رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

فؤاد سراج الدين.. 14 عامًا من الغياب

صورة نادرة لسراج
صورة نادرة لسراج الدين مع النحاس وحرمه وأم كلثوم

اعترف أن ذلك المشهد كان يستفزنى. هامات وقامات جليلة كانت تنحنى فى محبة لتلتقط أصابع دقيقة وتُقبلها فى سرور.

كنت صغيرا أخطو أولى خطواتى على بلاط صاحبة الجلالة عندما بدأت أبحث عن ذلك الرجل الذى يتلقى احتراما وتقديرا كبيرا ويتجاوز التسعين عاما.
قرأت عشرات المذكرات واطلعت على أمهات الكتب التى تناولت مسيرة الرجل وهالنى أن أتكشف عالما ساحرا من التضحية والوطنية صنعه هذا الرجل. وبعد سنوات من القرب والمعرفة اقتنعت تماما أن تقبيل يد هذا الرجل هو رد بسيط لما قدم وضحى ومنح لمصر والمصريين.
فؤاد سراج الدين الذى رحل عن دنيانا فى 9 اغسطس 2000  واحد من أهم وأبرز  ثعالب وأساتذة السياسة المصرية عبر تاريخها الحديث. 
على أبواب الوفد رأيته ضئيل الجسم، عملاق التأثير، يمنحنا دروسا فى النضال من أجل الديمقراطية، والدفاع عن الحريات أبدا. لم يفقد كبرياءه، ولم يبدل قناعاته، ولم يغيّر مواقفه منذ خطت قدماه عالم السياسة حتى فاضت روحه إلى بارئها.
فؤاد سراج الدين «الباشا» سليل الارستقراطية المتواضع. رجل المقاهى الشعبية. المؤمن بالبسطاء والغلابة  تلميذ مصطفى باشا النحاس، والسائر على درب سعد زغلول، وصاحب الهامة المرفوعة دائما فى وجه الطغيان والاستبداد، ورجل المواقف الصعبة، والتجارب المصيرية.
لم يعرف له موعد ميلاد محقق، خاصة أن المصريين  فى ريف مصر اعتادوا فى بداية القرن الماضى تسجيل مواليدهم بعد موعدها بفترة قد تمتد عدة شهور وقد تتجاوز سنوات فى بعض الاحيان، لكن المتاح من معلومات يشير إلى أن سراج الدين ولد فى 1910 أو ربما قبل ذلك قليلا.
كانت أسرته واحدة من ملاك الاراضى الزراعية فى بيلا بمحافظة كفر الشيخ لذا فقد تلقى تعليما متميزا تخرج على أثره عام 1930 من كلية الحقوق وعمل بعض الوقت فى مكتب النائب العام قبل أن يتفرغ لادارة شئون عائلته.
كان فؤاد سراج الدين هو الامتداد الطبيعى لنبيل السياسة الأعظم مصطفى باشا النحاس الجيل الثانى من وفديى مصر منذ توفدت، فصار الوفد دين المصريين غير المنزّل فى الاستقلال والكرامة والنزاهة، بل وأصبح الوثبة المبهرة فى تاريخهم  نحو التحرر والفدائية والبناء.
إن مبدعنا العظيم نجيب محفوظ يضع يده على ارتباط دراسة القانون بالوطنية فى ثلاثيته الرائعة عندما يختار فهمى بطل «بين القصرين» دراسة الحقوق للتعرف على حقوق مصر والمطالبة بها، وفى رواية «قصر الشوق» يحاول الأب دفع ابنه كمال عبد الجواد لدراسة الحقوق لأن هذا هو الدليل الأكبر على الوطنية.
ليس لدينا تفاصيل واضحة حول نشاط فؤاد سراج الدين السياسى فى مدرسة الحقوق، لكن ما يلفت نظرنا أن عمله بالمحاماة ومع النائب العام لخمس سنوات بعد تخرجه اكسبته قدرة فائقة على تحليل المواقف والحوار بموضوعية، فضلا عن مهارات التفاوض والتداول والتشاور.
