعى والاستقلال السياسى أهم أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة

إحياء الدولة الفرنسية تم رغم معارضة تيارات الداخل ومقاومة الدول الأجنبية

«معًا نمضى ثباتا نحو بناء الجمهورية الجديدة، مستعينين بعون الله ودعمه وتحيا مصر وتحيا مصر.. تحيا مصر».. بهذه الجملة الحماسية المحملة بالمعانى والإشارات العديدة، والمفعمة بروح القوة والتفاؤل والوطنية والمبشرة بمستقبل مفتوح أكثر حداثة وتجددا ورحابة، اختتم الرئيس عبد الفتاح السيسى قراره بإعلانه إلغاء حالة الطوارئ، والتى عانت منها مصر لعقود طويلة باستثناء عدة شهور متقاطعة....فما هى هذه الجمهورية الجديدة؟

الحقيقة ان تصريحات الرئيس المتعددة خلال الشهور الماضية أكدت مرارا على اقتراب ما أسماه بميلاد الدولة الجديدة، مع الإشارة إلى ان افتتاح العاصمة الادارية الجديدة سيكون بمثابة الاعلان عن قيام الجمهورية الثانية المولودة من رحم ثورة الشعب العظيمة فى 30 يونيو.

ومع هذ التصريحات تعددت التساؤلات المطروحة حول مفهوم هذه الجمهورية الجديدة، وتنوعت الاجتهادات فى محاولة للوصول إلى تحديد مفهوم واضح للمصطلح الذى أطلقه الرئيس، وبيان دلالاته ومآلاته، وماهى ملامح الهوية وشرعية التأسيس وانعكاسات ذلك على العلاقة بين السلطة والمجتمع.؟

وفى إطار محاولة الاجتهاد والتفسير اقتصر البعض المسألة على أن المصطلح هو مجرد إشارة لمسألة الانتقال للعاصمة الادارية الجديدة، بينما اشار البعض الاخر إلى انه تعبير عن مكونات النهضة التنموية التى تشهدها مصر فى ظل حكم السيسى، وربط تفسير ثالث المسألة بالتزام الدولة بسيادة القانون واستعادتها لهيبتها فى مواجهة فساد القلة، بينما شدد تفسير رابع على أن المصطلح يعكس الإشارة إلى اهتمام الرئيس بأولويات العدالة الاجتماعية وكفالة الحياة الكريمة للأغلبية العظمى من الشعب، والتى عانت من التهميش والفقر عبر العديد من المبادرات الهامة مثل «حياة كريمة « و»مائة مليون صحة «، بينما قال تفسير خامس بأن المصطلح بيان للحظة الفارقة فى إنقاذ الدولة المصرية من السقوط فى هاوية الحرب الاهلية، وحماية ترابها وشعبها من التفتت والانقسام.

والحقيقة وكما يقول علماء الفقه ان العبرة بالمعانى لا بالألفاظ والمبانى، وكما يفسر علماء التحليل السياسى طبيعة الأنظمة السياسية الجديدة بالاستناد لمجموعة التفاعلات المجتمعية المتعلقة بالقيم أو صنع السياسة العامة، فإن كل هذه الاجتهادات المختلفة تتضافر لتبدو مخرجات طبيعية لمدخلات ثورة 30 يونيو ولنهج الحكم والممارسة خلال فترة الرئيس السيسى.

وإذا كانت كل التفسيرات والاجتهادات تدور كلها فى سياقات الماضى ولا تتجاوز فى معظمها الحاضر، فان السؤال الأهم هو ما يتعلق بالمستقبل، هل ستحمل الجمهورية الجديدة تغييرات جذرية وجوهرية فى طبيعة النظام السياسى ومؤسساته، تقتضى إعادة النظر فى الدستور الحالى والمؤسسات السياسية، او النظم الانتخابية او الادارات المحلية.

بمعنى ما الذى ستكون عليه الجمهورية الجديدة، وما الفرق بينها وبين ما سبقها من أنظمة الحكم القائمة منذ إعلان سقوط الملكية وقيام النظام الجمهورى فى 18 يونيو 1953، وحتى ثورة 30 يونيو 2013؟، وهل ستشكل امتداداإصلاحيا لهذه الأنظمة، او ستكون بداية قطيعة مع ما سبق وإعادة بناء جديد يتسق مع تطورات الواقع وقفزاته السريعة المتلاحقة، بعد عقود من الضعف والترهل والخمول والسكون عاشتها مصر، وانتجت واقعا سياسيا مضطربا مظلما، وانهيارااقتصاديا كارثيا، ونمطا اجتماعيا وثقافيا يجافى كل القيم الاجتماعية والإنسانية والأسرية المصرية؟.

