رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

كـم من الجرائم ترتكب بـاسم الشريعة

بعد أن بات انفصال الجنوب على مرمى أيام من الآن،‮ ‬جدد الرئيس السودانى عمر حسن البشير الحديث عن واحدة من القضايا التى أفضت إلى الإسراع بحدوثه،‮ ‬وتعهد وسط جمع من أنصاره بتطبيق الشريعة الإسلامية،‮ ‬وبإلغاء التعدد العرقى والثقافى فى شمال البلاد،‮ ‬وبتعديل الدستور،‮ ‬ليصبح الإسلام هو المصدر الرئيسى للتشريع،‮ ‬ولتصبح العربية لغة الدولة الرسمية،‮ ‬وسخر البشير من الذين روعهم مشهد الفتاة السودانية الى‮ ‬يتم جلدها علنا على قارعة الطريق بواسطة رجال الامن لأنها ترتدى زيا‮ ‬غير مناسب،‮ ‬ونصح من قالوا إنهم خجلوا من هذا المشهد"ان‮ ‬يغتسلوا ويصلوا ركعتين ويعودوا للإسلام"مؤكداً‮ ‬أن الحدود فى الشريعة تأمر بالجلد والقطع والقتل،‮ ‬ولن نجامل فى حدود الله والشريعة الإسلامية‮" ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬ينقص البشير سوى أن‮ ‬ينصب نفسه أميرا للمؤمنين.

‬كما فعل سلفه الرئيس‮ "‬جعفر نميرى"حين اصدر فى عام‮ ‬1983‮ ‬قوانين سبتمبر التى ألصقها زورا بالشريعة،‮ ‬ولاحق بها معارضيه قطعا وقتلا ورجما وحبسا واعتقالا،‮ ‬بعد أن نصب نفسه بمساعدة الدكتور حسن الترابى نائبه العام ووزير عدله،‮ ‬أميرا للمؤمنين،‮ ‬وهى نفسها القوانين التى مازالت سائدة،‮ ‬ويجرى العمل بموجبها حتى اليوم‮. ‬يأتى هذا الخطاب الدينى المتشدد فى وقت‮ ‬ينشطر فيه السودان الى شطرين‮ ‬،ويتهدده مخاطر مماثلة فى الغرب والشرق الوسط،‮ ‬وبتجاهل تام للطبيعة السكانية للشمال التى‮ ‬يختلط فيها العرب بالافارقة والمسلمين بالمسيحيين،‮ ‬وتتنوع فيه المجموعات الثقافية،‮ ‬وتتعدد اللغات والقبائل التى تبلغ‮ ‬فى السودان نحو‮ ‬207‮ ‬لغات،‮ ‬و583‮ ‬قبيلة‮. ‬والاستقواء بالدين‮ ‬والشريعة على المعارضة هو جزء من قاموس الاستبداد السياسي‮ ‬فى السودان وفى خارجه،‮ ‬ولعل قضية المفكر الإسلامى الجسور الشيخ محمود محمد طه‮ (‬1909‮ -‬1985‮) ‬مؤسس الفكر والحزب الجمهورى فى السودان خير شاهد على ذلك.ففى عام‮ ‬1982‮ ‬أصدرت الحركة الجمهورية بقيادته،‮ ‬كتابا عن الهوس الدينى تضمن نقدا لممارسات الحركة الإسلامية فى السودان،‮ ‬التى كانت قد بدأت تحالفها بزعامة حسن الترابى مع نظام النميرى،‮ ‬فتم اعتقال الشيخ طه هو وعدد من انصاره من الرجال والنساء،‮ ‬وحين صدرت قوانين سبتمبر،‮ ‬المعروفة بقوانين الشريعة الإسلامية،‮ ‬عارضها الشيخ فى سجنه،‮ ‬وأصدر الجمهوريون بعد خروجه من السجن،‮ ‬فى‮ ‬25‮ ‬ديسمبر عام‮ ‬1984‮ ‬بيانهم الشهير فى نقد تلك القوانين وتفنيد أهدافها الحقيقية،‮ ‬وكشفها للشعب السودانى الذى قال عنه الشيخ طه‮ ‬إنه"لا تنقصه الاصالة،‮ ‬وإنما تنقصه المعلومات الوافية‮.. ‬التى تضافرت شتى العوامل لتحجبها عنه‮".‬

أما الشيخ طه فقرر أن‮ ‬يكشف الحقائق للناس فقد خرج أنصاره من الجمهوريين إلى الشوارع والتجمعات الجماهرية‮ ‬يوزعون بيانهم‮ "‬هذا أو الطوفان‮" ‬الذى اكتسب شهرة واسعة لأنه هو البيان،‮ ‬الذى بموجبه تم اعتقال الشيخ ومحاكمته وإعدامه‮.‬

