رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الربيع السوداني الذي بدأ قبل الأوان!!

لأن شر البلية ما يضحك، ضحكت من قلبي، وأنا أقرأ تصريحات الرئيس السوداني المشير «عمر البشير» التي يقول فيها: إن الربيع العربي يبدأ في السودان منذ 23 عاما مع ثورة الإنقاذ، وأنه تأخر في المحيط العربي والإقليمي، ولعل ما أضحكني هو نسه السبب الذي قد يدفع مستمعيه من السودانيين للبكاء للحال الذي آلت اليه بلادهم خلا هذين العقدين المشار اليهما.

ففي ظل «ثورة الإنقاذ» الإسلامية أصبح السودان سودانين،أحدهما: في الشمال والآخر: في الجنوب، وبات مهددا بالانقسام الي خمس دول بانفصال جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وألغيت الحياة المدنية، بإلغاء النقابات والسيطرة علي بعضها، وتهميش الحياة الحزبية للأحزاب التقليدية والحديثة، واصطناع حياة برلمانية شكلية يهيمن عليها حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي سيطر علي مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة، بما في ذلك - بل في القلب منه - مؤسسة الجيش النظامي وأمسي الفقر والبطالة وعجز الموازنة والتضخم  واتساع الهوة في التنمية بين المركز والهامش، عنوانا للاقتصاد السوداني الذي تلقي ضربة قاصمة بعد انفصال الجنوب بعدما أصبح نحو 75٪ من بترول السودان المكثف لدي دولة الجنوب الوليدة، هذا فضلا عن الفساد السياسي والإداري الذي ترتب عليه خسائر فادحة للاقتصاد السوداني، لأنه يقود عمليات نهب منظم لثروات البلاد يحطم معنويات الشعب السوداني، ويفقده الثقة في المستقبل، بالإضافة الي مصادرة الصحف وإغلاقها ومصادرة الحريات الشخصية وحريات الرأي والتعبير وملاحقة النشطاء السياسيين وفتح أبواب السجون للمعارضين، ولأول مرة في تاريخ السودان المعاصر، الذي يحتفل بعيد استقلاله السادس والخمسين الشهر الجاري، تتم ملاحقة مسئولين سودانيين بينهم رئيس الجمهورية، جنائيا أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
كان العجز عن حل الأزمة الاقتصادية في ظل حكومة «الصادق المهدي» المنتخبة، هو المبرر الذي ساقه قادة الجبهة الإسلامية للانقلاب العسكري الذي قاموا به في يونيو 1989 ولعله هو نفسه العامل الأساسي الذي يسر الآن ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصير وليبيا وكان الدعم الذي حصل عليه انقلاب الجبهة الإسلامية في أيامه الأولي من الحكومة المصرية، وبعد ذلك من حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية هو الذي رسخ أقدام هذا الانقلاب الذي ازدادت في ظله الأزمة الاقتصادية اختناقا، بعد مرور 23 عاما علي وقوعه، إذ بلغ حجم الدين الخارجي في نهاية عام 2010 نحو 37.5 مليار دولار من المتوقع أن يزيد بعد انخفاض صادرات النفط التي اعتمد عليها الاقتصاد السوداني بشكل أساسي وبعد انتقال نحو 33٪ من الثروة الحيوانية ونحو 44٪ من الأيدي العاملة ونحو 65٪ من ثروة الغابات الي الجنوب بعد انفصاله ووصول نسبة التضخم الي نحو 14.2٪ وارتفاع الأسعار ومعدلات الفقر، والانهيار التام الذي لحق بالطبقة المتوسطة وتدهورت الخدمات العامة التي دفعت ملايين السودانيين الي الهجرة خارج بلادهم بحثا عن الرزق وفرص أفضل للحياة.
لم يفلح خطاب قادة «ثورة الإنقاذ» المزدوج في إنقاط الاقتصاد السوداني من التردي والتدهور والفشل، ففي بداية «ثورتهم الإسلامية» أعلن قادة الإنقاذ أن حكمهم سيركز علي المسألة الزراعية ليحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء ورفع شعار: «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع» وهو الشعار الذي حوله الشعب السوداني بعد سنوات من الفشل الاقتصادي الي «نضحك مما نسمع»، وبعد أن شن قادة «ثورة الإنقاذ الإسلامية» في بداية عهدهم هجوما ضاريا علي المؤسسات الدولية المانحة للقروض والمساعدات، استجابوا لكل شروط صندوق النقد الدولي، التي سبق أن وصفوها بأنها شروط سياسية تستخدم للتدخل في الشئون الداخلية للدول، فرفعوا الدعم عن السلع الغذائية الرئيسية وسعّروا الخدمات العامة، وتمادوا في الالتزام بقواعد السوق الحرة في تحرير الاقتصاد  وخصخصة مؤسسات الدولة التي التهم الفساد عوائدها ودفع صندوق النقد الدولي الي وصف السودان بأنه دولة غير متعاونة، برغم الإذعان لكل شروطه!
حاك «قادة ثورة الإنقاذ» أساطير ملفقة حول نجاحهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطعام وبينما كان الرئيس البشير يتباهي بأن السودان وأمريكا هما أكثر الدول حرية في العالم، لأنهما تأكلان مما تنتجان كانت صفقات القمح المستورد من أمريكا وغيرها من الدول تتدفق علي الخرطوم!
المعايير المزدوجة التي قامت بها حكومة الإنقاذ السودان علي امتداد 23 عاما هي نفسها التي دفعت المسئولين السودانيين لشن حملة ضارية علي الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس حكومة الجنوب «سلڤاكير» الي إسرائيل، ووصفه بأنه

