رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

والله لسه بدري يا خال



«هو الربيع، وتلك طيور الربيع، عند عين الماء،  تطلب الماء، أحب الموت، وكلما أجدنى على حافته أحب الحياة. أحب الحياة، وكلما أجدنى فيها أعرف أنها الموت، ثمة زهور سوداء بالعالم.. ثمة زهور سوداء.. ثمة ظهور بيضاء بالعالم ..ثمة زهور بيضاء» لعل كلمات القاص المبدع «يحيى الطاهر عبد الله»

-3/4/1938 -9/4/1981- الذى مات فى نحو الأربعين من عمره فى حادث مأساوى قبل نحو 34 عاما لا تصفه هو نفسه فحسب، بل تصف كذلك ابن جيله وبيئته الصعيدية وصديقه  وأباه  الروحى «عبد الرحمن الأبنودى» -11/4/ 1938 – 21/4/2015- الذى تشاء الصدف المدهشة أن يولد معه فى نفس الشهر ونفس العام، بفارق ثمانية أيام فقط بين يومى مولدهما، وأن يغادر الحياة مثله فى نفس الشهر، بفارق بينهما اثنى عشر يوما، فى الربيع ولد يحيى الطاهر والأبنودى، وفى الربيع  فارقا معا الحياة، ولو لم تكن تلك ارادة الله ومشيئته، لحسبتها اتفاقا فيما بينهما على ذلك، من فرط المحبة الصادقة التى كانت تجمعهما معا، وبرغم التقارب العمرى بينهما، فقد كشف الدور الذى لعبه الأبنودى فى حياة يحيى جانبا من شخصيته  الحنونة الآسرة، وهو أنه جعل من نفسه عونا لمن لاعون له، فكان بالنسبة له الأب الذى ينصح ويحذر ويحاسب وينظم نزقه وغطرسته وجنونه وشططه ويحتوى ثورة غضبه الدائمة، ويغدق عليه فى نفس الوقت من حنان قلبه الدائم، وولعه الذى لا ينفد بأن يشيع المرح وأجواء الأنس على  كل من حوله، ورقة مشاعره، ومكنون روحه، ما يمنح يحيى الثقة التامة، أنه حين تحاصره المشاكل، ويستبد به الحزن والألم، فهو حاضر يفتح له الأبواب المغلقة، ويمهد له الطرق الشائكة، أيا كانت المشقة التى يتحملها من أجل الوصول إلى ذلك.
بهذا المعنى كانت الصداقة تشكل محورا مهما من محاور شخصية الأبنودى، وفى القلب منها كانت علاقة الأبوة والبنوة التى ربطته بيحيى الطاهر، والتى اكتست بتوقه الدائم للبحث عن الموهبة والجمال والعدل والانصاف، فقد تيم الأبنودى بلغة يحيى الطاهر الساحرة، وخياله الأسطورى الفياض، ووصفه بأنه أصدق من عبر  فى الأدب عن الصعيد بلا منافس،قياسا لما كتبه عن عالم الجنوب طه حسين ويحيى حقى، وظل دائما عند رأيه أن الحياة لم  تكن منصفة مع يحيى، ليس فحسب بسبب رحيله المبكر فى أوج توهج موهبته العبقرية، ولكن أيضا بسبب المنافسات البغيضة التى عادة ما تعمى القلوب وتظلم الضمائر، فتدفع نحو اسدال ستائر من النسيان والتجاهل المتعمدين  على أدبه!
ولأن الأبنودى يشكل المعادل الموضوعى ليحيى فى عالم الشعر  ،لكونه أصدق من عبر على الاطلاق، ودون منافس، بموهبته الشعرية  الفذة  والفريدة، عن  عالم الصعيد البائس، وأجوائه وأفراحه وأحزانه، بما يمكن معه القول أن صيحة أمير الشعر العربى أحمد شوقى القائلة أخشى على الفصحى من «بيرم» تنطبق حرفيا على الأبنودى، الذى نجح فى نقل اللهجة الصعيدية عبر شعره لتبدو وكأنها لغة مستقلة بذاتها، وكان انتشار شعره على نطاق واسع منذ صدور ديوانه الأول «الأرض والعيال» عام 1962، الذى أهداه إلى قريته «أبنوب»  وحتى  ديوانه الأخير «مربعات الأبنودى» وذيوع أغانيه العاطفية والوطنية بين مختلف فئات الشعب المصرى والعربى، دليلا حيا على الدور الذى لعبه شعره فى توحيد المشاعر الوطنية،والارتقاء بالوجدان الإنسانى وبذائقة الأوساط الشعبية الفنية ،بما لا يجعل  من قبيل المبالغة القول إن شعره العامى بات منافسا للفصحى، وبالذات  لدى الجمهور العادى، من فرط بساطته وتفرد أسلوبه، وحلاوة مفرداته، وعمق معانيها، واقترابه الحميم من أحزان والآم وأوجاع وهزائم وأفراح وانتصارات الناس، لهذا لم يكن غريبا أن يصبح عبد الرحمن الأبنودى، هو أول من اكتسب شهرته الجماهيرية الواسعة بصفته شاعرا، قبل أن يدخل تجديداته المهمة على صور وشكل وأسلوب  الأغنية العربية، التى غدا واحداً من أبرز مجدديها، وبفضل موهبة الأبنودى الخصبة المتجددة والمتنوعة، فقد اصبح إلقاؤه لقصائده بصوته  المعبر وأدائه التعبيرى الساحر المتفرد المحبب إلى النفس، الذى تجلى فى ارتفاع وانخفاض نبرات صوته، وتبدل قسمات وجهه،بين الفرح والغضب، وتنقل حالته الوجدانية بين التوتر والانبساط، والتعجب والاندهاش، موهبة مضافة إلى نظمه للشعر، أتاحت لمستمعيه، حالات وجدانية رائعة من  أسمى ضروب