يحمل البيان الذى صاغه الشيخ طه فى الأغلب الأعم نماذج من طريقة تفكير الجمهوريين،‮ ‬فهو‮ ‬يبدأ بقوله‮ "‬غايتان شريفتان وقفنا نحن الجمهوريين حياتنا حرصا عليهما،‮ ‬وصونا لهما،‮ ‬وهما الإسلام والسودان،‮ ‬فقدمنا الإسلام فى المستوى العلمى الذى‮ ‬يظفر بحل مشكلات الحياة المعاصرة‮" ‬وحين‮ ‬يتعرض لقوانين سبتمبر فهو‮ ‬يؤكد انها شوهت‮ "‬الإسلام فى نظر الأذكياء من شعبنا وفى نظر العالم،‮ ‬وأساءت إلى سمعة البلاد فهذه القوانين مخالفة للشريعة ومخالفة للدين،‮ ‬ومن ذلك أنها أباحت قطع‮ ‬يد السارق من المال العام،‮ ‬مع أنه فى الشريعة‮ ‬يعزر ولا‮ ‬يحد لقيام شبهة مشاركته فى هذا المال‮" ‬أن هذه القوانين‮ "‬قد أذلت هذا الشعب وأهانته‮.. ‬ثم إن تشاريع الحدود والقصاص،‮ ‬لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية،‮ ‬وهى أرضية‮ ‬غير محققة اليوم‮ "‬وامسك البيان بالخطر الذى أشاعته تلك القوانين،‮ ‬حين أكد أنها‮ "‬قد هددت وحدة البلاد،‮ ‬وقسمت هذا الشعب فى الشمال والجنوب،‮ ‬وذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التى أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب‮.. ‬إن من خطل الرأى أن‮ ‬يزعم أحد أن

المسيحى لا‮ ‬يضار بتطبيق الشريعة‮.. ‬إن للمواطنين فى الجنوب حقا فى بلادهم لا تكفله لهم الشريعة،‮ ‬إنما‮ ‬يكفله لهم الإسلام‮" ‬وبعد أن طالب البيان بإلغاء قوانين سبتمبر،‮ ‬واللجوء إلى الحل السلمى والسياسي‮ ‬بدلا من العسكرى لحقن الدماء فى الجنوب"أكد البيان أن الوقت هو وقت السنة‮ (‬أصول القرآن‮)‬،‮ ‬لا الشريعة‮ (‬فروع القرآن‮) ‬منبها أن"الهوس الدينى،‮ ‬والتفكير الدينى المتخلف لايورثان هذا الشعب إلا الفتنة الدينية والحرب الأهلية‮".‬

وبسبب هذ البيان اتهم الشيخ محمود محمد طه بالكفر والزندقة والارتداد عن الإسلام،‮ ‬وفى السابع من‮ ‬يناير عام‮ ‬1985‮ ‬وقف الشيخ طه أمام هيئة المكمة التى تم تلفيقها لمحاكمته ليعلن رفضه لتلك المحكمة،لان‮ "‬القضاة الذين‮ ‬يتولون المحاكمة‮ ‬غيرمؤهلين فنيا وضعفوا اخلاقيا عن ان‮ ‬يمتنعوا ان‮ ‬يضعوا انفسهم،‮ ‬تحت سيطرة السلطة التنفيذية،‮ ‬تستعملهم لإضاعة الحقوق،‮ ‬وإذلال الشعب،وتشويه الإسلام،‮ ‬وإهانة الفكر والمفكرين والمعارضين السياسيين"ورفض الشيخ طه التعاون مع المحكمة التى تنكرت لحرمة القضاء المستقل،‮ ‬ونكلت بالمعارضين السياسيين،‮ ‬ولأجل هذا لم‮ ‬يكن‮ ‬غريبا ان تصدر حكما بإعدامه،حيث تم تنفيذ الحكم فى‮ ‬18‮ ‬يناير،‮ ‬بعد نحو عشرة أيام من المحاكمة التى وصفتها هيئات حقوقية دولية بالمهزلة‮!‬

بعد ذلك بسنوات أدلى نميرى بحديث صحفى قال فيه بالحرف الواحد‮: ‬ندم العالم كله لن‮ ‬يكفينى حين أذكر محمود محمد طه،‮ ‬ذلك الرجل الشيخ أسير آرائه العجيبة،‮ ‬لم أكن أريد قتله،‮ ‬الترابى قال لى إن محمود طه‮ ‬يريد أن‮ ‬يكون حلفا مع اليسار ضدى،‮ ‬وقال لى إن الجمهوريين قوة لايستهان بها،‮ ‬إذا اجتمع هو واليسار،‮ ‬فإنى لا محالة هالك،‮ ‬فجاء قرار إعدامه حمله لى الترابى،‮ ‬وطلب توقيعى عليه،‮ ‬وقتها كان الأمر جد خطير فى الداخل والخارج،‮ ‬وحاول الجميع اثناء محمود محمد طه عن آرائه،‮ ‬تركت القرار دون توقيع لمدة‮ ‬يومين،‮ ‬فى صباح اليوم الثالث ذهبت إليه بالملابس المدنية،‮ ‬وقلت له‮ ‬يحزننى أن تموت،‮ ‬فقط تنازل عن آرائك ولكن تحدث معى بطريقة ظننتها صلفا وقتها،‮ ‬ولكن الآن عرفت أنها كبرياء،‮ ‬وقال لى تنازل انت عن آرائك،‮ ‬أما أنا فاعلم أنى سأقتل،‮ ‬وإذا لم أقتل فى محاكمة علانية،‮ ‬سيقتلنى الاخوان المسلمون سرا‮!‬

أعدم الشيخ طه،‮ ‬بعد أن ألبس الإسلاميون فى السودان لمعارضته للنظام ثوب الشريعة،‮ ‬ليكون هو المفكر العربى الوحيد فى الدولة العربية المعاصرة الذى‮ ‬يتم اعدامه بسب أفكاره ورؤيته الدينية المستنيرة،‮ ‬واجتهاده الخلاق،‮ ‬وها هو السودان‮ ‬يتشظى وينقسم،‮ ‬ويزداد فقرا رغم ثرائه النفطى،‮ ‬بينما قيادته تبشر بتطبيق ما تزعم أنه الشريعة،‮ ‬لتبدأ فى التوالى أنباء التنكيل بالمعارضين‮!‬