وهل سيتم ذلك فى ظل سياق مصرى خالص، أو أنه سيتم من خلال الاستفادة من تجارب إنسانية وسياسية عاشتها شعوب أخرى، سبقت تجربتها التجربة المصرية مثل التجربة الفرنسية الأهم والأبرز والأقرب فى هذا السياق.

الواقع ان مفهوم تعدد الجمهوريات داخل النظام السياسى لدولة واحدة يرجع فى المقام الأول إلى تاريخ الحياة السياسية الفرنسية، والتى عرفت خمس جمهوريات بداية من الثورة الفرنسية وصولا إلى الجمهورية الخامسة القائمة حتى الآن فى ظل دستور 1958، وهى جمهوريات ارتبطت فى المقام الاول بتغييرات سياسية عميقة داخل المجتمع الفرنسى، سواء لأسباب ثورية داخلية او لاعتداءات وهزائم خارجية كارثية، وفى كليهما كاد الأمر أن يؤدى بإنهاء وجود الدولة الفرنسية ذاتها سواء فى شكلها الامبراطورى أو الجمهورى.

فالجمهورية الفرنسية الاولى تأسست عام 1792 فى أعقاب اندلاع الثورة الفرنسية وإعلان سقوط أعتى الملكيات الأوروبية، وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة مارى انطوانيت.

وانتهت هذه الجمهورية الأولى بإعلان نابليون بونابرت نفسه القنصل الأول لفرنسا، وعكست هذه الجمهورية تحولات عميقة وجذرية تجاوزت فرنسا إلى العالم اجمع بما فى ذلك مصر، من خلال الحملة الفرنسية ونتائجها على تاريخ مصر الحديث.

كما دفعت الثورة الفرنسية الأنظمة الملكية فى أوروبا إلى التحالف ضدها خشية من امتداد آثارها، ونجحت بعد هزيمة نابليون فى إعادة الملكية إلى فرنسا مرة أخرى، ولكنها لم تستقر بعد أن غرست الثورة الفرنسية قيمها وشعاراتها فى نفوس الفرنسيين، وتعددت الثورات حتى نجحت الثورة الثالثة عام 1848 فى إسقاط النظام الملكى، وأعادت تأسيس الجمهورية الثانية التى انتخب لويس نابليون رئيسا لها، ولكنها لم تدم طويلا فسرعان ما انقلب لويس على النظام الجمهورى وأعلن نفسه امبراطورا على فرنسا عام 1851 منهيا الجمهورية الثانية الوليدة.

لكن روح الفرنسيين التواقة إلى الجمهورية وشعارات الحرية والمساواة والاخوة ظلت مشتعلة، حتى واتتها الفرصة لتثور من جديد فى أعقاب الهزيمة المذلة للإمبراطور الفرنسى نابليون الثالث امام بروسيا، والتى انتهت بأسره شخصيا واستيلاء الجيوش البروسية على إقليمى الالزاس واللورين عام 1870، فثار الفرنسيون لكرامتهم الوطنية وتم إسقاط النظام الإمبراطورى وأعلن قيام الجمهورية الفرنسية الثالثة.

ظلت الجمهورية الفرنسية الثالثة قائمة لمدة سبعين عاما تقريبا، حيث سقطت فى أعقاب اجتياح الالمان النازى لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية واستيلائهم على باريس، واعلان الحكومة الفرنسية استسلامها فى 22 يونيو 1940.

وبعد أن قاد الجنرال شارل ديجول حرب التحرير الوطنية، أعلنت الجمهورية الفرنسية الرابعة فى 13 اكتوبر 1946 بعد انتصار الحلفاء، ووضع دستور 1946.