كل ذلك أهله أن يترشح لعضوية البرلمان وعمره لم يتجاوز الستة والعشرين عاما. لقد صاحب ذلك انضمامه إلى الهيئة الوفدية فى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى حيث كان الوفد هو مصر كلها على حد وصف نجيب محفوظ.
لقد كانت اسطورة الوفد الذى دخل كل بيت وسكن كل شارع دافعا إلى نسج كثير من الحكايات الخرافية حول ذلك البناء العظيم الذى يساوى بين الوفد ومصر، حتى أنهم زعموا أن الوليد ينطق «وفد» عند ولادته وأن التمر مكتوب عليه «زغلول».
فى تلك السنوات تابع فؤاد سراج الدين، معارك النحاس باشا عن قرب، وتعلّم ثباته وصلابته وايمانه الراسخ بأنه لا بديل سوى الديمقراطية، ولا حلم مقدما على الاستقلال، ولا عمل سياسيًا بدون شرف ونزاهة. شارك الشاب الطموح فى كافة المؤتمرات السياسية، وبرع فى الخطابة، وأظهر نشاطا واضحا جعله مهيأ للصعود الصاروخى داخل حزب الشعب الجماهيرى.
لم يكن فؤاد سراج الدين مجرد نائب مجتهد، أو عضو نشط وإنما كان كتلة من المواهب دفعته دفعا نحو الصفوف الأولى فى حزب الوفد وأهلته لأن توكل إليه وزارة الزراعة فى مارس 1942 ولم يكن عمره وقتها يتجاوز 32 سنة، ولم تمض شهور قليلة حتى اضيفت له وزارة الشئون الاجتماعية، ثم الداخلية، ولما عاد الوفد مرة أخرى للحكم بعد سبع سنوات عام 1949 اختير فؤاد سراج الدين وزيرا للمواصلات، ثم اختير فى حكومة الوفد الأخيرة عام 1950 وزيرا للداخلية بالاضافة إلى وزارة المالية.
فى تلك التجارب المباشرة أظهر «سراج الدين» براعة وقدرة عظيمة فى انجاز كثير من منجزات مصر التى نجنى ثمارها اليوم . فمثلا كان أول من اصدر قانونا للعمال، وقانونا للضمان الاجتماعى. كما اصدر قانونا لتنظيم هيئات الشرطة، وأمم البنك الأهلى المصرى الذى كان انجليزيا لصالح مصر وحوله إلى بنك مركزى مصرى خالص.
والأوضح من كل ذلك دوره الرائع فى معارك الفدائيين خلال عامى 1951 و1952 ضد قوات الإنجليز فى قناة السويس. لقد كان وزيرا للداخلية فى ذلك الوقت ومسئولا عن الأمن وساعد على تهريب الأسلحة إلى الفدائيين فى قناة السويس، ولاشك أن ذلك كان سببا فى افراج حكومة يوليو عنه بعد سجنه عامين حرصا على دوره الوطنى فى دعم الفدائيين.
وفى 25 يناير عام 1952 تقدمت القوات الإنجليزية نحو مدينة الاسماعيلية وطلبت من الشرطة المصرية تسليم أسلحتها، واصدر فؤاد سراج الدين باعتباره وزيرا للداخلية قراره بعدم التسليم والدفاع عن أنفسهم وجرت معركة عظيمة استشهد فيها عدد من ضباط الشرطة وصار اليوم عيدا رسميا للشرطة.
وفى 1949 اختير «سراج الدين» سكرتيرا عاما لحزب الوفد ليدفع مع زملائه ضريبة الوطن والحرية، حيث جرى اعتقاله عشرات المرات حتى رحيله خوفا من تأثيره وشعبيته وذكائه، ففى 1952 تم تحديد اقامته واعتقاله مرتين، ثم اعتقل بعد حركة يوليو لبضعة أسابيع، ثم اعتقل مرة أخرى فى يناير 1953 لمدة ثمانية أشهر وقدم للمحاكمة عام 1954 وحوكم استثنائيا وصدر ضده حكم بالسجن 15 عاما، لكنه أفرج

