رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الحرية لفاروق أبو عيسى وأمين مكى مدنى

يوم الاثنين الماضى، بدأت فى العاصمة السودانية الخرطوم محاكمة أثنين من قادة الرأى العام وقادة المعارضة، هما فاروق أبوعيسى والدكتور أمين مكى مدنى  اللذين وجهت اليهما السلطات تهم التوقيع على وثيقة «نداء السودان» وهى تعد من وجهة نظر هيئة الادعاء فى المحكمة، مشروعا إجراميا، يترتب عليه أضرار بالدولة واشعال الفتنة، وتغيير نظام الحكم بشكل غير دستورى، بالدعوة لمناهضة الانتخابات، للاستيلاء على السلطة بصورة غير قانونية، وهى تهم لو ثبتت تقضى بالحكم على مرتكبيها، طبقا لمواد القانون الجنائى السودانى المتعلقة بتقويض النظام الدستورى، بالاعدام أو السجن المؤبد.

ولا أدرى ما الذى سوف تجنيه الحكومة السودانية من إجراء هذه المحاكمة لاثنين من الرموز الحقوقية الدولية والإقليمية والعربية، سوى جلب مزيد من الضغوط الخارجية عليها، والرغبة فى الكيد والثأر من معارضيها، والتشكيك فى مدى مصداقية دعوتها لحوار وطنى يخرج البلاد من أزماتها المتراكمة، ويوقف الحروب الأهلية المندلعة فى الغرب والشرق والجنوب، التى تستنزف الموارد وتهلك البشر.
والرجلان محاميان مرموقان ومعروفان على المستوى الدولى، شغل فاروق أبو عيسى موقع الأمين العام لاتحاد المحامين العرب على امتداد نحو ربع قرن،كانت من أزهى عصور هذا الاتحاد وأكثرها نشاطا،تمكن خلالها من مد علاقاته بهيئات حقوقية أوروبية، وبمنظمات هيئة الأمم المتحدة ذات الصلة  بهدف دعم ومساندة القضايا العربية، كما شغل موقع وزير الخارجية الأسبق لبلاده، وشارك فى تأسيس ودعم التجمع الوطنى الديمقراطى الذى تمكن من الإطاحة بنظام «جعفر نميرى». وبعد سنوات من المنفى الاختيارى فى القاهرة، فى أعقاب  انقلاب يونيو 1989 العسكرى الذى دفع  بجناح من جماعة الإخوان إلى سدة الحكم، عاد فاروق أبو عيسى وعدد كبير من قادة المعارضة السودانية إلى الخرطوم، لمواصلة النضال السلمى الديمقراطى لبناء السودان كدولة ديمقراطية حديثة خالية من الفقر والتهميش والحروب وبيئة حاضنة لكل مواطنيها، وفى هذا السياق تولى أبوعيسى موقعه كرئيس للهيئة العامة لتحالف قوى الإجماع الوطنى التى تضم عددا كبيرا من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة. أما الدكتور أمين مكى مدنى فهو وزير سابق للإسكان، والمندوب السامى الأسبق لمفوضية حقوق الإنسان فى هيئة الأمم المتحدة لمنطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا، وعضو مؤسس فى المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ورئيس حالى لكونفدرالية منظمات المجتمع المدنى السودانية، التى أغلقتها السلطات السودانية مؤخرا، فى سياق حملتها على المنظمات الحقوقية وعدد من وسائل الإعلام والصحف، والتى انطوت على وقف الأنشطة، ومصادرة محتويات مؤسسات بحثية وثقافية واجتماعية، وإعلامية ودور نشر  وفرض عقوبات اقتصادية عليها،وتشريد العاملين بها، والمنع النهائى من مزاولة الأنشطة، وفرض الرقابة المشددة على ما تبقى يعمل منها.
وكانت السلطات السودانية قد اعتقلت أبو عيسى ومدنى فى السادس من ديسمبر الماضى مع عدد من المرافقين لهما، بعد عودتهم من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وفور الإعلان عن توقيعهما لوثيقة «نداء السودان» التى وقع عليها مجموعة من الأحزاب والقوى الثورية ومنظمات المجتمع المدنى بينهم حزب الأمة والحزب الشيوعى السودانى . ولو تأملت الحكومة السودانية فى نصوص هذه الوثيقة لأدركت أن سد المنافذ أمام حوار وطنى جاد يفضى لتغيير حقيقى، وإغلاق نوافذه بالمداهمات والاعتقالات والمصادرات والمراوغات، هو الباعث الحقيقى لاجماع المعارضة السودانية على التمسك ببنودها. فالوثيقة تلزم الموقعين عليها بإنهاء الحروب وبناء سلام عادل وشامل، ومعالجة المآسي المنتشرة فى مناطق تلك الحروب، وإجراء تغييرات هيكلية فى الاقتصاد تعمل على وقف تدهوره، وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء، واطلاق سراح المعتقلين ومحبوسى الرأى، والغاء القوانين المقيدة للحريات، وتشكيل حكومة قومية انتقالية، وتفكيك دولة الحزب الواحد عبر الحوار أو بالانتفاضة الجماهيرية. ولأن الحزب الحاكم فى الخرطوم بدلا من بناء جسور للثقة مع معارضيه، حول الحوار معهم إلى منصة لاضاعة الوقت، وصرف الانظار عن الأزمات الحقيقية التى  تعترض  طريق التغيير السلمى الديمقراطى لترهل النظام السياسى وضعفه وفساده،فقد اوصد بسياسته، نافذة الحوار الوطنى، وهو ما الجأ معارضيه إلى استحضار تجارب السودان التاريخية، التى تمكن من خلالها الشعب السودانى  بالالتفاف