ورغم النمو الاقتصادى الملحوظ إلا ان الجمهورية الرابعة شهدت معاناة شديدة للشعب الفرنسى وللدولة الفرنسية، بسبب الاضطرابات السياسية والانقسام المجتمعى الحاد، حتى شهدت فرنسا فى خلال 12 عاما هى عمر الجمهورية الرابعة أكثر من 21 إدارة للحكم، وبات المجتمع الفرنسى على شفا حرب اهلية مع تصاعد الأزمة الجزائرية وتهديد الجيش الفرنسى باستيلائه على السلطة لمنع انهيار الدولة والحيلولة دون نشوب الحرب الاهلية، وبالفعل تم استدعاء جنرال جيش التحرير الوطنى والأب الروحى شارل ديجول لتولى مسئولية الحكم.

وهى ذات المعاناة التى مرت بها مصر خلال فترة حكم الرئيس المعزول مرسى وجماعة الاخوان، حيث باتت البلاد على شفا حرب أهلية تهدد وحدتها وتماسكها نتيجة ممارسات الاخوان الإقصائية القائمة على القوة والعنف والترويع ضد المعارضين لها، وقمع المظاهرات الشعبية السلمية الرافضة لمحاولتها أخونة الدولة وتغيير الهوية الوطنية للبلاد والسيطرة على مفاصل الحكم، لاسيما مع استمرار غياب الامن عن الشارع المصرى، وتردى الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الأزمات الغذائية وارتفاع أسعار السلع والخدامات، والعجز الكبير عن توفير الكهرباء ومصادر الطاقة المختلفة.

وفى مايو عام 1958 شهدت الجمهورية الفرنسية الرابعة أزمة سياسية عنيفة فيما عرف بأزمة الجزائر، فى وقت كانت تعانى فيه فرنسا الدولة والأمة انقساما مجتمعيا وسياسيا حادا، وفشلت القوى السياسية المختلفة فى معالجة هذه الازمة، وتصاعدت الانقسامات وبات النظام السياسى الهش على وشك السقوط فى دوامة الحرب الاهلية، خاصة بعد ان هدد الجيش الفرنسى بالتدخل للحفاظ على وحدة الدولة، واستولى بالفعل على السلطة فى الجزائر وفى جزيرة كورسيكا وهدد بالزحف إلى باريس، وطالب الجيش والشعب بعودة شارل ديجول للحكم.

ولم يختلف الأمر كثيرا فى مصر، التى شهدت ازمة سياسية عميقة، خاصة بعد صدور الإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر 2012، والذى منح الرئيس المعزول سلطات مطلقة، وحصن إعلاناته الدستورية والقرارات والقوانين الصادرة عنه من الرقابة أو الطعن عليها بأية طريقة قضائية، وحرم القضاء من ممارسة دوره بمنعه من اختصاصه بنظر دعاوى حل مجلس الشورى او الجمعية التأسيسية لوضع الدستور والتى هيمنت جماعة الاخوان عليها، لينفرد المعزول بجمع كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بين يديه، وهو ما أدى لانقسام سياسى ومجتمعى حاد، وهدد تماسك الوحدة الوطنية، فى ظل تصاعد أحداث الفوضى والعنف وسقوط عشرات القتلى فى القاهرة ومدن القناة وامام الاتحادية.

وفى فرنسا لم يكن هناك مفر امام الفرقاء السياسيين من أحزاب ومجلسى البرلمان والرئيس كونتى سوى استدعاء الأب الروحى للفرنسيين جنرال حركة التحرير الوطنى صاحب الفضل فى الاستقلال، وبالفعل عاد ديجول ليتسلم السلطة بناء على إرادة الشعب والجيش.

وكما يروى فى مذكراته «الأمل» بان فرنسا كانت سائرة نحو الهلاك، وأن البلاد كادت ان تقع فى مغامرة تؤدى بها إلى حرب أهلية، يسعى الأجانب لإشعالها، مالم تقم سلطة عليا من خارج النظام السياسى القائم ومن خارج الفئة التى كانت تتهيأ للإطاحة به، كان يرى ان فرنسا فى حاجة لقيادة قوية لإنقاذها تتولى تجميع الرأى العام وتتسلم السلطة وتقوم كيان الدولة.

وكما حدث فى فرنسا، تدخل الجيش فى مصر لحماية الدولة من السقوط، فأصدر فى 8 ديسمبر بيانا يحمل الأطراف مسئولية تردى الأوضاع مطالبا إياها بالحوار ومحذرا من انه لن يسمح بسقوط الدولة وانتشار الفوضى ومؤكدا على انحيازه للشعب.