معاد للعروبة والإسلام ويشكل خطرا علي كليهما، وفي شهر أكتوبر عام 1989 أي بعد أقل من 4 أشهر فقط علي استيلاء الجبهة الإسلامية القومية علي الحكم بانقلاب عسكري، عقد المجلس العسكري الذي كان يتولي شئون الحكم في البلاد اتفاقا مع الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية يقضي بترحيل 50 ألفا من اليهود الفلاشا الأثيوبيين الي إسرائيل عبر الأراضي السودانية وكان المجلس العسكري قد أوكل مهمة ترحيل الفلاشا الي العقيد الفاتح عروة وهو نفس الضابط الذي سبق أن أشرف علي عملية ترحيل 12 ألفا من اليهود الفلاشا عبر الأراضي السودانية في نوفمبر عام 1948 أثناء حكم الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري وكان الفاتح عروة قد أصبح مستشارا لرئيس المجلس العسكري آنذاك «عمر البشير» واستخدم مكتبه في القصر الجمهوري كغرفة عمليات لترحيل دفعات أخري من الفلاشا، ويستعد الكاتب الصحفي السوداني المرموق الصديق «فتحي الضوا» لإصدار كتاب جديد خلال أيام يحمل في طياته وثائق جديدة عن علاقات سرية بين حكومة الإنقاذ وإسرائيل.
ولا يخفي علي أحد أن القلق البالغ الذي أحاط بفوز التيار الإسلامي بنحو 65٪ من مقاعد البرلمان المصري، يستند في أحد جوانبه الي الشك في النوايا الديمقراطية لهذا التيار، استنادا الي ما جري في التجربة السودانية، التي تتخذ الآن من فوز الحركات الإسلامية في كل من تونس ومصر والمغرب، مددا وعونا جديدا يعزز استمرارها في السلطة، باعتبارها ترفع شعارات إسلامية، تظن أنها بمنأي عن التغيير، وبرغم أن «ثورة الإنقاذ» وربيعها الذي جاء قبل الأوان، صعدت الي الحكم بانقلاب وأن الحركات الإسلامية في دول الربيع العربي قد جاءت عبر شرعية الانتخابات، إلا أن ذلك لم يقلل من المخاوف التي تصاعدت مع نجاح الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية، ولأن حركة الإخوان المسلمين في مصر هي الأب الشرعي لكل تلك الحركات الإسلامية العربية، فعلي عاتقها وحدها دون غيرها  يقع عبء ألا تكرر تجربة الربيع السوداني، الذي تحول الي خريف باهت، يتباهي بإخفاقاته الرئيس البشير، وعلي جماعة الإخوان المسلمين بمصر أن تنهض باجتهاد جديدة ربما يقود الحركة الإسلامية في المنطقة العربية والعالم، لثورة جديدة، توائم بين مقاصد الشريعة الإسلامية ومتطلبات العصر، ولا تستقوي كما يفعل الرئيس البشير بالتيار الإسلامي الناجح، باكتساح في الصعود الي السلطة في المنطقة عبر صندوق الاقتراع ليؤكد أن الشريعة الإسلامية ستكون مصدر الدستور القادم لإقامة مجتمع القرآن في السودان، فعلي التيار الإسلامي كي يكتسب ثقة الجميع ألا يكتفي من الديمقراطية بإجراء الانتخابات وأن يتمسك بكل آلياتها التي تتمثل في القبول بمبدأ تداول السلطة واحترام التعدد الديني والثقافي والفكري والسياسي، واحترام الحريات الشخصية وأن يسعي الي توافق وطني بشأن وضع الدستور الجديد في البلاد، وأن يبني تحالفاته الجديدة بما يضمن أرضية توافقية واسعة النطاق والمجال لإدارة الشأن العام في مصر في السنوات القادمة بدلا من أن نكرر تجربة الربيع السوداني الكارثية.