رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

هكذا تحدث طه حسين

 


لا أدرى ما الذى دفعنى فجأة للقيام فجرا من نومى تنتابنى رغبة عارمة فى البحث فى مكتبتنا، عن كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» وإعادة قراءته من جديد، والرجوع إلى ما دار حوله من معارك  طاحنة،بدأها طالب بالقسم العالى بالأزهر، حين تقدم فى الثلاثين من مايو عام 1926 ببلاغ للنائب العمومى، يتهم فيه الدكتور طه حسين أنه ألف كتابا، ينطوى على طعن فى القرآن الكريم،تحت عنوان فى الشعر الجاهلى. وبعد ذلك بنحو أسبوع، أرسل شيخ الجامع الأزهر آنذاك، للنائب العمومى،

تقريرا كتبه علماء الجامع الأزهر،عن نفس الكتاب، متهمين المؤلف، بإثارة المتدينين، والإخلال بالنظم العامة، والدعوة إلى الفوضى، وأنهوا تقريرهم بطلب اتخاذ الوسائل القانونية ضد المؤلف،لطعنه على دين الدولة الرسمى،وبتقديمه للمحاكمة. لعل السبب  فى هذه الرغبة الملحة،يعود للحلم الذى كنت استرجع فيه مشاركتى مع الصديق المسرحى «لينين الرملىى فى جنازة  طه حسين فى أواخر أكتوبر عام 1973.
كنا لينين وأنا قد تزاملنا فى الدراسة فى اكاديمية الفنون،وعملنا معا بعد تخرجنا فى إحدى الهيئات التابعة  لوزارة الثقافة وكان يرأسها الفنان الجميل المثقف  نبيل الألفى، الذى درس التمثيل والإخراج المسرحى فى باريس، وحين دخلت مكتبه استأذنه فى الإنصراف ومعى لينين للمشاركة فى الجنازة، قال لى بعد أن وافق بسعادة على الطلب: لعل طه حسين مات مستريحا، بعد ان اطمأن على أن مصر قد نجحت فى أن تتجاوز هزيمتها بالنصر الذى حققته قبل أيام من موته فى حرب أكتوبر.
كانت فكرة أن نصر الجيش المصرى فى حرب أكتوبر سوف تشفى المصريين من كل الأمراض والسلبيات تسيطر على وجدان وروح وعقل نبيل الألفى، وحين مات الكاتب المسرحى الفذ ميخائيل رومان الذى،حملت مسرحياته نبوءات وتحذيرات من الطرق التى تفضى إلى مآلات الهزائم، قبل قليل من نصر أكتوبر، كان الألفى يقول لوأن رومان عاش حتى يشهد هذا النصر، لأمد الله فى عمره،لأن الفرح  باستعادة الثقة فى المستقبل، كان سيدفعه إلى مقاومة المرض والاكتئاب، والاقبال على الحياة .
أنهيت قراءة الطبعة الأولى من كتاب «فى الشعر الجاهلى» مع مطلع النهار، فطالما فتنت بأسلوب طه حسين فى الكتابة، وفى الطريقة التى يعرض بها أفكاره، ويبرهن بها على صحة ما يذهب إليه، بمنطق عالم موسوعى المعرفة ومفكر كبير،بذل جهداً معرفياً مضنياً فى البحث والتنقيب، والمقارنة بين الروايات المختلفة،والدراسات المتعددة، كى يتوصل إلى هذه الأفكار المبتكرة والخلاقة  التى لم يسبقه أحد إليها من قبل.
وفى كتابه قال طه حسين، إنه بحث جديد فى تاريخ الشعر العربى لم يألفه الناس من قبل، وأنه مطمئن  إلى أن هذا البحث،وإن سخط عليه قوم وشق على آخرين، فسيرضى هذه الفئة القليلة من المستنيرين،الذين هم فى حقيقة الأمر، عدة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد. وقال طه حسين إنه وهويبحث فى مسألة الشعر الجاهلى، وجد أن الطريق أمام  أنصار القديم معبدة وواضحة، وأنهم أفرطوا فى العناية بالشكل وبالقشور، ولم يهتموا بالجوهر والموضوع، فقسموا العرب إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة، وقسموا كلام العرب فى الجاهلية والإسلام إلى شعر ونثر، والنثر إلى مرسل ومسجوع، ولذلك لم يغيروا فى الأدب شيئا، وما كان لهم أن يغيروا،وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلى ما قال القدماء، وأغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد فى الأدب،كما أغلقه الفقهاء فى الفقه، والمتكلمون فى علم الكلام المعنى بالفلسفة الإسلامية .
ويسترسل طه حسين فى عرض قضيته متحدثا عن أن أنصار الجديد، الطريق أمامهم معوجة، تمتلئ بالعقبات التى لاتحصى. فهم لا يريدون أن يخطوا فى تاريخ الأدب خطوة حتى يتبينوا موضعها، سواء وافق أواعترض أنصار القديم، وهم يلقون بالتحفظ والشك ما يطمئن إليه هؤلاء  القدماء  ويعتبرونه يقينا،لأن الله خلق لهم عقولا، تجد فى طرح السؤال، والشك  فى السائد والقلق من تداوله كحقائق لذة ورضا، حتى لوتعرضوا للأذى وتحملوا ما ينبغى أن يتحمله العلماء من سخط الساخطين. ولذلك درس أنصار الجديد الشعر الجاهلى وتجاهلوا إجماع القدماء بشأنه، وتساءلوا: أهناك شعر جاهلى ؟ فإن كان الجواب بنعم، فما السبيل إلى معرفته؟ وما هو؟ وما مقداره؟
وبرغم تأكيد طه حسين أنه  من محبى الحياة الهادئة المطمئنة، ومن الراغبين فى تذوق لذة العيش فى دعوة ورضا، إلا أنه يحب  قبل ذلك وبعده أن يفكر ويبحث، ويعلن على الناس ما انتهى إليه البحث والتفكير،ولا يكره بعد ذلك أن يأخذ نصيبه من رضا الناس عنه، أو سخطهم عليه إذا ساق إليهم ما يحبون أوما يكرهون، معتبرا أن اختلاف الرأى فى العلم، ما كان أبدا سبباً من أسباب البغض، إنما الأهواء والعواطف هى التى تنتهى بالناس إلى ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء.
وما انتهى إليه طه حسين من التفكير والتدبر والقراءة والبحث،هوأن الكثرة المطلقة لما يسمى بالشعر الجاهلى، ليست من الجاهلية فى شيء، وإنما