وفى محاولة لإنقاذ الموقف التقت قيادات الجيش فى 22 يونيو بالرئيس المعزول بقصر القبة بحضور وزير الدفاع عبد الفتاح السيسى، حذروه فيه من تصاعد حدة الانقسام فى البلاد وان المؤسسات الكبرى فى طريقها للانهيار وطالبوه باتخاذ إجراءات تسمح للبلاد من الخروج من أزمتها العنيفة من خلال تشكيل حكومة جديدة برئاسة شخصية وطنية مستقلة لإدارة المرحلة لحين إجراء الانتخابات البرلمانية وتشكيل لجنة محايدة لإجراء تعديلات دستورية للمواد المرفوضة شعبيا، واجراء استفتاء شعبى على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومنح الجيش مهلة أسبوع لجميع الأطراف لحل الازمة.

وعلى عكس ما حدث فى فرنسا والتى قدم فيها الرئيس والأحزاب ومجلسا البرلمان مصلحة البلاد حماية لها من شبح الانقسام والحرب الاهلية، تمسك المعزول وجماعة الاخوان بالسلطة غير عابئين بالمخاطر التى تدفع البلاد لنفق الدخول فى حرب أهلية.

 

وكما تروى المذكرات، فإن ديجول الذى رفض فى يونيو 1940 بعد اعلان استسلام فرنسا للنازيين إعلان استسلامه وتحمل عبء المقاومة، لبى وحده وهو شبه مجهول نداء الوطن الخالد المحروم من أى نصير لينقذ شرفه وروحه ويتولى مسئولية مصير فرنسا.

لذلك لم يكن بعيدا عليه فى مايو 1958 عشية رؤيته تمزق الأمة الفاجع، واضمحلال النظام المسئول عن الوضع الراهن ان يضطر لتسلم زمام مصير البلاد، رغم كونه مجردا من أى وسيلة باستثناء شرعية استمدها مباشرة من الأمة والجيش.

كان ديجول يرى انه امام خيارات متعددة، اما التدخل الفورى للقضاء فى المهد على الفاجعة المتوقع حدوثها، او الانتظار مع توقع تزايد العنف والذعر والارهاب فى كل انحاء فرنسا، وكان السؤال الأصعب: هل يتدخل بالمبادرة فقط لإعادة سطوة السلطة وتهدئة الشعب والجيش من خلال تسوية تخفف لحين من وطأة القلق الناجم عن قضية الجزائر ثم الانسحاب من الحكم بعد ان يكون مهد الطريق

من جديد امام نظام سياسى بغيض؟ او ينتهز الفرصة التاريخية كى يزود الدولة بمؤسسات تعيد اليها بشكل يتناسب مع العصر الحديث الاستقرار والاستمرار اللذين حرمت منهما منذ مئة وتسعة وستين عاما؟

هل سيلجأ بعد ذلك لتحقيق الهدف الذى يستطيع تحقيقه، بل ويجب ان يحققه بعد حل مسألة تصفية الاستعمار، وهو إجراء التحويل الاقتصادى والاجتماعى فى فرنسا فى ظل عصر العلم والتكنولوجيا، وما سماه «اعادة استقلال سياستنا ودفاعنا، وجعل من فرنسا بطلة اوروبا بأكملها، واعيد اليها فى العالم كله، ولاسيما لدى العالم الثالث المكانة والاشعاع اللذان تمتعت بهما عبر القرون».

وهو ذات ما أدركه الرئيس السيسى خاصة بعد لقائه فى 24 يونيو بالكتانتى وخيرت الشاطر، والذى أكد فيه لهما ان الجيش بذل كل المساعى لحل الازمة، بما فى ذلك دعوته لمائدة حوار بين الجميع، وأن جماعة الاخوان أغلقت الطريق امام كافة دعوات الحوار، مشيرا إلى ان التحذير الأخير كان هدفه حث الجميع على انقاذ الموقف من غضب الشعب وثورته المتوقعة فى 30 يونيو، قائلا «ان الشعب واجه على أيديكم القتل والمرض والجوع والخراب بدلا من الرخاء، وان الجيش لا يخاف من احد سواء من الميليشيات او امريكا، ولن يسمح الجيش بسقوط الدولة او اذلال الشعب».