حول قواه السياسية من اسقاط نظامين عسكريين استبداديين فى القرن العشرين بالانتفاضة الشعبية فى عامى 1964 و1985.
التوقيع على بيان «نداء السودان»  لا يشكل جريمة، كما قالت هيئة الدفاع عن فاروق أبوعيسى وأمين مكى مدنى، والتى فاق عدد أعضائها المائة محام، لا سيما أن الاثنين دافعا عن البيان وبنوده، واعترفا بالتوقيع عليه، ويدركان بحكم خبرتهما القانونية ،أن محاكمتهما لن تفضى إلى شىء، وأن استمرار اعتقالهما  هو شكل من أشكال المماطلة، تسىء به النيابة  استغلال  الإجراءات الجنائية، فضلا عن ترويع من يفكرون فى احتجاجات مستقبلية. وكان من المنطقى والمتوقع أن يرفض أبو عيسى ومدنى الالتماس الذى تقدمت به نقابة المحامين السودانيين لاطلاق سرحهما بسبب كبر السن، لما ينطوى عليه ذلك من استهانة بمكانتهما الرفيعة ومن انكار للمطالب العادلة التى يدافعان عنها، ويضحيان من أجلها، وتحظى بتأييد قطاعات واسعة من المجتمع السودانى، والدول الأفريقية المشاركة فى موائد الحوار الاقليمى بين الحكومة السودانية ومعارضيها.
قامتان حقوقيتان وسياسيتان كبيرتان فى حجم فاروق أبوعيسى وأمين مكى مدنى، كانا يصولان ويجولان فى كل المحافل العربية والدولية دفاعا عن الحريات وحقوق الإنسان  وعن دولة الحق والعدل والقانون، وهما الآن يحاكمان محاكمة عبثية لا أساس قانونيا لها، كنت أظن أن المنظمات الحقوقية المصرية التى ساهم كلاهما فى انشائها ودعم أنشطتها، سوف تقيم الدنيا ولا تقعدها دفاعا عن حقهما الشرعى فى  معارضة سياسات دفعت ببلادهما إلى مصاف الدول الفاشلة، وإلى حشد الدعم الدولى والعربى للدفاع عنهما، وإلى فضح التهم الواهية الموجهة اليهما، لا سيما أن الحكومة السودانية قد أرسلت خلال الأيام الأخيرة مبعوثا رئاسيا إلى القاهرة لمفاوضة الصادق المهدى للعودة إلى الخرطوم التى غادرها قبل نحو ثمانية أشهر، وهو أحد أهم الموقعين على بيان «نداء السودان» فهل يا ترى ستعتقله حال عودته، أم تستجيب لشروطه لإحداث وفاق وطنى يقود للتغيير السلمى الديمقراطى؟
الخطر الذى تتعرض له حياة المناضلين  فاروق أبو عيسى وأمين مكى مدنى خطر حقيقى، فالرغبة فى الانتقام والتشفى والثأر، دفعت نظام نميرى فى فترة ارتداء حكمه عمامة دينية إلى إعدام  معارضه «الشيخ محمود طه زعيم الجمهوريين فى السودان، والأنظمة التى تعصم حكمها من النقد باسم الدين لا تأبه عادة بحياة المعارضين، والصمت الذى يخيم على المنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب  ازاء هذه القضية يبعث على خيبة الأمل والرجاء، ليس فحسب لأنهما يتخليان عن القيام بأدوار من صميم عملهما، بل لأنهما يجعلان المواءمات السياسية تعلو فوق حقوق وحريات  اثنين من أعمدة المنظمتين ممن رفعا شأنهما فى المحافل الدولية، وهو عار لن يغفره لهما أحد!