رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

فضــيحة فى القاهرة

قبل عدة سنوات، أفاق المجتمع المصرى على جريمة زلزلت أركانه وشغلته لعدة  شهور، وفتحت على نطاق واسع، مناقشات موسعة داخل قاعة البرلمان  وخارجه وعلى صفحات الصحف، من فرط غرابتها وبشاعتها، فضلا عن المشاكل المقلقة  التى كشفت عنها، ونبهت إلى مخاطرها.

ففى قلب ميدان العتبة المكتظ بالزحام، ومواقف السيارات العامة والخاصة، والباعة الجائلين، والمواطنين الذين يرتادون حى الموسكى التجارى الملاصق له، ويتسوقون ويدخلون ويخرجون  منه بكثافة، كانت فتاة شابة تقف مع أمها واثنتين من شقيقاته، تنتظر على المحطة  الاتوبيس الذى ستستقله مع أسرته، وفجأة انقض عليها أحد الشباب وراح يغتصبها ليس فحسب على مرأى ومسمع من أمها وأختيها ومن جميع المارة، بل بمساعدة أربعة شبان آخرين من الركاب، وسط ذهول  أسرة الفتاة وعجزها عن انقاذها. وبرغم أن أمين الشرطة الذى كان يحرس المكان، تمكن بمفرده من القبض على أثنين من مرتكبى الحادث  البشع، فقد وجهت انتقادات حادة بالقصور فى أداء الأمن لمهمته، وتوجه  النقد الأكبر للمعالجات الصحفية لهذه الجريمة، وكان السؤال المحورى الذى فرض نفسه هو، من الذى انتهك عرض فتاة العتبة، هل هو المجرم المغتصب فقط، أم هو الإعلام، الذى توسع فى النشر عن الجريمة، ولا حق المغتصبة وأسرتها، ونشر صورها، والتفاصيل التى تعرضت لها أثناء حادثة الاغتصاب، وقد ساهم ذلك فى رفع توزيع الصحف التى  توسعت فى النشر  لثلاثة أضعاف توزيعها.
حدث ذلك برغم مخالفته لبعض نصوص قانون العقوبات، التى تحظر نشر أخبار  التحقيقات والمرافعات فى  قضايا الزنا  والطلاق وإثبات النسب، وتعاقب على ذلك بالحبس 6 أشهر او بدفع غرامة تتراوح بين 5 و 10 آلاف جنيه، حفاظا على الكرامة الإنسانية للأبناء ولبقية أفراد الأسر التى تضررت من هذه الوقائع.
ولنفس الأسباب، فإن أخلاقيات العمل الإعلامى، وأدبياته  فى نشر الجرائم، تحرم نشر أخبار وأسماء وصور المتهمين فى قضايا الدعارة، والطعن فى الأنساب، والأطفال الجانحين وغيرها من القضايا المشابهة، انطلاقا من المبدأ الحقوقى العريق ، إن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، ولكى لا يؤثر النشر على توجيه الرأى العام إلى اتخاذ موقف معين من القضية، استنادا إلى اعتبارات شخصية أو سياسية، أو يشكل ضغطا على القضاء الذى ينظر فيها، بما يخل بأركان العدالة، ويهدر حقوق المتهمين.
تذكرت كل هذه الأمور، وأنا أقرأ بحزن وألم وخجل، حيثيات حكم  محكمة جنح  الأزبكية الأسبوع الماضى،  برئاسة المستشار «إهاب الراهب« ببراءة 26 متهما بممارسة الشذوذ الجنسى ، فى حمام باب البحر البلدى  فى  منطقة كلوت بك برمسيس، التى  توسعت وسائل الإعلام بكل أشكالها  فى نشر أخبارهم وصورهم، وجلب رجال دين وعلم نفس ودعاة،  لنقد سلوكهم  وتحليله والتعليق عليه، وسرد المواعظ والنصوص الدينية التى تدينهم، وهم مازلوا قيد التحقيق، والحبس الاحتياطى على ذمة القضية، فى مسلسل بات متكررا، ويبدو أنه مخطط، لالهاء الناس، وابعادهم عن الاهتمام بشئون الحياة الجادة، مرة بقضية الملحدين، وأخرى بقضية الجن والعفاريت، فضلا عن معابثة نقائصهم وعيوبهم، التى ينبغى الاعتراف بأن السعى وراء النميمة، والتلذذ بترويجها، والمساهمة فى ترويج صحف وكتب الفضائح، تتصدر هذه النواقص وتلك العيوب.
وفى حيثياتها، قالت  المحكمة، إنها لم تطمئن إلى شهادة  الضابط االذى حرر الواقعة ، حيث ذكر فى التحقيقات أنه قام باقتحام الحمام ، وشاهد المتهمين يمارسون الفجور، هو وقوة الضبط التى كانت معه، بما لايستقيم مع العقل أو الواقع، ويتنافى مع تقرير الطب الشرعى الذى أثبت عدم وجود مظاهر دالة على ممارستهم للفعل المذكور، كما أن محضر المضبوطات قد خلا من