والحقيقة انه حينما قرر ديجول قبول المهمة كان يدرك مدى التحديات والعقبات فى طريقه سواء ما تعلق بذاته او ما تعلق بالواقع فيقول.. «مهما كانت قساوة العقبات التى سأجدها حتما لدى شعبنا، الدائم الحركة، ومهما توخت جميع ملكاته السياسية والفكرية والاجتماعية ان تعاكس بها اتجاهى، واخيرا رغم المقاومة التى ستبديها الدول الاجنبية ضد احياء سطوة فرنسا، فإننى سأتولى فى سبيل خدمتها تحقيق هذا المطمح القومى الكبير... ويجب بادئ ذى بدء تسلم زمام الحكم فى الدولة.

ويرى ديجول ان فرنسا كان يمكن ان تجنب نفسها وشعبها ونظامها الوصول لهذه الازمة الخطيرة منذ فترة مبكرة، مشيرا إلى انه حاول خلال التصويت على دستور 1946 حث الجميع على النظر إلى ما يجب ان يكون عليه دستور الجمهورية الرابعة ولكن لم يسمع احد، وكيف حاول بعد التصويت على الدستور ان يجمع الشعب الفرنسى حول مصلحة فرنسا الرئيسية والدائمة والتوصل إلى نظام جديد، ورغم دعم كافة الاوساط وخاصة المتواضعة فى جميع المحافظات واقاليم ما وراء البحار له، الا ان تصلب الاحزاب العنيف والمنسق وموقف النقابات العدائى وغيرهم رغم تعارض مصالحهم، فإنهم كانوا يخشون مشروعاته المتعلقة بالإصلاح الاجتماعى، بالإضافة لحقد الغالبية الكبرى من الصحافة الباريسية والاقليمية والاجنبية.

وربما هذه الأفكار التى انتابت ديجول، كانت مبعث قلق لدى السيسى الذى التقى فى 26 يونيو بالرئيس المعزول لمدة ثلاث ساعات فى محاولة أخيرة لحل الازمة، واتفقا على ان يتضمن خطاب المعزول الذى سيلقيه فى مساء ذات اليوم الإعلان عن خطوات محددة لحل الازمة، تشمل تشكيل حكومة جديدة برئاسة شخصية وطنية مستقلة، والاعلان الفورى عن لجنة لإجراء تعديلات دستورية خلال شهر من تشكيلها، واجراء استفتاء شعبى على اجراء انتخابات رئاسية مبكرة، والدعوة لتحقيق المصالحة الوطنية بين المصريين.

ولكن جاء خطاب المعزول ليؤكد انه وجماعته مصرون كما قال بيان الخارجية الامريكية على عدم الاصغاء لأصوات الشعب المصرى.

ويضيف ديجول انه أدرك ان الانفجار بات قريبا، فقرر ان يدخل المعركة خاصة بعد ان دعمت الجماهير بشدة موقف الجيش الفرنسى ضد الجهاز الحكومى وحظى بتأييد المواطنين الساخطين، بينما كانت الحكومة تبدى ارتباكها وعجزها، وأضحى الأمر برمته كأن فرنسا والفرنسيين سائرون مباشرة نحو الهلاك.

ولقد كان ديجول مصيبا فى موقفه، فقد بدأت قطاعات كثيرة من الشعب الفرنسى تفكر فيه، يحدوهم الامل فى تمكنه من تجنب فرنسا وشعبها الانزلاق فى اعمال حربية مباشرة، فى الوقت الذى كانت يزداد فيه غضب الشعب الثائر فى مواجهة الحكومة، مع تزايد المخاوف من استعمال السلاح ضد المتظاهرين.

ويرى ديجول انه اضطر إلى اصدار بيان 15 مايو للشعب الفرنسى أكد فيه ان انحطاط مركز الدولة الفرنسية سبب هذه المحنة التى تهدد البلاد، محملا مسئولية ما حدث لنظام الاحزاب وتصارعها على السلطة والانفراد بها، مؤكدا عزمه على معالجة الاوضاع الراهنة واستعداده لتسلم زمام سلطات الجمهورية.