هى منتحلة ومختلقة بعد ظهور الإسلام، وهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميوليهم وأهواءهم، وأن ما بقى من الشعر الجاهلى قليل جدا، لاينبغى الاعتماد عليه فى معرفة الصورة الأدبية لهذا العصر الجاهلى، وأن ما نقرأه على أنه من شعر امريء القيس، أوطرفة، أوعنترة ليس من هؤلاء، وإنما هو انتحال الرواة، أو اختلاق الأعراب، أوصنعة النحاة، أواختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين.
ولأنه لم يكن بذلك ينكر الحياة الجاهلية، بل ينكر أن يمثلها  ما سمى بالشعر الجاهلى،فقد  نصح طه حسين  من يريد أن يدرس الحياة الجاهلية، ألا يفعل ذلك عن طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى  وزهير، لعدم ثقته بما ينسب إليهم، بل عليه أن يدرسها فى نص لا سبيل إلى الشك فى صحته هوالقرآن الذى عده أصدق مرآة للعصر الجاهلى، منتقدا من يعتقدون، أن القرآن فى حاجة إلى الشعر الجاهلى، لتصح –من الصحيح - عربيته، وتثبت ألفاظه، قائلا إذا لم يكن هناك بد من الاستدلال بنص على نص،، فيمسى الاستدلال بنصوص القرآن على عربية الشعر الجاهلى، لا بهذا الشعر على عربية القرآن، متسائلا فى ختام بحثه: أيهما أشد إكبارا للقرآن، وتقديسا لنصوصه، وإيمانا بعربيته، ذلك الذى يراه  وحده النص الصحيح الصادق الذى يستدل بعربيته القاطعة، على تلك العربية المشكوك فيها، أم ذلك الذى يستدل على عربية القرآن، بشعر كان يرويه وينتحله فى غير احتياط ولا تحفظ، قوم منهم الكذاب.. والفاسق والمأجور، ومنهم صاحب اللهووالعبث؟
بعد ما يقرب من نحوعامين من البلاغات السابقة من شيوخ وعلماء وطلاب الأزهر لامطالبة بمحاكمة طه حسين، على ما ورد فى كتابه، تقدم عضوبمجلس النواب ببلاغ آخر متهما فيه الكتاب بالتعدى على الدين الإسلامى،فى سياق الصراع الحزبى بين حزبى الوفد صاحب الأغلبية فى المجلس، والأحرار الدستوريين وكان أحد قيادته وهوعبد الخالق ثروت رئيسا للوزراء، ولأن طه حسين كان من مناصرى الأحرار الدستوريين، فحين هبت العاصفة ضده تطالب بطرده من التدريس فى الجامعة، هدد عبد الخالق ثروت بالاستقالة إذا ما تم الاقدام على ذلك.
أما رئيس نيابة مصر، فقد أنهى تحقيقه مع طه حسين،بحفظ أوراق البلاغات،لعدم توفر القصد الجنائى، بعد أن أقر فى ملف التحقيق،أن للمؤلف فضلا لا ينكر فى سلوكه طريقا جديدا فى البحث، حذا فيه حذوالعلماء الغربيين.
فى غياهب النسيان رقد اسم شيخ الأزهر «محمد أبوالفضل الجيزاوى» الذى بدلا أن ينصح علماء الجامع بالرد على ما جاء «فى الشعر الجاهلى» بكتاب آخر، طالب بمحاكمة مؤلفه، وبقى يومض بشعاع من نور فى صفحات التاريخ الوضاءة والناصعة اسم «محمد نور» رئيس نيابة مصر الذى حقق فى البلاغات.
فى رسالة من الرسائل التى بعث  بها  لطه حسين،صديقه المستشرق الفرنسى «لويس ماسينيون» بعد سيل المحن التى واجهته، واتهامه من جهلة ومبتزين بالكفر والإلحاد، وفصله من التدريس فى الجامعة، وحرمانه منذ الطفولة من نعمة البصر، ومعاركه الجسورة المستمرة لإضاءة عقل الناس، قال له فيها: فى عالم المبتزين والجبناء، تتألق شجاعتك، فتواسى العاجزين عن الاستشهاد من أجل العدل، لذلك أدعو الله أن يباركك لقاء الزكاة الروحية التى تؤديها للشعب الذى أنجبك.
ملحوظة، ليس لهذا المقال علاقة من قريب أو بعيد بالحرب التى يشنها شيوخ الأزهر ضد إسلام بحيرى!