عنه بعد عامين.
وفى أكتوبر عام 1961 اعتقل لبضعة اشهر ثم اعتقل مرة أخرى عام 1965 لمدة اسبوع، وتكرر اعتقاله عام 1981 فى اعتقالات سبتمبر الشهيرة.
وقد تعرض الرجل للمصادرة والاقامة الجبرية بسبب مواقفه الداعمة للحرية، كما تعرض لمحاولات تشويه وتزوير متعمد شارك فيها مختلف أجهزة الدولة بعد يوليو . والغريب أن كل ذلك لم يثبط من عزيمته لاستكمال دوره واعادة احياء حزب الوفد مرة اخرى، واستغل اعلان الرئيس السابق السادات عودة الاحزاب فقدم أوراق حزب الوفد الجديد ومعه عدد كبير من العائلات الوفدية التى حرص طوال فترة الحظر السياسى على الاتصال بها. وعندما أعلن اعادة تأسيس حزب الوفد الجديد انضم أكثر من مليون عضو، وهو ما أثار غضب وغيظ السلطات الحاكمة فأطلقت حملات تشويه متعمدة ضد رجال الوفد وقياداته.
ولم يجد الرئيس السادات بدا من اصدار قانون العزل السياسى لحرمان قيادات الوفد من العمل السياسى وتحديدا فؤاد سراج الدين ورد الحزب بتجميد نشاطه، ووقف الرئيس السادات فى خطاب شهير له عام 1978 ليزوّر التاريخ ويدعى أن زعماء الوفد كانوا يضربون بـ«الصُرم» - بتعبير الرئيس الأسبق نفسه - فى زمن الإنجليز.
ولم يصمت فؤاد سراج الدين، ولم يتخاذل، ولم يجبن وانما رد بقوة وحدة فى خطاب شهير مازال أرشيف رئاسة الجمهورية يحتفظ به، قال «سراج الدين» فى خطابه: «لقد نسبتم الينا فى خطبكم وبياناتكم المتلاحقة صفات كثيرة مثل «السقالة» «البذاءة» والرذالة ووصل الأمر الى أن ذكرتم فى خطابكم الأخير بجامعة الاسكندرية فى يوم 16 مايو بأن الانجليز كانوا يضربوننا بالصرم».
ويرد سراج الدين على رئيس الدولة بعنف: «إننا ياسيادة الرئيس لم نكن من الرجال الذين يضربون بالصرم.. ومن يحاربون الإنجليز فى معركة القناة فى عام 1951 ويطلقون الرصاص لا يمكن أن يضربوا بالصرم.. ومن يمنعون السفن الإنجليزية بالقوة من اجتياز خليج العقبة حفاظا على سيادة مصر لا يصدق عنهم أنهم  يضربون  بالصرم.. ومن يلغون معاهدة 1936 متحدين الإنجليز ولهم عشرات الألوف من الجنود فى قاعدة القناة لا يمكن أن يقال عنهم إنهم كانوا يضربون بالصرم».
ويستكمل فؤاد سراج الدين: «إن هذه الألفاظ جديدة على قاموس السياسة المصرية، وأرجو أن تصدقنى اذا قلت لك انها تترك فى مشاعر الشعب المصرى أسوأ الأثر.. إنك تدعو المواطنين لنبذ ألفاظ العيب والتمسك بأخلاق القرية، فهل من أخلاق القرية توثيق الخصم بأشد القيود وحرمانه من كافة وسائل الدفاع عن نفسه».
وفيما بعد دفع فؤاد باشا ثمن قول الحق وكتب الرئيس السادات على خطابه عبارة «يعاقب باعتقاله عند صدور الأمر» وبالفعل تم اعتقال زعيم الوفد فى اعتقالات سبتمبر عام 1981 رغم أن عمره وقتها تجاوز السبعين عاما، ويلتقى «سراج الدين» فى السجن بتيارات سياسية متنوعة، ويكتب المؤرخ صلاح عيسى عن لقاءات الباشا ومحاوراته لقادة الاسلام السياسى وغيرهم من التيارات السياسية.
إن صلاح عيسى كان مستاء من وصف «الباشا» المقترن دائما بفؤاد سراج الدين، وعندما رآه وتحدث معه، وتعلّم منه فى السجن لم يجد أصدق من هذا الوصف تعبيرا عن الرجل ذى العقلية الوطنية الواعية القادرة على التنبؤ وقراءة الأحداث قراءة جيدة.
ويقرر الوفديون بعد ذلك عودة حزب الوفد عن طريق القضاء ويحصل الوفد على حكم بالفعل عام 1984 للعودة للعمل السياسى مرة أخرى ليكرر «سراج الدين» النضال من أجل الديمقراطية والحرية، ويخوض الوفد انتخابات البرلمان عام 1984 ليحقق نتائج جيدة رغم التزوير ويكرر التجربة عام 1987 ثم يقرر الوفد مقاطعة الانتخابات البرلمانية لعدم وجود ضمانات، ويظل نضال «سراج الدين» عنوانا لمرحلة عظيمة فى تاريخ مصر، لذا لم يكن غريبا أن تخرج جموع المصريين مودعة له فى جنازة شعبية عظيمة فى اغسطس عام 2000 ليبقى حكم التاريخ أعظم وأفضل وأصدق له ولمن وفى وأعطى ومنح هذا الوطن دون حدود.