وقوبل البيان بدعم شعبى هائل وبتأييد الجيش المطلق له، بينما رفضت الاحزاب السياسية التى يرى ديجول انها اتخذت ضده موقفا صلبا ولكنها كانت مجرد شكليات لا تأثير لها على الارض، فالأحداث كانت تتسارع فى الواقع والموقف يتدهور إلى حد التمزق القومى، ولم يبق للقضية أى مخرج سوى فى شخص ديجول، حيث اخذت تتكون كل ساعة تأييدات واندفاعات كثيرة إلى ركابه، ولم يعد سوى سؤال واحد فى الواقع مطروح على الجهاز السياسى القائم هو معرفة كيفية تخليه عن الحكم؟

ويتشابه الموقف كثيرا مع مصر، خاصة بعد ان احتشدت الملايين يوم 30 يونيو فى الشوارع والميادين فى كل انحاء مصر، للمطالبة برحيل المعزول وجماعته عن الحكم معلنة اسقاط شرعيته، وتطالب السيسى والجيش باستلام زمام الأمور، ما دفع القيادة العامة للقوات المسلحة للانعقاد فى 1 يوليو وإصدار بيان امهلت فيه مرسى 48 ساعة لإنهاء الازمة والا أعلنت خارطة طريق للمستقبل بمشاركة جميع الاتجاهات والاطياف الوطنية دون اقصاء لأحد.

وفى فرنسا كان الحرص الأهم على وحدة البلاد، فمع تصاعد التوتر خاطب رئيس الجمهورية "كونتى" الامة، داعيا الجميع إلى عدم ارهاق الوطن بالانقسام، فى محاولة لتهدئة غضب الشعب والجيش، خاصة ان وزير داخلية الحكومة حول باريس لثكنة عسكرية، بينما كان ديجول يعلن للفرنسيين سعيه لإعادة السلطة والثقة الوطنية إلى الدولة الفرنسية، واتخاذه الاجراءات اللازمة لتأليف حكومة جمهورية تستطيع ان تضمن وحدة البلاد واستقلالها.

وفى مصر كان الجيش المؤتمن على وحدة البلاد وتماسكها يخطو الخطوة الأخيرة لوضع حد للازمة، ففى 3 يوليو التقى السيسى بالدكتور احمد فهمى رئيس مجلس الشورى، وطلب منه ان يذهب للرئيس المعزول ومعه الدكتور سليم العوا لإقناعه بالموافقة على الاستجابة لطلب الشعب بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ولكنه وجماعته رفضوا وتمسكوا بعنادهم فى مواجهة مطالب الامة، ولم يكن هناك حل اخر لإنقاذ البلاد من الانزلاق لأتون الحرب الاهلية، وبالفعل استجاب الجيش لدعوات الامة، وفى مساء ذات اليوم وجه السيسى بيانا للامة باسم القوات المسلحة اعلن فيه خارطة طريق الفترة الانتقالية.. وتنفست الملايين الصعداء، فقد انزاحت الغمة وذهب شبح الحرب الاهلية إلى غير رجعة.

ويقول ديجول «وإذا كان انتهاء هذه الفترة قد ترك غما وكربا فى نفس الكثيرين الذين كانوا ابطالها، فقد ساد البلاد على النقيض من ذلك شعور ارتياح عظيم، لأن عودتى أعطتها انطباعا بأن النظام الطبيعى قد استتب، وسرعان ما تبددت سحب العاصفة التى كانت تغطى الأفق الوطنى، وبما انه قائد سفينة الدولة يسيرها بنفسه، أصبح كل انسان يشعر انه من الممكن ايجاد حل للقضايا العويصة التى تجابه الأمة.. وهأنذا مقيد كما كنت فى الماضى والحاضر والمستقبل فى سبيل التخلص من النكبة، وهأنذا مرغم دائما على العمل بدافع الثقة التى منحنى اياها الشعب الفرنسى، وترانى ملزما ان اكون ذلك الديغول الذى يعزى اليه شخصيا كل ما يحدث فى داخل البلاد وخارجها.. إلى حد ان كلمة او حركة تصدر عنه، ولو كانت اسندت اليه خطأ تصبح موضع نقاش فى جميع المجالات، يا له من مركز سام يتبوأه الزعيم.. ويا لها من سلسلة ثقيلة تقيد الخادم».