أى أدوات، بما يتعارض مع ما  أورده الضابط  فى التحقيقات من استخدام المتهمين لبعض هذه الأدوات  أثناء ممارستهم للرذيلة.
حكم البراءة جاء بعد التجريس والتشهير بالمتهمين، وفضحهم بالصوت والصورة، وكان من الطبيعى والحال هكذا، أن يعلن محامو المتهمين  أنهم سيختصمون وزارة الداخلية، لقيامها باستدعاء وسائل الإعلام لتصوير المتهمين فى الجرائم الجنسية، قبل عرض المتهمين على النيابة ، وهو ما يعد خطأ إجرائيا، يتطلب مساءلة تأديبية من الداخلية ، ومساءلة قضائية من النيابة. كما سيختصمون الإعلامية فى القناة الخاصة، التى فجرت فى برنامجها قضيتهم، وسلمت النيابة شريط فيديو، أدى للقبض عليهم.
لم يكن من باب الصدفة أن تقر المادة 71 من الدستور، إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب عن طريق النشر أو العلانية، وأن يستثنى من ذلك الجرائم التى تحرض على العنف أوالتمييز بين المواطنين أو الطعن فى أعراض الأفراد. ومن المعلوم بطبيعة الحال، أن نشر الجرائم الجنسية والفضائح والنميمة، هى من عوامل التشويق والاثارة التى تلجأ إليها، بعض وسائل الإعلام ،سعيا وراء الانتشار والرواج، ومعابثة للغرائز الدنيا لقرائها، حتى لو كان ما يسوقون له ويروجونه، محض خيال، وفبركات صحفية يلتقطونها  فى الأغلب الأعم من شبكات التواصل الاجتماعى، التى غدت ساحة خصبة لترويج الشائعات بغزارة، بهدف الالهاء من جهة، واشاعة اليأس والاحباط من جهة ثانية .
ليس من مهام الإعلام أن يرضى نزعات ساقطة لجمهوره، أو أن يشجعهم على النميمة والتلصص على عورات الآخرين، أو التنقيب عن فضائحهم، وعيوبهم،  فتلك آفات خلقية ، تتطلب من  وسائل الإعلام أن تتحلى بالمسئولية الاجتماعية وتتصدى لها بالارتقاء بذوق الجمهور، وبتدريبه وتعليمه للاستمتاع بالقيم الإنسانية  والجمالية الراقية، إذ ان  الإنسان لا يولد بذوق معين  فى المشاهدة والقراءة، بل هو يكتسب ذائقته،  بالتعلم والتراكم والتجارب والتدريب المستمر، وآنذاك لن تكون وسائل الإعلام فى حاجة إلى إدمان نسف الأدبيات المهنية والأخلاقية لنشر الجرائم، وإلى مثل هذه الأساليب  الإثارية والفضائحية الرخيصة التى تنتهك حرمة الأجساد والأعراض  تعتدى على خصوصيات البشر، وربما تؤدى إلى تحطيم حياة بعضهم، من أجل السعى للرواج والانتشار .وتحدث المأساة عندما يتبين فى نهاية  هذا المطاف الفضائحى، أنهم أبرياء، لتلحق الفضيحة بمن أوصلهم بالمبالغة، والتضخيم والتسرع  فى إصدار الأحكام قبل البدء فى المحاكمة، والرغبة المحمومة  فى السبق المهنى والإعلامى،  لهذا المصير!!