النشوة والبهجة والفرح.
دعم الأبنودى قوة حضوره الشعرى، برحلة شاقة مضنية للتعلم والتثقف وحصد المعرفة، فلم يستنكف وهو الشاعر المعروف الذائع الصيت، أن يجلس فى مقاعد الدرس مع من هم فى مقام ابنائه، من أجل استكمال تعليمه الجامعى، فضلا عن أنه استقى من معرفته الواسعة بخبايا النفس البشرية عبر التجارب  المرة والحلوة التى خاضها، قدرة طالما ميزت شخصيته، هى الاهتمام العطوف بشئون الناس، سواء عبر الاتصال المباشر معهم، وإلقاء الضوء فى شعره،على مواطن الجمال الكامنة فى حكاياتهم المجهولة والتعبير الشجى عن معاناتهم، أو بالاتصال المباشر بالرأى العام فيما يقوله شعرا، وبهذا المعنى لم يكن الأبنودى يوما من هؤلاء الشعراء الذين يكتفون  بالانكفاء على النفس،والتأمل فى أعماق الذات كى يقدروا على مواصلة الابداع. حين سألته يوما ما رأيك يا خال  فيمن يقولون: من خصامنا مع الآخرين نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر؟ ضحك ضحكته الرائقة الصافية مجيبا: من خصامى مع الظلم والفقر والقبح والاستبداد والشر والظلام، كتبت قصائدى، وما لم يقله الأبنودى فى هذا السياق، أن تواضعه الجم، الذى كان سمة أساسية فى سلوكه الشخصى، قد أثرى بدوره عالمه الشعرى، وأضاف إليه، ودفعه لأن يعترف بأنه كان محظوظا لأن صديقه يحيى الطاهر لم يكن شاعرا، لأنه لو كان كذلك، لشكل خطرا على مشروعه الشعرى،بسبب انتمائه مثله إلى الصعيد،المنهل الذى اغترفا من حكاياته وأشخاصه ومفارقاته وأساطيره وأشواقه وأحزانه، وأفراحه ليصوغ كل منهما مشروعه الأدبى.
فى قصيدته «عدودة» التى كتبها فى رثاء يحيى الطاهر عبدالله، قال الأبنودى: يايحيى يا عجبان وفصيح،يارقصة يا زغروته، اتمكن الموت من الريح، وفرغت الحدوتة.. وبرغم باعنا القصير، رغم الزمن مش بتاعنا، حتعيش معانا وتكبر، وحتضيع لو احنا ضعنا، وحيعيش عذابك يا خيه، قناديل وسكة وغاية، دى مش نهايتك يا يحيى، يمكن تكون دى البداية .وفى قصيدته زمن عبد الحليم قال الأبنودى: فينك يا عبد الحليم، فين صوتك اللى كان، فرح وهموم،وكان سما بنجوم، اللى طلع م القلب، عارف يعيش ويدوم.. الدنيا ريح وغيوم، الدنيا موت وسموم، ولاحد سامع صرخة المظلوم، ولا أنة المهموم، الدنيا منتظرة صوتك، ومحوشالك هم أكتر من الأيام، الدنيا منتظرة صوتك، ليه رحت قوام،ضاقت مساحة الكلام، والشوك مازل يوعد بصحبة ورد، الشوك خسيس عمره ما يوفى بعهد.. الكل راحل والجناح منحول، فى غربة تقتل قلبنا المقتول،رحل فى صوتك، أحلى ما فى صوتى، ورحل بموتك، فرحتى بموتى.
حين سمعت خبر موت الأبنودى، سالت من عينى دمعتان. ورددت إليه شعره: لاعاد حبيب ينضم، ولا عبير ينشم، ولا ضحكة ملو الفم، هربت ليه ياعم، مش كنت تنتظر الليالى الهم. وسألته :من بعدك ينصت لصرخة المظلوم، وأنة المهموم؟ وعاتبته راجية: والله لسه بدرى ياخال.