إنه التمادي في نقض المواثيق والعهود
اليوم السبت ينتهي أسبوع الاستفتاء علي حق تقرير المصير لجنوب السودان، والذي أصبح مؤكداً أن نسبة التصويت فيه سوف تتجاوز 60٪ وهي النسبة المطلوبة لإعلان نتيجته نهاية شهر يناير الجاري، سواء بالانفصال أو الوحدة، وأنه لن تكون هناك ضرورة لإعادة الاستفتاء مرة أخري بعد شهرين، كما تنص القواعد القانونية المنظمة لإجرائه لأن النسبة لن تقل عن ذلك، بل المؤكد أنها سوف تتجاوزها لصالح الحق في الانفصال، بعد أن بدا للعيان حجم الإقبال الهائل للجنوبيين علي مراكز الاقتراع، سواء في ولايات الجنوب العشر أو في دول المهجر، وتصويتهم شبه العلني أمام فضائيات العالم لصالح الانفصال حاسمين نتيجة الاستفتاء حتي قبل انتهاء عملية الاقتراع، ولا يبقي سوي الإعلان الرسمي عن دولة الجنوب في يوليو المقبل، وهو الموعد الذي سينتهي فيه أجل الدستور الانتقالي الذي أقر طبقاً لاتفاقية السلام بين الحكومة السودانية وبين الجنوبيين في عام 2005.
وفي يوليو المقبل، سوف تختفي خريطة السودان كما عهدناها بعد أن تنفصل عنه ثلث مساحته لتصبح دولة الجنوب الجديدة، التي تعد عنواناً علي فشل نصف قرن من عمر الاستقلال في السودان، في أن يبدد مخاوف الجنوبيين وشكوكهم ويرفع مظالمهم تحسباً لمثل هذا المآل، الذي استخفت بإمكانية حدوثه، الحكومات العسكرية والديمقراطية والإسلامية، التي وسعت جميعها الهوة بين الشمال والجنوب بمناورات سياسية وسياسات مغامرة، وأخري جهادية تضفي علي الصراع الأهلي صبغة دينية، مما وسع نطاقه وأشاع البؤس والفقر والموت والدمار، وبدد الموارد ولم يكن في الحسبان التغير الذي طرأ علي موازين القوي في السياسة الدولية، ليس فحسب بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، ولكن أيضاً بعد زلزال الحادي عشر من سبتمبر، الذي جعل السودان كدولة، مدرجة علي لوائح الخارجية الأمريكية للدول التي ترعي الإرهاب، شأناً داخلياً أمريكيا، وهو ما قاد بعد ذلك إلي تحالف غربي أمريكي لممارسة كل ألوان الضغوط وإطلاق الوعود للتوصل إلي اتفاق نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2005، لإنهاء الحرب الأهلية، ومنح الجنوبيين حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية تمتد لست سنوات، لم تنجح حكومة الإنقاذ الإسلامية في جعل خيار الوحدة خلالها جاذباً للجنوبيين، وليس صحيحاً، فيما أظن، أن الموت المفاجئ لزعيم الحركة الشعبية »جون قرنق« هو الذي سهل خيار الانفصال، بل سهله مشروع الدولة الدينية الذي تتمسك به حكومة الرئيس البشير، فضلاً عن أن معظم القيادات العسكرية في الحركة الشعبية كان ذا توجه انفصالي، فضلاً عن أن مشروع »جون قرنق« كان يسعي إلي تحرير السودان شماله وجنوبه من الفقر والتخلف والتهميش، في إطار دولة ديمقراطية علمانية، لم يكن يهئ الظروف لها اتفاق السلام في نيفاشا، وهو ما يعني أن إجراء الاستفتاء في حياته كان سينتهي أيضاً بالانفصال.
عوامل كثيرة تراكمت عبر عقود للوصول إلي تلك النتيجة، ولعلها هي نفسها التي دفعت المواطن الجنوبي »أنتوني جوزيف« إلي عدم النوم ليلة إجراء الاستفتاء علي حق تقرير المصير للجنوب، وإلي أن يقول بفخر للصحفيين أمام مراكز الاقتراع، جئت إلي هنا في الثانية صباحاً أنا صاحب قضية، وسأصوت للانفصال، ولاسترداد حريتي من الاستعمار الداخلي، انتظرنا هذا اليوم منذ عام 1956، ولا يمكنني التأخر، فهل رأيتم عريساً يتأخر عن عروسه؟! ما العوامل التي جعلت الانفصال عريساً لمعظم أهل الجنوب، فيلخصها القاضي والزعيم السياسي البارز »ابيل الير« فيما سماه سياسات »التمادي في نقض المواثيق والعهود« فمنذ مؤتمر جوبا عام 1947 طالب الجنوبيون بنظام
يعقود من التمادي في نقض العهود والمواثيق للتنصل من منح الجنوبيين حقوقهم العادلة في ثروات بلادهم، وفي التعامل معهم وفقاً لحقوق المواطنة التي تضمنها كل مواثيق حقوق الإنسان الدولية، لكل هذا لا يحق لأحد أن يبدي دهشة من صيحات الفرح والبهجة التي تنتاب الجنوبيين الذين يشعرون بالخلاص من كابوس الاضطهاد الديني والعرقي والثقافي والاجتماعي الذي أوصلهم إلي تلك الحال، فاللوم لا ينبغي أن يقع إلا علي الذين نقضوا العهود وتنصلوا منها ويوشكوا أن يفصلوا دارفور وكردفان أيضاً.